ما مغزى الاستدارة التركية في المحيط؟
دائما هنالك مؤشرات صغيرة أو أحداث يعتبرها البعض هامشية، لكنها تدل بالعمق على أنها مدخل لتغيرات جذرية في النزاعات المحلية، أو الإقليمية أو الدولية. اليوم في المنطقة هنالك تحولات جيوسياسية كبيرة، بسبب وجود لاعبين دوليين وإقليميين، وكذلك التراجع الأمريكي المترافق مع هجمة روسية، وتسلل أولي صيني. لكن في الوقت نفسه، القوى الكبرى الإقليمية كلها تسعى للعودة إلى الأمجاد التاريخية، عبر التوسع الجغرافي، واستعمال العنف المفرط، أو تبريد الملفات الساخنة بهدف تعزيز الوجود والتأثير.
في هذا الإطار تأتي زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى دولة الإمارات في الأسبوع الماضي، وهي الأولى بعد عقد من الزمن، شابه الكثير من الخلافات السياسية والتقاطعات الأيديولوجية والحملات الإعلامية بين الطرفين. وقد عدّ الكثير من المراقبين هذه الزيارة على أنها منعطف كبير في السياسة التركية، باتجاه العلاقة مع المنطقة.
لكن هذا التحرك لم يأت من فراغ، فالمصالح هي من تخط سير السياسات. وإذا كان الاقتصاد لاعبا مهما في العلاقات الدولية، فإنه بات العامل الأول الذي يتقدم بجدارة على القضايا السياسية والأمنية وغيرها، بسبب التأثيرات الكارثية التي أحدثها وباء كورونا في الاقتصاد العالمي واقتصاديات الدول. لذلك فإن السياسات والقرارات والتحركات الدبلوماسية في الكواليس، وعلى المسرح ستطبخ كلها في صحن الاقتصاد بعد اليوم. ولأن أنقرة تعيش على وقع أزمة اقتصادية حادة، فإن ذلك دفع الرئيس أردوغان لتغيير التوجهات العامة للسياسات التركية الخارجية، مع ضرورة الإشارة الى أن العامل الأمريكي كان له أيضا تأثير في إحداث هذا التغيير. وما ينطبق على تركيا ينطبق على الآخرين أيضا. فمنذ وصول الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى البيت الأبيض، بادر العديد من القوى الإقليمية إلى انتهاج أسلوب جديد في المنطقة، يقوم على تنظيم الخلافات وإدارتها بطريقة أخرى. فقد شهدت الفترة الماضية خسارات كبيرة لكل الأطراف، وأثمانا باهظة دفعها الجميع في لعبة المحاور، التي قادت إلى اتجاهات متعادية. ويبدو أن أنقرة وأبوظبي أدهشتهما ضآلة المنافع وجسامة الخسائر التي تكبداها أثناء عملية الإحصاء، فدفع هذا الموقف الزعامات في كلا البلدين، إلى اعتماد حسابات إستراتيجية أخرى تفضي الى الانفتاح المتبادل، فهل هذا التحول أسلاك تعثر لقطع الطريق على إيران؟ يقينا أن أبوظبي أقلقتها كثيرا صواريخ الأذرع الإيرانية، وإقامة علاقات على جذر اقتصادي يعزز من مكانتها، ضد أي تهديدات تقف خلفها طهران، خاصة أن التبادل التجاري بين الإمارات وتركيا وصل إلى أكثر من 7 مليارات دولار أمريكي في النصف الأول من العام الماضي، وهو أيضا حاجة تركية ماسة في الوقت الحاضر. كما أن تعزيز العلاقات بين أبو ظبي وأنقرة يترافق مع تعزيز العلاقات التركية الإسرائيلية بعد قطيعة. ولو وضعنا هذا المشهد أمام مشهد إيران التي تحاول الخروج من العزلة عبر مفاوضات فيينا، يصبح مفهوما جدا مغزى شبكة العلاقات الجديدة، التي تنحصر في الاستعداد لاحتمالية حصول نتائج إيجابية في فيينا، قد تعزز من الدور الإيراني في المنطقة. صحيح أن العلاقات التركية الإيرانية جيدة، لكن التنافس الاستراتيجي بين الطرفين موجود في سوريا وفي العراق وفي أماكن أخرى. ويبدو أن أبوظبي تحاول استغلال هذا الموضوع. كما أنها تراهن على أن ارتباطها بالطرفين التركي والإسرائيلي قد يمنحها قدرات للعب أدوار معينة، خاصة في القرن الافريقي، حيث تلاقت مع الطرف التركي في إثيوبيا، على سبيل المثال، فقد دعمت الرئيس الإثيوبي آبي أحمد ضد المعارضة، كما دعمته تركيا أيضا بالطائرات المسيرة. إذن يمكن القول إن هناك تلاقي مصالح تبعتها لعبة استراتيجية جديدة في الإقليم، يلعبها صانعا القرار في تركيا والإمارات. لكن ما هي الحسابات التركية الخاصة؟
