مقالات

لؤي‮ ‬أبو التمّن وتراجيديا العزلة الذهبية  1 – 2‬

بيدر ميديا.."

لؤي‮ ‬أبو التمّن وتراجيديا العزلة الذهبية  1 – 2‬
عبد الحسين شعبان
أخيراً‮ ‬ارتاح لؤي‮ ‬أبو التمّن في‮ ‬مرقده‮. ‬رحل بهدوء تام‮. ‬لم‮ ‬يقاوم ولم‮ ‬يتحدَّ‮ ‬ولم‮ ‬يعاند ولم‮ ‬يساجل ولم‮ ‬يجادل ولم‮ ‬يناقش كما اعتاد طيلة حياته،‮ ‬وهو الشخصية الاجتماعية المحبوبة والمهابة والقائد الطلابي‮ ‬الستّيني،‮ ‬فقد ارتضى التعايش مع ذلك الزائر الغريب طيلة سنوات،‮ ‬بل أنه استضافه إلى منزله ودخل معه في‮ ‬حوار صامت‮. ‬كان أحدهما‮ ‬ينظر إلى الآخر بحذر شديد وحيرة في‮ ‬أحيان كثيرة‮. ‬لم‮ ‬يحصل اشتباك بينهما،‮ ‬سوى تلميحاً‮ ‬أو إشارة،‮ ‬إلّا أن الكلمة السحرية الأثيرة الوحيدة التي‮ ‬كانت تطوف في‮ ‬المكان متى؟ ثم متى وأخيراً‮ ‬متى حتى جاء كانون الثاني‮ / ‬ينايـــــر‮ ‬2022‮.‬
كان لؤي‮ ‬أبو التمّن‮ (‬فرات‮) ‬فرض على نفسه عزلة طويلة قبل اجتياح وباء كورونا،‮ ‬فاتجه إلى زاوية‮ ‬يتأمل فيها ما‮ ‬يجري‮ ‬وقرّر الابتعاد مُلملماً‮ ‬بعضه إلى بعضه من كثر ما شاهد من ترّهات وزيف وسمع الكثير من اللغو والاجترار،‮ ‬خصوصاً‮ ‬وقد أصبح ذلك‮ “‬الغالب الشائع‮”‬،‮ ‬وهو الذي‮ ‬كان‮ ‬يبحث دائماً‮ ‬عن‮ “‬النادر الضائع‮”. ‬
ترك أمره إلى ذلك الضيف الذي‮ ‬سيقرر تلك‮ “‬المتى‮” ‬ويقبض الروح ويعلن الخبر،‮ ‬لكنه وهو في‮ ‬هذه الحال ظلّ‮ ‬معلّقاً‮ ‬بأحلامه الكبيرة‮: ‬الحريّة والعدالة،‮ ‬تلك الأحلام التي‮ ‬هي‮ “‬الحقيقة الوحيدة‮” ‬التي‮ ‬لا تنضب ولا تنتهي‮ ‬أو تتوقّف،‮ ‬حسب المخرج الإيطالي‮ ‬فريدريكو فيلليني،‮ ‬وكان صوته‮ ‬يأتيني‮ ‬بين الفينة والأخرى،‮ ‬فيزيد من أحزاني‮. ‬وكنت أنقطع عنه أسابيعاً‮ ‬أو أشهراً‮ ‬كي‮ ‬لا أسمع نبرة التأسّي‮ ‬والضعف الانساني‮ ‬حتى وإنْ‮ ‬كان فائقاً،‮ ‬لكنني‮ ‬لا أستطيع إلّا أن أعاود الاتصال،‮ ‬وكأننا كنا نتحدث قبل‮ ‬يوم أو‮ ‬يومين،‮ ‬فأراه متابعاً‮ ‬ومنشغلاً‮ ‬وكأننا نتواصل في‮ ‬حوارنا الذي‮ ‬لم‮ ‬يتوقف‮.‬
خبر مثل صاعقة
