مقالات

دفع التعويضات… حين تكون أمريكا هي القاضي والجلاد.

بيدر ميديا.."

دفع التعويضات… حين تكون أمريكا هي القاضي والجلاد

 هيفاء زنكنة

في الوقت الذي أعلنت فيه الأمم المتحدة حاجتها إلى 5 مليارات دولار لتجنب كارثة إنسانية في أفغانستان، أصدر الرئيس الأمريكي جو بايدن، قرارا برفع الحجز عن 7 مليارات دولار من الأصول التابعة للبنك المركزي الأفغاني، وتخصيص 3.5 مليار دولار منها لعائلات ضحايا اعتداءات 11 سبتمبر. ومن باب المفارقة السوداء يتزامن هذا القرار مع إصدار مجلس إدارة لجنة التعويضات في الأمم المتحدة تقريرا يبين أن «حكومة العراق قد أنجزت كامل التزاماتها الدولية لتعويض كل المطالبين الذين منحت لهم التعويضات من قبل اللجنة للخسائر والأضرار التي عانوا منها في نتيجة مباشرة لغزو العراق غير القانوني للكويت». وقد دفع العراق تعويضات قدرها 52.4 مليار دولار لقرابة 2.7 مليون مطالبة من أفراد وشركات وحكومات ومنظمات دولية، بعد إصدار مجلس الأمن برئاسة الولايات المتحدة الأمريكية قرارا بوجوب دفع التعويضات من نسبة مئوية من العائدات المتأتية من مبيعات تصدير النفط والمنتجات النفطية العراقية. وقد حُدِّدت هذه النسبة المئوية في الأصل بنسبة 30 في المائة وتم تخفيضها على مر السنين. ولم يُحسم القرار النهائي بعد، بانتظار تقديم إحاطة إلى مجلس الأمن في 22 شباط/ فبراير.
وما يجعل المفارقة أشد إسودادا، أن تكون أمريكا هي التي اخترعت فكرة دفع التعويضات والديون المترتبة على بلدان متحاربة بعد أن كانت السياسة العامة، وحتى نهاية الحرب العالمية الأولى، هي إلغاء ديون كل الأطراف المساهمة في أي حرب كانت، استمرارا لما سنته شريعة حمورابي، في بابل (العراق) حوالي 1800 سنة قبل الميلاد. وقضت تلك الشريعة بأن الحروب تضر الجميع ولا بد من بدء صفحة جديدة بدون ديون وانتقام. إلا أن إصرار أمريكا على استعادة ديونها المترتبة على بريطانيا وفرنسا بعد الانتصار على ألمانيا، دفع بريطانيا إلى إجبار ألمانيا على دفع تعويض لكل الخسائر التي سببتها الحرب حتى تتمكن بريطانيا من دفع ديونها لأمريكا. وكان إجبار المانيا ذلك أهم أسباب صعود النازية والحرب العالمية الثانية. ومع مأسسة سياسة التعويضات جاءت سياسة العقوبات الاقتصادية وحجز الأموال. كانت هذه بذرة تأسيس مكتب مراقبة الأصول الأجنبية التابع لوزارة الخزانة الأمريكية، لإدارة وتنفيذ العقوبات الاقتصادية والتجارية « بناءً على السياسة الخارجية وأهداف الأمن القومي ضد الدول والأنظمة الأجنبية المستهدفة والإرهابيين ومهربي المخدرات الدوليين والمتورطين في الأنشطة المتعلقة بانتشار أسلحة الدمار الشامل والتهديدات الأخرى للأمن القومي أو السياسة الخارجية أو الاقتصاد للولايات المتحدة». ومن يراجع تفاصيل تطبيق هذا القانون سيجد أن الوجه الآخر لسياسة الردع المعلنة هو حصول أمريكا على مورد مادي جراء ما تسميه « الانتهاكات» يساعد مهما كان صغيرا، على تعزيز مكانتها كشرطي عالمي لا يقبل الاخلال بسلطته على « الآخرين» سواء كانوا افرادا أو حكومات.
فقد فرض مكتب مراقبة الأصول الأجنبية غرامة قدرها 20 ألف دولار على منظمة «أصوات في البرية» المؤلفة من متطوعين شبان رائعين في بريطانيا، لتبرعها بأدوية للعراقيين في الفترة التي فُرض فيها الحصار (1991- 2003).

