ثقافة

أفضل روائي اسمه… «القدر»!.

بيدر ميديا.."

أفضل روائي اسمه… «القدر»!

 غادة السمان

 

القدر يكتب بأبجديته الأحداث المعاشة، لا أدباً غرائبياً على غرابة أحداثه أحياناً. كمثال، أتذكر طبيباً بيروتياً من أسرة عريقة اشتهر كأفضل طبيب للأطفال في بيروت ما قبل الحرب الأهلية وخلالها حتى موته، كان الأطفال وعافيتهم هاجسه. ومهما كانت الأم جميلة وشهيرة وأحبت التدخل في علاج طفلها، كان يسكتها بفجاحة ما دامت ليست طبيبة! وكنت من (زبائنه) وأنا أحمل له طفلي (الدكتور حازم اليوم) للفحص السنوي أو إذا أصيب بمرض كالأطفال كلهم. ومرة رافق الشاعر نزار قباني زوجته الرائعة بلقيس ومعهما زينب وعمر، وكانا طفلين، فطرد الطبيب نزار وقال له: انتظر أمام الباب، فأنت تفهم في الشعر لا في طب الأطفال! أي أن هاجسه الأول كان عافية الطفل! وبلا مجاملات للأهل.

أنقذ حياة ابني!

أصيب مرة ابني وكان عمره سنة، بالتهاب رئوي، واتصل بي الطبيب المناوب ليلاً في المستشفى وقال إن حرارة ابني مرتفعة جداً، وهكذا أيقظت الطبيب الشهير من نومه في الثانية صباحاً ولم يتذمر، والتقينا في المستشفى، واكتشف الطبيب الكبير أن الطبيب المتدرب أعطاه حقنة من البنسلين، ولابني حساسية ضد البنسلين!
وباختصار، أنقذ الطبيب الكبير حياة ابني، ولم أنسَ ذلك يوماً، ونشأت بيننا صداقة عائلية لأن زوجة الطبيب قريبة لزوجي. وحين تزوجت ابنة الطبيب الشهير وأنجبت، قلنا إن حفيده سيلقى أفضل عناية صحية بفضل جده الطبيب الأشهر في بيروت. ثم علمنا من الصحف بخبر نزل على الأمهات نزول الصاعقة حقاً، والخبر وفاة حفيد الطبيب الأشهر على الرغم من المعالجة. وهنا تقاعد الجد المحزون، وتسلم ابنه -الطبيب أيضاً- عيادته، لكن الشؤم حال بينه وبين كثرة الزبائن كما كان والده من زمان، حتى أنه هاجر من لبنان!
أليس القدر أفضل روائي؟ وكيف كان في وسع أي كاتب أن يختار وفاة حفيد الطبيب الأشهر للأطفال في لبنان كخاتمة روائية؟ ومَن غير القدر يسطر الروايات الاستثنائية؟
وأعتقد أن كل قارئ عاش أو قرأ أو شهد رواية مدهشة سطرها القدر عجز البشر عن تبديل مسارها.

عالجوه ولم يكن مريضاً!

ما أكثر الذين يمرضون ولا يجدون العلاج في الصيدليات كما يحدث هذه الأيام في لبنان، أما في بلاد الرفاهية فقد يحدث العكس!
وكمثال، أذكر ذلك الرجل الأمريكي الذي عالجه الأطباء طوال ثلاثة أعوام ضد مرض السرطان بكل الأدوية المتوافرة. ثم حدثت المفاجأة، وتبين أن الرجل المسكين و»المريض بالوهم» الطبي لم يكن مصاباً بالسرطان! وهكذا حصل الرجل على ثلاثة ملايين يورو تعويضاً عن المعالجة الأليمة التي عانى منها ولم يكن مريضاً!
مَن غير القدر تخطر بباله حكاية كهذه؟ كأن القدر في رواياته يحب دائماً تذكيرنا بأننا من البشر، وأننا نصيب ونخطئ، لكن بعض الأخطاء ثمنها ثلاثة ملايين دولار. ومن طرفي، لا أعتقد أن بوسع أحد التعويض على عذاب إنسان تلقى علاجاً أليماً ضد مرض لم يكن مصاباً به! لكن القدر يحب كتابة هذا النمط من الروايات!

يحاول الخداع، ويسخر القدر!

