مجتمع

كورونا وتبعاتها الثقافية.

بيدر ميديا.."

كورونا وتبعاتها الثقافية

نادية هناوي

 

تركت جائحة كورونا آثاراً كبيرة شملت قطاعات الحياة بدون استثناء ومن ضمنها واقعنا الثقافي، وتفاوتت تلك الآثار في حدتها على هذا القطاع أو ذاك، ولكن المؤشر العام لتركاتها يشير إلى أنها في العموم كانت أوسع مما أُعد لمواجهتها وأشرس مما هُيئ للقضاء عليها.
وقطاع الثقافة أحد تلك القطاعات التي تأثرت بما خلّفته كورونا من ظواهر وسلوكيات، ثلاثة أرباعها متصل بشكل مباشر بمشاعية استعمال وسائط التواصل الاجتماعي التي غدت تشاطرنا حياتنا ليل نهار كالفيسبوك وتويتر وتليغرام والانستغرام والواتساب والزووم وفري كونفيرنس وغيرها. ومن تلك التركات التي لها مساس بواقعنا الثقافي ظاهرة طفو فئة من المتثاقفين من مدعي التحليلات الأدبية والثقافية والسياسية والاجتماعية الذين لم يكن لهم في الواقع الثقافي قبل الجائحة أي أثر، لكن مجيئها أعطى هذه الفئة الطافية فرصاً ذهبية، باعتمادنا شبه الكلي على الشبكة العنكبوتية في تسيير أمور الحياة عامة ومتابعة شؤون الثقافة وأمور الأدب خاصة.
وتتنوع طرق الطفو الثقافي، منها استغلال إدارة منصات إلكترونية تابعة لمؤسسة ما حكومية أو غير حكومية، ومنها اغتنام ما في تطبيقات الشبكة العنبكوتية ووسائطها البرمجية من متاحات التعليق والتعقيب والتداخل وبصورة سلبية يعلن عبرها هؤلاء الطافون عن أنفسهم ككتاب مدونين أو كمحللين ونقاد وربما مفكرين.
قد يكون مثل هذا الحال على طارئيته إيجابياً إن هو استند إلى التزود بالثقافة والتفكير في الإبداع تواصلا مع هذا الكاتب ومحاورة ذاك المبدع ومتابعة هذه الجماعة والاطلاع على نتاجات هذه المدرسة. بيد أن المتحقق مما تركته كورونا يشير إلى عكس ذلك. بل إن النرجسية دفعت بعض الطُفاة إلى تصديق ما تسوّله لهم أنفسهم من وهم التخصص وادعائية العلم، فراحوا يحشرون أنوفهم بما ليس لهم فيه باع ولا دراية وكل ظنهم أنهم بمجرد نشر التعليقات بالاعتراض والتخالف ستعرف أسماؤهم وسيظهرون بوصفهم أصحاب فهم ونظر.
فأية فرصة ذهبية منحتها كورونا للشبكة العنبكوتية أن تتسع، وأية أبواب فتحتها هذه الشبكة للمتطفلين فاستغلوها، والنتيجة أن طفوهم على السطح كان قوياً بكل ما في الطفو من الطارئية وخلو الوفاض واللامنطقية.
وبمرور الوقت ويوما بعد يوم ازدادت ظاهرة الطافين ثقافيا وتنوعت أساليبهم وسلوكياتهم الطفيلية تارة بكتابة تعليقات مغرضة يتفوهون بها إزاء كتّاب جادين ومتخصصين وتارة أخرى بقصد السطو على ما ينشره المتخصصون ليقوم هذا الطافي بتدليس ما يقرأه نسخاً وتجميعاً ثم ينشره باسمه كمقالة أو بحث أو حتى كتاب بدلا من أن يفيد من ذوي الشأن في تطوير ثقافته والتزود بما هو معرفي.
ولا يقتصر الأمر في ما خلفته كورونا من تركات الطفو الثقافي التحذلق بالنشر والتنطع بالثقافة والمعرفية حسب، بل قد يتمادى الأمر إلى ممارسة أفعال التطفل بشكل احترافي مترقبين كل فعالية افتراضية أو وجاهية يُعلن عنها هنا أو هناك- في شكل ندوات أو ملتقيات أو جلسات وهي في الأساس متنوعة الموضوعات والقضايا ومتفاوتة المستويات والتخصصات- كي يسجلوا فيها أو يحضروها لا من أجل الانصات والافادة بالاستعلام والسؤال، وإنما همّهم أن يكون لهم صوت فيما يجري، بالهش على هذا والنش على ذاك مدحاً وقدحاً، تملقاً ومقتاً، تزلفاً ورياء.
أما إذا كانت مطامعهم أكثر من الحضور الفارغ والظهور المغرض، فعندها سيستغلون ما لديهم من أساليب وبعضها لا كرامة فيها متوسطين المسؤولين عن الفعاليات، متمسحين بأكتافهم كي يعطوهم فرصة الظهور على منصة افتراضية أو برنامج تلفزيوني أو ندوة حضورية، طاردين بمكر ودهاء غيرهم، طافين يتكلمون فيما هو ليس من اختصاصهم. ولا يهمهم بعد ذلك ما يقال عن سذاجة فهمهم وسماجة طرحهم وسوء ما خلفته كورونا وتسببت في صعودهم الطارئ والمشين.