القوى الكبرى الإقليمية تسعى للعودة إلى الأمجاد التاريخية، عبر التوسع الجغرافي، واستعمال العنف، أو تبريد الملفات الساخنة بهدف تعزيز الوجود والتأثير
لتركيا دور كبير في الإقليم، وهي تراهن على الخليج خصوصا. فبعد تمركزها في قطر وعلاقاتها القوية مع الكويت وعُمان، والان مع الإمارات، وربما لاحقا مع السعودية، يصبح لديها نفوذ إقليمي أكبر من قبل. هذا النفوذ سوف يدعمها في الكثير من الأمور. وهي ترى أنها قادرة على التحرك في الإقليم بسهولة، لأنه محيطها الإقليمي ومحيطها الاقتصادي ومحيطها الديني. ويبدو أن الانفراجه التي حصلت في العلاقات الخليجية البينية، حررتها من بعض الالتزامات. كما أنها حاولت وضع مسافة بينها وبين جناح محدد في الإسلام السياسي، وسعت إلى الانفتاح على مصر، كل هذه الخطوات قلّصت ملفات التأزيم. كذلك للرئيس التركي حسابات شخصية تدفعه للتحرك في هذا الاتجاه. فهناك استحقاق انتخابي صعب يواجهه هذه المرة، ويتطلب منه تحسين الأوضاع الداخلية في تركيا، في النواحي الاقتصادية، وفي علاقاتها الخارجية أيضا. وباتت الألغام التي هو من زرع بعضها في الطريق، تضغط عليه لنزع فتيلها، إن كان يريد مواصلة قيادة تركيا. فهنالك جبهة حزبية تركية فيها إسلاميون كُثر، يحاولون العمل على الاستثمار في الورقة الاقتصادية لإسقاطه. وإذا نجح الرئيس في إعادة الاستثمارات الخليجية إلى تركيا وتحسّن الوضع المعيشي للناس، فإن هذه الورقة ستكون قوية جدا بيده، وتحقق له نتائج يتمناها. فهل سيكون هنالك تنافس إيراني وإسرائيلي مع تركيا في ضوء التحركات التركية الأخيرة نحو الخليج؟
لا شك في أن طهران تتابع باهتمام قيام تركيا بتبريد بعض ملفاتها المتأزمة في المنطقة، من خلال مجال حركة يتفرع في اتجاهين. الأول باتجاه الخليج الذي تعتبره طهران مجالها الحيوي وتريد التحكم فيه. والثاني دول القوقاز التي ترى طهران فيها توسعا تركيا على حسابها، خاصة بعد الدعم الذي قدمته تركيا إلى أذربيجان في الأزمة الأخيرة مع أرمينيا، التي تدعمها إيران. أما إسرائيل التي بدت مزهوة بعلاقاتها الخليجية، بعد التطبيع مع الإمارات والبحرين، فليس هنالك من تنافس بينها وبين تركيا، فالدور مختلف لكن الهدف واحد. كما أن الطرفين يسعيان الى إعادة علاقاتهما السياسية الى المستوى الذي كانت عليه.
إن المعضلة الأساسية التي تعانيها السياسة التركية هي حالة التذبذب في علاقاتها الخارجية. فقد سعت قبل عقد من السنين إلى تصفير مشاكلها مع الدول الأخرى، لكنها أنكفأت وتراكمت لديها مشاكل أكثر مما كانت عليها. والسبب في ذلك هو وجود أزمة داخلية تركية تخص هوية الدولة. فهنالك بحث دائم عن أجوبة لأسئلة جوهرية من مثل، هل تركيا دولة أم أمبراطورية؟ هل تركيا دينية أم علمانية؟ هل هي أوروربية أم آسيوية؟ وهل الرئيس رئيس أم سلطان؟ يضاف إلى ذلك قدرية الجغرافية وثقل التاريخ، اللذان يحددان المسلمات الجيوسياسية لها، ويجبرانها على التصرف في ضوئهما. ومن هنا جاء الوجود التركي من الخليج إلى الصومال وصولا إلى ليبيا، كمساند مهمة لتثبيت مشروع النيوعثمانية. ولأن هذا المشروع مُكلف ويتطلب إمكانيات ضخمة، ولإن إمكانيات تركيا متواضعة، لذلك نرى علاقاتها الخارجية فيها مد وجزر بسبب حجم الأهداف وقصور الإمكانيات.
*كاتب عراقي وأستاذ في العلاقات الدولية