نزل عليّ‮ ‬خبر رحيل أبو التمّن نزول الصاعقة‮. ‬وعلى الرغم من أنني‮ ‬كنتُ‮ ‬متابعاً‮ ‬لأوضاعه الصحية ولعزلته،‮ ‬فهو لم‮ ‬يغادر المنزل تقريباً‮ ‬منذ قرابة‮ ‬4 ‮ ‬سنوات إلّا أن وقع الخبر كان صادماً‮. ‬وكنّا قد اتفقنا على اللقاء في‮ ‬ربيع العام‮ ‬2020 ‮ ‬ لكن اجتياح وباء الكورونا حال دون ذلك،‮ ‬وهكذا تغيّرت البرامج وتعطّلت الحياة الطبيعية وتبدّل كل شيء تقريباً،‮ ‬واتفقنا أخيراً‮ ‬على الصيف القادم،‮ ‬لكن القدر الغاشم كان أسرع منّا،‮ ‬وها هو‮ ‬يغافلنا وكأنه‮ ‬يتلصص على أخبارنا وما اتفقنا عليه ليسبقنا إلى حيث قرب موعد‮ “‬المتى‮”‬،‮ ‬ليخطف أعزّ‮ ‬الأصدقاء وكأنه‮ ‬يقف لنا بالمرصاد أو كما‮ ‬يقول الجواهري‮ ‬الكبير‮ :‬
جهمٌ‮ ‬يقيم على مدارجنا‮ / ‬وعلى صدى أنفاسنا حرسا
نعم إنه‮ “‬الذئب‮” ‬الذي‮ ‬ظلّ‮ ‬يترصّدنا لسنوات‮ ‬غير قليلة،‮ ‬فقد أفلح أخيراً‮ ‬في‮ ‬اقتناص فريسته الثمينة،‮ ‬خصوصاً‮ ‬حين ترجّل الفارس‮ ‬،‮ ‬بل أنه تقدّم من ذلك الزائر الغليظ الذي‮ ‬يأتي‮ ‬مواربة ليدعوه للتفاهم بكلّ‮ ‬كبرياء وليصافحه وليعلن أمامه أنه اتخذ قراره ولا رجعة فيه وليس هناك من داعٍ‮ ‬للمخاتلة أو المراوغة،‮ ‬فلم‮ ‬يعد‮ ‬يحتمل ما هو قائم لكثرة ما عرِف وخبِر من تجارب ومِحن،‮ ‬ناهيك عن اللّاجدوى من المواجهة‮.‬
كلّما رحل صديق أشعر أن قطعة من قلبي‮ ‬تُقتطع وليس من ذاكرتي‮ ‬وحسب،‮ ‬فما بالك بصديق أثير مثل لؤي‮ ‬أبو التمّن‮. ‬ولعلّ‮ ‬ذلك ما كتبته سريعاً‮ ‬لصديق أخبرني‮ ‬بعد لحظات من وفاته عن وقوع الحدث الجلل،‮ ‬وأراد مشاطرتي‮ ‬الحزن والأسى،‮ ‬وكم تمنّينا لبعضنا البعض حياة خالية من المكاره والأحزان،‮ ‬لكن ذلك سنّة الحياة،‮ ‬وكما ورد في‮ ‬القرآن الكريم‮ “‬فكل من عليها فان ويبقى وجه ربّك ذو الجلال والإكرام‮”  (‬سورة الرحمن‮ ‬– أية‮ ‬26 ‮ ) ‬ويبقى الموت الحقيقة المطلقة التي‮ ‬لا مردّ‮ ‬لها‮.‬
صداقة العمر
في‮ ‬أواخر العام‮ ‬1964 ‮ ‬تعرّفت على لؤي‮ ‬أبو التمّن وكنّا ما زلنا في‮ ‬بدايات حياتنا الجامعية،‮ ‬وكان الصديق الراحل صادق الحسني‮ ‬البغدادي‮ (‬أبو وسام‮) ‬رابطة التعارف بيننا،‮ ‬وأخبرني‮ ‬حينها أن لديه آراءً‮ ‬وانتقادات هي‮ ‬أقرب إلى ما كنّا نناقشه بعد عودة الحسني‮ ‬البغدادي‮ ‬من إيران التي‮ ‬اضطرّ‮ ‬الهروب إليها بعد انقلاب‮ ‬8 شباط‮ / ‬فبراير‮ ‬1963 ‮ ‬ وقد اصطحبه إلى تلك الرحلة الأثيرة الشيخ وهاب شعبان المرشد في‮ ‬حضرة الإمام علي‮ ‬وذو التاريخ الشيوعي‮ ‬العريق،‮ ‬والذي‮ ‬أصبح لاحقاً‮ ‬أحد أصدقاء لؤي‮ ‬أبو التمّن أيضاً،‮ ‬مثلما ظلّ‮ ‬الصديق فلاح الصكر‮ ‬يسأل عنه منذ أن تعرّف عليه حين جاء معزّياً‮ ‬باغتيال الشهيد ستار خضير العام‮ ‬1969 ‮ ‬ وذلك خلال اللقاء به في‮ ‬شارع الرشيد‮.‬