الروايات التي يكتبها القدر لا تخلو من المفاجأة حتى لقراء مثلي لم يعد ثمة ما يدهشهم. هذا رجل ادعى أنه تم اختطافه لكي تدفع زوجته المخلصة الفدية، ليعيد الخاطف/الخاطفون لها زوجها.
ودفعت المسكينة الفدية، ولم يخطر ببال الزوجة الوفية أن زوجها لم يكن مختطفاً، لكنه أراد ابتزاز المال منها لينفقه على عشيقته!
مَن غير القدر (يكتب) قصة كهذه تجسد الخيانة الزوجية والمتوجة بابتزاز المال؟

في رواياته، يسخر القدر منا!

نحاول دائماً تعليم أولادنا في الجامعات، ونفخر حين يصيرون أساتذة فيها برواتب كبيرة. ويسخر القدر.. فعلينا اليوم الاعتناء (بأقدام) أولادنا قبل رؤوسهم! ها هو مثلاً لاعب كرة القدم «نيمار» وراتبه من ناديه أربعة ملايين يورو شهرياً! وهكذا يسخر القدر منا، نحن الذين نقوم بتعليم أولادنا في الجامعات ونفخر حين يحملون (الدكتوراه) لكن عصرنا يفضل -مالياً- من ينجح في ركل كرة القدم، بدلاً من دراسة الكتب العلمية والحصول على الدكتوراه بصمت علمي بدلاً من إدخال كرة قدم في هدف ما.. إنه القدر الساخر في (رواياته) الواقعية عن أولادنا وعنّا.

الإبداع سرقة أدبية!

القدر ليس وحده الروائي الأكبر الذي يستحق جائزة نوبل في الأدب، بل هو منجم عطاء للروائيين. وليس بيننا من لم يسرق من القدر حكايات حدثت وخطها القدر شرط أن نكتبها بفنية روائية؛ أي أن لا يكون ما نسطره نقلاً فجاً لروائيات القدر، وإلا لدخل في باب السرقات الأدبية دونما فنية إبداعية، لكن كل مبدع أدبياً هو بمعنى ما السارق الأدبي الأول، وهي السرقة الوحيدة التي يباركها النقاد شرط توافر الفن الروائي فيها، لا النقل الحرفي (الإخباري) الصحافي.

سعد الدين: كلنا أموات!

حين توفي الدكتور الكبير خير الدين حسيب، صديق أسرتنا كما زوجته السيدة شيرين، لم أعلم بنبأ وفاته إلا بعد أشهر، فالصحف اللبنانية لم تعد تصلنا إلى باريس، ولعل خبر رحيله فاتتني قراءته في صحف عربية تصدر في لندن وباريس. والدكتور الكبير علماً خير الدين حسيب، كان وزوجي متعاوناً في تأسيس مركز «دراسات الوحدة العربية» ولولا اتصال الصديقة الغالية شيرين بي بعد أشهر من وفاته لما علمت بذلك، واعتذرت عن تقصيري في تقديم واجب التعزية لتلك الصديقة الغالية وتعلمت درساً. وهكذا صرت كلما اتصلت هاتفياً مع منشوراتي في بيروت «ودار الطليعة» أسأل: هل توفي أحد الأصدقاء؟ وأذكرهم بان أحداً لم ينقل لي نبأ وفاة الراحل الكبير والصديق الكبير لزوجي، حسيب.
وهذا الصباح سألت الأستاذ سعد الدين النعنع، الموظف في دار الطليعة: هل توفي أحد من الأصدقاء؟
فأجابني اليوم السيد سعد الدين النعنع بعدما سئم من سؤالي اليومي عما إذا كان صديقاً مات ولم أدر بذلك، وكانت إجابته صادقة: يا سيدتي، كلنا أموات في بيروت!
وللأسف، كان جواباً صادقاً وباختصار. لا ضوء في آخر النفق اللبناني المظلم، ولا كهرباء ولا ماء للشرب ولا (مازوت) للمحركات الكهربائية ولا (بنزين) للسيارات، ولا مال عند الناس لشراء ما تقدم إذا توافر. كأننا نعيش في قبر على ضوء شمعة، وكان اسم المقبرة «سويسرا الشرق». فكيف أسأل عما إذا كان أحد الأصدقاء توفي، وكلنا كما قال سعد الدين النعنع بعفوية حين عاتبته لعدم علمي بوفاة خير الدين حسيب: كلنا أموات يا سيدتي! ولم يكذب!

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com