تحقيقات

العراقي لا يفهم ما يقرأ!

بيدر ميديا.."

العراقي لا يفهم ما يقرأ!

 هيفاء زنكنة

 

هل تشكل معرفة أن 90 في المئة من التلاميذ العراقيين لايفهمون ما يقرأون صدمة لمن يفتخر، عراقيا وعربيا، بالتعليم العراقي والعقول العراقية؟ وهل ما يذكره البنك الدولي في آخر تقاريره عن الوضع التعليمي في العراق وموافقته على مشروع بقيمة 10 ملايين دولار أمريكي «لدعم الابتكارات من أجل التعلم في ثلاث من المحافظات العراقية المتعثرة «، سيساعد فعلا على تعزيز ممارسات التدريس لمعلمي اللغة العربية والرياضيات، وتحسين مهارات القراءة والكتابة والحساب لدى طلاب المرحلة الابتدائية في المحافظات المنتقاة؟
لايثير تقرير البنك الدولي الصدمة لأنه لا يكشف شيئا جديدا. فالحقائق المؤلمة التي يشير اليها معروفة لكل من يتابع إزدهار التعليم ومن ثم تدهوره، بكافة مراحله، بدءا من سنوات الحصار الجائر (1991 – 2003) وحتى الانهيار شبه الكلي منذ احتلال البلد. والحقيقة التي لا يشير اليها التقرير هي أن التدهور يشمل جميع المحافظات، بضمنها بغداد التي طالما افتخر عديد المثقفين والعلماء العرب بكونهم من خريجي جامعاتها، مما أدى إلى إضعاف رأس المال البشري، وهو أساس تحقيق النمو الاقتصادي المستدام، ليشكل 15 في المئة فقط من إجمالي الثروة، وهو أحد أدنى المعدلات في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. يخلص التقرير إلى أن النظام التعليمي عاجز عن تقديم المهارات الأساسية إلى الطلاب والتي تشكل أساس التعلم وتنمية المهارات. ويعزو أسباب القصور وتفاقمها إلى ما يسميه « فترة الصراع» بالاضافة إلى جائحة كورونا وإغلاق المدارس. وأن مبلغ العشرة ملايين دولار الممنوحة، على مدى عامين، سيساعد على « تحسين نواتج تعلم القراءة والرياضيات لتلاميذ ومُدرسي مادتي الرياضيات واللغة العربية في محافظات العراق الثلاث الأشد فقراً». حسب ساروج كومار جاه، المدير الإقليمي لدائرة المشرق في البنك الدولي.
يثير التقرير، بتفاصيله، والمبلغ الضئيل نسبيا المخصص له، ومدى تطبيقه، عديد التساؤلات. إذ يكتفي، عند التطرق إلى أسباب التدهور، وهي نقطة مهمة جدا لأيجاد الحلول، بلمس السطح تاركا الأسباب الحقيقية جانبا. وهي أسباب طالما تناولها باحثون وأكاديميون عراقيون، قبل صدور هذا التقرير بسنوات عديدة، في محاولاتهم الوطنية لأنقاذ التعليم وتطويره. ففي ورقة بحثية نُشرت عام 2009، مثلا، بعنوان «أولويات التعليم العراقي في المرحلة الراهنة» للأكاديمي منذر الأعظمي، المختص في مجال تطوير القدرات الذهنية والمهارات الأساسية التعليمية، عالج المقترح ذاته في مشروع البنك الدولي، مع فارق السنوات المهدورة وتخصيص «مساعدة» بإمكان العراق، وهو من دول العالم الغنية، توفيرها بسهولة لو توفرت النية الصادقة لإنقاذ التعليم، وإنقاذ 3.2 مليون طفل عراقي في سنّ الدراسة خارج المدرسة، حسب تقرير لليونسيف.