وقد يتعدى الأمر عند بعض الطافين إلى الظهور في قنوات فضائية وبرامج إذاعية أو تلفزيونية يمثلون فيها أيضاً أدواراً زائفة، متقمصين صورة كاتب أو ناقد، متنطعين بجمل لا يفقهون معناها، مرددين ببغاوية جملاً أو عبارات مرت بمسامعهم أو أغاروا عليها ساطين على غيرهم محورين ومعدلين في بعض كلماته مقدمين مسرحية، يظنونها ندوة أو محاضرة خصوصاً إذا كان المضيف نفسه غير دار بطبيعة الموضوع الذي يريد الطافون الحديث عنه.
إن سلوك الترقب بقصد الظهور السريع والطارئ والمشاركة غير المستحقة ولا المنطقية في الندوات والمهرجانات لأناس لم يكن المشهد الثقافي قد عرفهم قبل كورونا، له مضاره ومخاطره على الباحث الأصيل والجاد صاحب المشروع الثقافي الذي يلحقه حيف كبير من جراء تطفل هؤلاء الطافين الذين يريدون ثماراً من دون عناء ويبغون مراكز من دون اجتهاد، ويسعون إلى غاياتهم بوسائل ماكرة.
فماذا يفعل الباحث الجاد؟ هل يشغل نفسه بهؤلاء متابعا ما يكتبون من تعليقات مغرضة وتخرصات واهية وعقيمة أو يتركهم وشأنهم وهو يعلم أن غرض الطافين هو سحبه من مشروعه وإشغاله بما لا يسمن ولا يغني من جوع؟ وكيف يمكن مناقشة الطافين وهم لا دراية عندهم ولا يعرفون معنى الموضوعية، وإلا قالوا وأعربوا ووضحوا في وسائل افتراضية أو ورقية تضمن لهم الثبات على الرأي والمناقشة التي فيها تتوضح النوايا بدل الارتكان إلى التعليقات البالية والتخرصات الواهية بلا مسؤولية أو وازع من ضمير؟ وإذا كان التوسع مستقبلاً في مساحات الشبكة العنكبوتية متوقعاً وبوتيرة أعلى فهل يعني ذلك قراءة الفاتحة على الثقافة الحقيقية ليضيع الجاد والأصيل في خضم المزيف والطارئ وغير العلمي؟ ومتى يمكن للباحث أن يتم مشاريعه والطافي يتطفل على تلك المشاريع ولا يألو جهداً من وضع العراقيل ملاحقاً إياه بالتعليقات السمجة والمشاكسات المحرجة؟
بالطبع ليس للكاتب الجاد أن يتابع كل ما يكتبه هؤلاء الطافون، كما أن لا طائل له من مقارعتهم والتصدي لأساليبهم بكل ما فيها من ضعة نفس وخواء وابتذال وهدر ماء الوجه، كما لا إمكانية لديه لمعرفة كل من يسطو على كتاباته وينسبها لنفسه ولكنه في الوقت نفسه لا يستطيع التغاضي أو غض الطرف عما يجري من تشويه أو تعد أو تحريف أو تزييف يطال جهوده.
إن ما يجري اليوم بسبب كورونا من تزييف ثقافي غيّب بالمقابل طرائق الجدل والمناقشات المعرفية التي عرفتها أجيال سابقة من مثقفينا العرب والتي عليها انبنت حركة نقدية كبيرة. وسيزداد هذا الغياب إن نحن تركنا آثار كورونا تشوه ثقافتنا فيظهر الجاهل عالماً، والصفيق مثقفاً، والشعرور شاعراً، والجبان صنديداً.
إن تركات كورونا الثقافية لها مخاطرها التي لا ينبغي تهوينها أو التقليل من شأنها وأن الباحثين والنقاد الجادين مدعوون إلى أن تكون لهم وقفة حقيقية توكيداً للمسؤولية ودفاعاً عن الأصالة إزاء هؤلاء الطافين من المتنطعين بالعلمية ومدعي الإبداع، تشخيصاً لهم داخل مؤسساتنا الرسمية وغير الرسمية، أكاديمية أو غير أكاديمية، وكشفاً لسطوهم وتعرية لاختلاساتهم. ومن الضروري تسخير كل ما لدى المثقف الحقيقي من منهجية وأدوات معرفية من أجل التصدي لهؤلاء الذين ساعدت كورونا في طفوهم الثقافي ممن لا سلاح لديهم سوى التعليقات والتخرصات الهامشية والبائسة هنا وهناك وبنوايا سيئة وكيدية أحيانا.
وتظل قوانين الحوكمة الإلكترونية والحفاظ على الحقوق التأليفية ومسائل الملكية في النشر عندنا بحاجة إلى إعادة نظر وبشكل يتلاءم مع تركات كورونا وآثارها على الحياة والسلوكيات كي لا يتمادى الطارئون فيضرون أجيالا من القراء قادمة لا تعرف خطرهم وتجهل من ثم حقيقتهم وطبيعة مآربهم.
*كاتبة من العراق

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com