ثقافة

من الرصافي إلى درويش… الموتى يعودون ثانيةً! (2)

بيدر ميديا.."

من الرصافي إلى درويش… الموتى يعودون ثانيةً! (2)

بروين حبيب

 

الجشع يريد المزيد دائماً، هكذا ختمت مقالي «من ماركيز إلى كافكا.. الموتى يعودون ثانيةً!» المنشور الأسبوع الماضي. فهل ينطبق هذا أيضا على نشر كتب الميتين في عالمنا العربي؟ علما أن حقوق المؤلف أو الورثة من الكتّاب مهما كانت النسخ المباعة كثيرة ـ وهي لا تتجاوز في أفضل حالاتها بضعة آلاف ـ ليس مبلغا ذا بال مقارنة بالمثَل الذي ذكرناه عن ابن فرانسواز ساغان، في مقالي السابق حيث تمكّن من عائدات بيع رواية أمه أن يسدد الديون التي كانت عليها، وقدرت بمليون ومئتي ألف يورو وتبقّى ما يضمن له حياة مريحة، بل مرفهة. وهناك أمر ينبغي توضيحه، سواء كان المحرك للورثة في نشر الكتب التي تركها مورّثوهم كاملة، أو منقوصة، الجشع وابتغاء الربح أو غيره، هو أن القانون إلى جانبهم حيث تتيح لهم حقوق الملكية الفكرية نشر ما في حوزتهم، إذ أصبح ملكَهم لمدة سبعين سنة، كما في أوروبا أو أمريكا، أو نصف قرن كما هو معمول به في أغلب البلدان العربية. وقد يهون الأمر إذا ترك المؤلف كتابا أو كتبا تامة، فنشرُها بعد موته لا يثير لغطا، بل هي إضافة سارة لعاشقي أدبه، لكن المشكلة تصبح أخلاقية لا قانونية إذا كان الكاتب قد أوصى بحرق الكتاب أو إتلافه، أو شدّد على عدم إعادة نشره إن كان نُشر سابقا، ففي نشر الكتاب مخالفة صريحة لرغبته التي لها مبرراتها، وهناك تجارب عربية مماثلة مثلما حصل مع طبعة ديوان الجواهري الأخيرة التي أصدرتها وزارة الثقافة العراقية، حيث ضمّنتها قصيدة «يوم التتويج» في مدح الملك فيصل الثاني، مع أن الجواهري عاش بعد كتابتها 44 سنة وأصر على أن لا يتضمّنها أي ديوان له أو مختارات، فقد كان يقول عنها، كما جاء في مذكراته «إنها زلة العمر، أقولها زلة، وأكثر من زلّة، ولا أتراجع أو أحاول أن أخفف من وطأة الموقف، لأنني بمحض أرادتي هرولت مسرعاً إلى تلك الهاوية» فهل أصابت اللجنة المشرفة على الديوان أو أخطأت في إثبات قصيدة تبرّأ منها صاحبها ووصفها بالزلّة والهاوية؟
وهذا الأمر يستدعي الحديث عن أحقية ورثة الكاتب في نشر مسوّداته مثلا، وإذا كان هذا النشر يفيد الباحثين والدارسين لأسرار الإبداع الفني، فماذا يستفيد القارئ العادي من ذلك؟ وكرأي شخصي أفضّلُ أن توضع المسوّدات في متحف شخصي يضم آثار الكاتب كما هو معمول به في الغرب، أو تودع في المكتبات الوطنية أو الجامعية وتتاح للباحثين، وقد وصف الشاعر شوقي بزيع في مقال له بعنوان «ماذا نفعل بمسوّدات الشعراء الراحلين؟» نشرَها بالانتهاك لحميمية الشاعر لأن «المسوّدة هي المعادل الرمزي للجسد العاري، الذي لم تتح له الفرصة بعد للاستتار خلف ثياب الشكل النهائي، وبالتالي يصبح اختلاس النظر إلى مسوّدات الشاعر أشبه برؤية الشاعر نفسه في حالة العري».
من هنا نفهم أيضا موقفه المبدئي من نشر مجموعة «لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي» للشاعر محمود درويش وما جرّه النقاش حولها من انقسام في الرأي حادّ، فحين نشر الروائي الفلسطيني إلياس خوري قصائد درويش التي وجدوها في شقته بعد موته، وبعضها كان قد سبق لدرويش أن نشره أو قرأه في حياته، والبعض الآخر مسوّدات مكتوبة بخط يده، انتقد شوقي بشدة صدور ديوان لدرويش فيه أخطاء عروضية واختلالات في الوزن، وهذا ليس خطأ عاديا في حقّ شاعر مثل درويش بل خطيئة فهو «شاعر الإيقاع الأمهر» كما وصفه علي جعفر العلاق، أو «شاعر ممسوس بالإيقاع» كما جاء في مقال شوقي بزيع الذي عنونه بـ«عندما لا يضع محمود درويش لمساته الأخيرة على ديوانه» واستدعى مقاله ردّا من الناقدة السورية المتخصصة في العروض ديمة شكر، وكانت تمتلك نسخة من المجموعة بخط درويش فكتبت مقالا بعنوان «محمود درويش لا يخطئ في الوزن» ردّ عليه شوقي مرة ثانية بدوره بمقال «الشاعر لا يخطئ، لكنّ الأخطاء كثيرة» رأى فيه أن بعض القصائد ما كان يجب أن تنشر لأنها كانت في طورها الجنيني، بحيث بدت أشبه بأرخبيل متناثر من الجمل والعبارات التي ظلت تحتاج إلى لمسات الشاعر الأخيرة في التنقيح والربط بين الفقرات، وتدارك الاختلالات الوزنية. والحقيقة أن السجال القائم حول الوزن لم يكن سوى الوجه الآخر للسؤال الأساسي، هل ننشر ما ترك الشاعر أو الروائي ولو مسودة ناقصة أو قصيدة غير مكتملة؟ ولعل السؤال لو طرح بصيغة أخرى لوجدناه يحمل إجابته ضمناً: لو قُدّر لمحمود درويش أن يطّلع على ديوانه الصادر بعد وفاته، هل كان سيعتبره إضافة له أم إساءة؟
وما حدث مع درويش حدث كذلك بصفة مضاعفة مع نجيب محفوظ، حيث إن حصوله على جائزة نوبل ضاعف الاهتمام بما كتب، فحتى في حياته جرت محاولات عديدة لنشر آثار له لم يكن يريد لها أن تنشر، أو أن تجمع من الصحف القديمة في كتاب يعاد طبعه، وقد هدّد باللجوء إلى القضاء حين أرادت إحدى دور النشر ترجمة ونشر رواية له عنوانها «ما وراء العشق» كانت مخطوطة عند صديقه المخرج علي بدرخان، وحصل عليها منه الناقد حسين عيد فألّف عنها كتابا بعنوان «نجيب محفوظ.. رواية مجهولة وتجربة فريدة». وكان نجيب محفوظ يرفض بشدة طبع قصصه الكثيرة وتقدر بسبعين قصة نشرها قبل صدور مجموعته القصصية الأولى «همس الجنون» وقد سأله يوسف القعيد كما جاء في كتابه «نجيب محفوظ إن حكى ثرثرة محفوظية على النيل»: «إذا فكّرت جهة ما فى طبع هذه القصص (أي المنشورة قبل روايته الأولى همس الجنون) في كتاب هل تعترض؟ أجابه صاحب نوبل: أعترض فورا» وهذا الموقف اتخذه أيضا إزاء نشر مقالاته الفلسفية، فقد أراد فتحي العشري جمعها في كتاب لنشرها فرفض نجيب محفوظ ذلك وعلّل رفضه بأنّ «وقتها قد فات. أهل الفلسفة المتخصصون عادوا من بعثاتهم فى أوروبا، وكتبوا كتابات فلسفية حقيقية، فكيف تُنشر فى هذا السياق كتاباتي الأولى؟». لكن هذا الهوس بنشر أعمال مجهولة لنجيب محفوظ ظل قائما فصدر عن دار الساقي سنة 2018 كتاب «همس النجوم» يضم 18 قصة مجهولة سلّمتها ابنة نجيب محفوظ إلى الأديب محمود شعير لنشرها، وشعير نفسه نشر سيرة ذاتية لمحفوظ بعنوان «البدايات والنهايات… أعوام نجيب محفوظ» كتبها صاحب نوبل في صباه على نسق كتاب «الأيام» لطه حسين وبقيت مفقودة لسنوات. وكذلك نشرت مجلة «العربي» في سلسلتها الذهبية كتاب الناقدة عزة بدر «قصص نجيب محفوظ المجهولة.. سحر المنابع الأولى» وهو دراسة نقدية للقصص مع إثبات بعض منها. ولم يختلف مصير مقالاته الفلسفية عن مصير قصصه القصيرة بعد وفاته، فقد جمعها أحمد عبد الحليم عطية ونشرها في كتاب بعنوان «نجيب محفوظ فيلسوفا». وكثير من المهتمين بإبداعه يذكرون قبل سنوات عرض رواية له للبيع بالمزاد العلني في الإنترنت كتبها في سن السادسة عشرة، وقد هدد يومها رئيس اتحاد كتاب مصر محمد سلماوي باتخاذ الاجراءات القانونية اللازمة لمنع بيع الرواية.
ولا نغفل دور الإنترنت وسهولة الوصول إلى المعلومة في نكش تراث الأدباء المجهول، خاصة أن من عادة المجلات القديمة نشر روايات كاملة متسلسلة، وقد أصبح أغلب المجلات القديمة وكثير من الكتب النادرة متاحا على الشبكة العنكبوتية. فكثرت في السنوات الأخيرة كتب تحمل عناوين مثل قصص، أو قصائد مجهولة لفلان، لعل أشهرها كتاب «الشخصية المحمدية» لمعروف الرصافي الذي نشرته دار الجمل بعد سبعين سنة من تأليفه و57 سنة من وفاة صاحبه، وقد امتنعت عدة دور عن نشره لجرأته الشديدة في تناول سيرة النبي، ومنع في بلدان عديدة، مما أسهم في الطلب الكبير عليه، رغم المشككين في صحة نسبته للرصافي، وفي سر اختفاء النسخة المكتوبة بيده، فهل يكشف لنا المستقبل أيضا عن كتب إشكالية أو ذات قيمة فنية عالية ادّخرها لنا مؤلفوها بعد وفاتهم؟ فلننتظر لنرى!

شاعرة وإعلامية من البحرين

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com