الحقيقة التي لا يشير إليها التقرير هي أن التدهور يشمل جميع المحافظات، بضمنها بغداد التي طالما افتخر عديد المثقفين والعلماء العرب بكونهم من خريجي جامعاتها، مما أدى إلى إضعاف رأس المال البشري

يعزو التقرير سبب تزايد تدهور مستوى التلاميذ إلى جائحة كورونا وإغلاق المدارس أثناءها، والحقيقة هي أن الكثير من مباني المدارس أما تدهورت أثناء حقبة الحصار أو أستولت عليها القوات الأمريكية في بداية الاحتلال للتمركز داخل كل مدينة وحي، ومنع تجمع السكان في تلك المراكز. ولم تعبأ الإدارة الأمريكية لا باتفاقيات جنيف، التي تمنع قوات الإحتلال من تغييرالمعالم المدنية للمناطق التي تحتلها، ولا بقواعد القانون الإنساني ولا للوعود التي رافقت الحرب من تطوير الحياة المدنية. ثم استلمتها منها الميليشيات والجهات السياسية، لكون أغلبها في وسط المدن. وهي مشكلة تناولها منذر الأعظمي، في دراسته، كواحدة من ثلاثة مستويات تتوجب معالجتها في مجال التعليم. «المستوى الأول هو خراب المدارس كأبنية، وتهميشها كمراكز حضارية في حياة المدن. والمستوى الثاني هو تدهور الإدارة التعليمية في المدارس والمحافظات والامتحانات والسياسات التعليمية للدولة. والمستوى الثالث هو في المحتوى، أي تدهور المستوى المعرفي في التعليم، طلابا ومعلمين» مبينا أن هناك عملية مستمرة لإفراغ التعليم من أهم محتوياته في تطوير قدرات الطلبة على التفكير، ونمو كفاءاتهم ومواهبهم المتعددة في أطر المسؤولية العامة».
واستند الباحث إلى آخر الدراسات موثقا أن من لا يدخل المدارس يتراجع مستواه العقلي سنويا بنسبة 3 – 5 في المئة عمن يدخلونها في المعدل، أي أن من المحتمل أن مستوى الذكاء لمن تسرب من المدارس لعشر سنوات هو حوالي 70 في المئة من المعدل وهو ما يمكن اعتباره تخلفا عقليا لهم في المعارف العامة، إن لم يكن في الأمور الحياتية العملية الروتينية. وهي الصورة المؤسفة ذاتها التي يذكرها البنك الدولي في تقريره، ولكن بعد 13 عاما من التأخر في اتخاذ خطوات العلاج التي يعرف الجميع، من عراقيين وأجانب، أنها ليست مستحيلة.
هناك، أيضا، علامة استفهام حول مناهج التدريس التي يبين الأعظمي أنها أما أستورثت من الغرب أو تُرجمت من اللغة الانكليزية في الغالب، حسب الارتباطات بدول كنا إحدى مستعمراتها. وهذه المناهج، غالبا، هي الأكثر شيوعا في البلدان العربية، أي أنها قُررت أما بدون صياغتها وطنيا أو اعتباطيا أو بدون تمحيص لمناهج أخرى في البلدان نفسها وخصوصا البرامج الحديثة والتجريبية هناك والتي، على أهميتها، لن تحقق النجاح كما في البلدان المتقدمة، لأن هذه البلدان مع كونها تتخذ مناهج عامة غالبا فهي تسمح بالإضافة اليها بالعديد من المناهج التجريبية التي تُغني بمرور الزمن المناهج الأصلية.
تكمن أهمية صدور تقرير البنك الدولي والمشروع، بعد عشرين عاما من الأحتلال تقريبا، تأكيد صحة موقف التعليميين العراقيين الوطنيين، كما يؤكد أن تآكل الوضع التعليمي وتأثيره على تدهور القدرة العقلية لما يقارب 13 مليون عراقي وُلدوا وعاشوا فترات الحصار والاحتلال، وصل حدا لم يعد بالامكان التستر عليه، بحيث بات إطلاق أي مبادرة، وإن كانت من قبل ذات الدول والجهات التي عملت على تحطيمه، يُنظر اليها كمساعدة إنسانية تستحق الشكر، وهو ما سيستمر ما لم، كما يخلص الأعظمي في بحثه، يعمل أهل العراق، أنفسهم، على التطوير التدريجي للبدائل الحضارية التي تخدم جميع فئات الشعب وتطور مواهب أبنائه لخدمة الأمة والبلد، فتحرير البلد من الاحتلال المباشر لا يعفي من الصراع مع مخلفاته، ومع ما استنفره من ردود فعل مرضية أو صحية، ومع امتداداته التعليمية والثقافية والاجتماعية.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com