مجتمع

تراجيديا الانهيار البشري الأخير.

بيدر ميديا.."

تراجيديا الانهيار البشري الأخير

 واسيني الأعرج

 

هل هي العلامات الأولى التي تسبق الانهيار البشري الكلي؟ لا أدري لماذا تذكرت حكاية العربي الأخير؟ الحرب الروسية-الأوكرانية وصلت، أو تكاد، إلى نقطة اللارجوع، والتدخلات الأمريكية – الغربية أيضاً. السلاح يتدفق على الحدود البولندية – الأوكرانية، ولا أفق لفكرة السلام حتى في صورتها البدئية، وكأن العالم لا يعرف العيش دون أمراضه وحروبه التي خلقها. ظننا، مع الذين يهمهم مصير هذه الكرة الأرضية، أن وباء الكوفيد 19، بكل تحولاته، سيمنح البشرية جمعاء درساً حقيقياً وتأملياً في مصائرها وفي تواضع قواها أمام عنف الطبيعة، وأن سنتين من الموت المجاني سيدفعها إلى مزيد من التفكير وتفضيل حياة البشر الغالية على كل شيء، وأن ما خسرته الإنسانية في سباق التسلح سيجعلها تفكر طويلاً في استعادة إنسانيتها التي افتقدتها بسبب تجار الحروب والمصالح الصغيرة والضخمة. في النهاية، لا شيء أفاد. بمجرد أن أخرجت البشرية رأسها من قوقعة الانكفاء حتى عادت إلى طبيعتها الإجرامية وانتصر الحيوان الذي في داخلها. سنتان من الظلام والعزلة وحصد أرواح البشر، اغتنت من ورائها المخابر التي نشأت من صلب المرض، واغتنى بائعو السموم أيضاً. لا يهم. وكان المتحول أوميكرون هو الحقنة الشافية التي أصيب بها الكل تقريباً، ليكتسب الجسد بعدها مناعة حقيقية، مناعة القطيع. الأرواح ترخص عندما يكثر الأموات الذين نكتفي بردمهم في حفر جماعية، وليس في قبور بأسماء وذاكرة. انتهت حرب الفيروس، أو تكاد، لتبدأ حرب الروس على أوكرانيا. كيفما كانت الأسباب الاستراتيجية التي ارتكز عليها الطرف الروسي، وهي حقيقية بعد تخلي الغرب وأمريكا عن التعهدات والضمانات التي قُدِّمت لروسيا لكي تقبل بتمزقها الكلي، وضمان أمنها الاستراتيجي. الذي حدث هو العكس؛ بعد سنوات قليلة انضمت الكثير من الدول السوفياتية سابقاً إلى الحلف الأطلسي، ضاربة عرض الحائط بالاتفاقيات السابقة. شعرت روسيا بالخطر الذي يتهددها استراتيجياً، فقامت بضربة استباقية خاطفة، لم تكن صائبة، لا عسكرياً ولا استراتيجياً أيضاً، إذ فتحت قصة أوكرانيا شهية أمريكا لعزل روسيا كلياً، وإنهاكها عسكرياً، في صورة تكاد تكون شبيهة بأفغانستان. المحصلة، تدمير أوكرانيا وإنهاك روسيا.
خراب وأموات وحرب يتم تمديدها بالأسلحة الفتاكة. هذا كله لا يكفي ليجعل أي حرب فعلاً شرعياً. كل حرب هي انتصار لغرائز الهيمنة الحيوانية، فما الحل؟ السلام ليس خياراً، ولكنه قدر لا يمكن تفاديه، وإلّا على البشرية السلام. المعادلة بمجهولين، تكمن هنا، وتجبر الطرفين على إيجاد صيغة مشتركة فيها انتصار المستقبل، أولاً واخيراً. ماذا لو ذهب الحوار إلى مداه ومنع النزيف، والمزيد من سقوط آلاف الضحايا. لنا أن نتساءل ما الذي جاءت به هذه الحرب من فوائد غير الوقوف على حافة حرب نووية؟ ربما من فوائدها الأولى أزاحت اللثام عن سلسلة من الكذبات التي جعلها الإعلام المتوحش حقائق. مثلاً، ما معنى حقوق الإنسان؟ فكرة العيش معاً؟ ما معنى القانون الدولي؟ هذا الكم من القيم النبيلة أصبح بعد الحرب وقبلها بقليل، كلمات مفرغة من أي معنى وأي امتداد إنساني. منطق القوي هو الذي يُفرض بالحديد والنار. لقد فتحت أوروبا حدودها طواعية للمهجرين وضحايا الحرب من أوكرانيا، وهذا أمر طبيعي يجب أن يحدث ويتكثف أكثر، إذ لا يمكن أن تُسد الحدود في وجه من يطلب النجدة. المشكلة هي في درجة الغباء العنصري البدائي التي ظهرت بعد ذلك. فقد تمادى بعض الصحافيين وهم يغطون عمليات الترحيل والتهجير، في الخطابات البائسة التي تقول إن اللاجئين هذه المرة أوروبيون، لا يشبهون في شيء اللاجئين السوريين؟ فهم يشبهوننا في كل شيء، عيونهم وشعرهم وذكائهم. فجأة، أصبحت لحقوق الإنسان هوية أوروبية بشعر أشقر وعيون زرق. وفُتِحتْ الأبواب الموصدة في وجه المهجَّرين. لكن يجب ألا ننسى في هذا السياق، شجاعة المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل، التي حمت بلادها من أية حرب ممكنة على مدار 16 سنة من الحكم، ومارست رقابة دقيقة على حركة الأسلحة، ورفضت أن تزج بألمانيا في أية مغامرة عسكرية مدمرة. أعطت معنى حقيقياً لحقوق الإنسان عندما استقبلت آلاف السوريين الهاربين من نيران حرب الإخوة الأعداء، في وقت ترددت بقية البلدان الأوروبية حذو الطريق الألماني وبدأت تتكلم عن المحاصصة. لكن يبدو أن ذلك الزمن قد ولّى. بل إن رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، طلب من فرنسا أن تحتفظ باللاجئين العرب وتسمح للآخرين بالعبور، بعد أن لامتها على تقاعسها والتسبب في غرق العديد من المهاجرين غير الشرعيين، الذين محتهم حرب أوكرانيا إعلامياً؟ هي العنصرية التي لا وصف لها بعد سقوط ورقة التوت، لنكتشف فجأة أن التوحش الاستعماري لم يتغير إلا في شكله الخارجي، ما تزال حضارة الرجل الأبيض هي المقياس الذي يتحدد من خلاله الحضاري والمتوحش دون أدنى نقد ذاتي؟ مع أن هذ البوريس جونسون نفسه نُزع من فم الموت بأعجوبة، وكاد الكوفيد يفتك به. لم يتعلم شيئاً إلا المزيد من الغطرسة. كما كشفت هذه الحرب ضحالة القانون الدولي الذي اشتغل باتجاه واحد في هذه الحرب، هو نفسه القانون الذي صمت أمام العراق الذي خسر الملايين من أبنائه، جرائم لم يرتكبها حتى «النظام الدكتاتوري» الذي قامت أمريكا ضده لتوقيفه عن إنتاج القنبلة النووية المفترضة التي «تهدد» أمريكا وحلفاءها؟ هذا القانون أخذ مسلكاً جديداً بتسليح أوكرانيا، بدل استعمال القوة الدبلوماسية بالضغط على روسيا للجلوس حول مائدة الحوار حفاظاً على المقدرات الأوكرانية بدل الإسهام في تدميرها، مع الأخذ بعين الاعتبار تخوف موسكو بشكل حقيقي، والسير في طريق السلام. صحيح، هذا الطريق صعب دائماً ومكلف؛ لكن أمام حماية أرواح البشر والممتلكات والمدن، يستحق الأمر هذه المتاعب. الذي ينساه المحللون هو أن الحرب كلها تدور اليوم في الأراضي الأوكرانية، مما يعني ببساطة أن القنابل الروسية والأوكرانية وأسلحة أمريكا والغرب الفتاكة، كلها تسقط على الأوكرانيين سواء كانوا انفصاليين أو مشايعين للنظام. المتضرر الأول والأخير هو الشعب الأوكراني بكل مدنه التي أصبح الكثير منها خراباً. بدل العمل على تدعيم الطريق الثالث طريق السلام، دخلت أمريكا وأتباعها غمار الحرب، جاعلين من أوكرانيا وسيلتهم لتدمير عدو قديم لم يتخلصوا كلياً منه. ليس المهم هو الشعب الأوكراني، لكن الوظيفة الاستراتيجية التي تستهدف تدمير روسيا بإنهاكها. في المحصلة، إطالة أمد الحرب الذي لن يكون إلا تدميراً مستمراً. لا حكمة مطلقاً لدى الرئيس فولوديمير زيلينسكي، الممثل والفنان؟ لا يمكنني ألّا أستحضر الرئيس/ الفنان فافلاك هافيل الذي جاء من المسرح، رفض تدخل أية قوى غربية، خيَّر شعبه في تصويت تاريخي، انتصر فيه خيار الانفصال بين التشيك والسلوفاك. سمي ذلك بالثورة الناعمة وخرج الشعبان بحب وبلا أحقاد، فأي ضغائن ستستمر بين الأجيال بين الروس والأوكران؟ الدبلوماسية سلاح فتاك ضد الحروب. الرهان الأول في مثل هذه الحالات ليست البطولات الفارغة التي يصنعها إعلام اللحظة، ولكن بالحفاظ على الشعب ومقدراته. غضب زيلينسكي من زيارة أمين عام الأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس، لموسكو بحثاً عن حل سلمي، يبين اللحظة التراجيدية التي هو فيها، مهما كانت شرعية مطالبه؟ لا يدرك أن الضحية المؤكدة هي الشعب الأوكراني، وما عدا ذلك هي حسابات دول عظمى واستراتيجيات خطيرة قد تقود العالم نحو الدمار الكلي. العالم يتغير بسرعة غير مسبوقة، بارتباك الدولار كعملة مرجعية في التعاملات الدولية، واهتزاز عالم القطب الأحادي، والمزيد من إنتاج الأسلحة الفتاكة (الصاروخ تسيركون، العابر للقارات)… ما يخيف في النهاية هو الانزلاق نحو وضعيات يصعب التحكم فيها لاحقاً. الحل السلمي الوفاقي يعني بالضرورة أن المنتصر الأول والأخير هو الإنسان وحضارته، وليس الحيوان الكاسر المتربص في دواخل البشر.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com