إن القرار الأمريكي بتجميد الأرصدة الأفغانية، ومنح نصفها كتعويضات لضحايا 11 أيلول/ سبتمبر، بينما يعيش الشعب الأفغاني مأساة الحاجة الإنسانية والكفاح للحصول على أبسط مقومات الحياة

كما فرض المكتب قدرها 10 آلاف دولار بالإضافة إلى الفائدة، ضد ناشط السلام بيرت ساكس لأخذه أدوية لسكان البصرة؛ وأسقطت المحكمة التهم الموجهة إليه في ديسمبر / كانون الأول 2012، بعد أن قضى سنوات من عمره مفندا القرار بل ورفع دعوى ضد المكتب، متهما الحكومة الأمريكية بالإرهاب استنادا الى تعريف القانون الأمريكي للإرهاب، والذي ينص بأنه « فعل يشكل خطرًا على حياة الإنسان أو يُحتمل أن يدمر البنية التحتية أو الموارد، ويبدو أنه يهدف إلى تخويف أو إكراه السكان المدنيين ؛ للتأثير على سياسة الحكومة بالترهيب أو الإكراه ؛ أو للتأثير على سلوك الحكومة بالدمار الشامل أو الاغتيال أو الاختطاف». قدم بيرت دعما لقضيته مئات التقارير الطبية والأدلة التي تُثبت مسؤولية أمريكا عن موت مئات آلاف الأطفال العراقيين واستهداف المدنيين عمدا، وتدمير البنية التحتية، وفرض الحصار الاقتصادي، الذي وصفه عدد من مسؤولي الأمم المتحدة بأنه إبادة جماعية، مستشهدا بتقرير كشف ان هدف أمريكا هو « من خلال جعل الحياة غير مريحة للشعب العراقي، ستشجعهم العقوبات في النهاية على إزاحة الرئيس صدام حسين من السلطة».
ولتحقيق ذات الغرض، تواصل أمريكا سياستها الخارجية المستهدفة، في حقيقتها، للشعوب وليس الأنظمة، من خلال فرض العقوبات الاقتصادية وتجميد الأرصدة ودفع التعويضات. بينما تواصل سياستها الخارجية نفسها، على إختلاف الرؤساء، في شن الحروب وإسقاط أي نظام يبادر لتحقيق الاستقلال الحقيقي وتمثيل مصالح شعبه. فمنذ عام 1947 حتى 1989، مثلا، حاولت أمريكا 72 مرة تغيير حكومات دول أخرى. سبقها قصف جماعي لمدن يابانية وألمانية خلال الحرب العالمية الثانية، وقصف نووي لهيروشيما وناغازاكي، وتلاها رش فيتنام بالعامل البرتقالي السام، وذخائر اليورانيوم المنضب على العراق، والعقوبات الاقتصادية على كوبا وإيران وسوريا. كل هذا ولم يحدث ودفعت أمريكا تعويضا لضحاياها في البلدان التي عملت على تدميرها.
وكما فُرض على الشعب العراقي دفع تعويضات خيالية، حيث تم، مثلا، تسعير رأس الخس الذي تناوله الجندي الأمريكي بـ35 دولارا، تواجه كوبا حاليًا 5911 دعوى قضائية أقامتها شركات وأفراد فيما يتعلق بمصادرة ممتلكات وأصول أخرى في الجزيرة بعد عام 1959، وتسعى معًا للحصول على تعويض يقارب 7 مليارات دولار، بعد أن جمدت أمريكا 253 مليون دولار من الأصول الكوبية في عام 2012.
إن القرار الأمريكي بتجميد الأرصدة الأفغانية، ومنح نصفها كتعويضات لضحايا 11 أيلول/ سبتمبر، بينما يعيش الشعب الأفغاني مأساة الحاجة الإنسانية والكفاح للحصول على أبسط مقومات الحياة، هي عملية نهب تماثل نهب العراق المتواصل سواء عن طريق العقوبات الاقتصادية ودفع التعويضات أو الغزو وتحطيم البنية التحتية وتنصيب حكومات فساد بالنيابة.
كلاهما استمرار لسياسة استعمارية قديمة ولكن بتبريرات جديدة تُسوغ الإبادة الجماعية، بشعارات نبيلة مثل التدخل الإنساني وحماية حقوق الانسان، خاصة المرأة. وستبقى أمريكا تتصرف باعتبارها القاضي والجلاد ضد من تشاء، حتى تتمكن الشعوب وحكوماتها الوطنية المستقلة الممثلة لها بشكل حقيقي، من تطبيق القانون الدولي ومساءلة أمريكا على جرائمها ودفع التعويضات لضحاياها.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com