ومنذ اللقاء الأول شعرت أنني‮ ‬أمام مشروع صديق باهر بكلّ‮ ‬ما لهذه الكلمة من معنى،‮ ‬وتعمّقت علاقتي‮ ‬به من خلال عدد من الأصدقاء الآخرين بينهم الصديق كاظم عوفي‮ ‬البديري‮ ‬الذي‮ ‬كان معه في‮ ‬كلية التجارة ورياض محمد وفيما بعد د‮. ‬رياض البلداوي‮ ‬وآخرين‮ ‬،‮ ‬وكانت النيّة في‮ ‬تلك الفترة تتجه لإعادة تأسيس اتحاد الطلبة العام بعد ما تعرّض له من هجوم شرس من جانب انقلابيّ‮ ‬8 شباط‮ / ‬فبراير‮ ‬1963  وجماعات الحرس القومي،‮ ‬خصوصاً‮ ‬وقد تم اعتقال العديد من منتسبيه واغتيل تحت التعذيب عدد من مسؤوليه بينهم محمد الوردي‮ ‬وفيصل الحجاج وصاحب المرزة وآخرين‮. ‬
وكان قد نشط بهذا الملف مهدي‮ ‬الحافظ بعد عودته سرّاً‮ ‬إلى بغداد من براغ‮ ‬في‮ ‬مطلع العام‮ ‬1965 ‮ ‬ حيث تهيأت الظروف لعقد اجتماع في‮ ‬أواخر العام‮ ‬1965 ‮ ‬ خصوصاً‮ ‬بعد إعادة توزيع القوى إثر تغييرات حصلت داخل الحزب الشيوعي،‮ ‬باستبدال خط آب‮ ‬1964‮ ‬ بسياسة جديدة أساسها اعتبار سلطة عارف استمراراً‮ ‬لسلطة البعث حتى وإنْ‮ ‬كانت أخف وطأة من خلال بعض الخطوات الإنفراجية،‮ ‬ولكن من حيث احتكارها للعمل السياسي‮ ‬والنقابي‮ ‬والمهني‮ ‬بما فيه الصحافة وحريّة التعبير ظلّت دون تغيير‮ ‬يُذكر،‮ ‬ناهيك عن استمرار تعقيدات القضية الكردية وعدم التوصّل إلى حلّ‮ ‬معقول بشأنها وتجدّد القتال بين حين وآخر،‮ ‬وتردّي‮ ‬الوضع الإقتصادي‮ ‬بسبب الإجراءات‮ ‬غير المدروسة التي‮ ‬اتخذتها الحكومة في‮ ‬14 ‮ ‬تموز‮/ ‬يوليو‮ ‬1964 ‮ ‬تحت عنوان‮ “‬القرارات الاشتراكية‮” ‬وقادت إلى تأميم مشاريع ومرافق وطنية حيوية بما فيها القطاع المصرفي‮.‬
‮ ‬يضاف إلى ذلك التجاذبات التي‮ ‬تردّدت بخصوص النفط والكبريت وامتيازاتهما الجديدة وما كان‮ ‬يثار من لغط‮  ‬في‮ ‬المجالس الخاصة،‮ ‬وهو ما سبّب ردود فعل حتى وإن بدت أقرب إلى إرهاصات،‮ ‬لكنها اتخذت بُعداً‮ ‬أوسع فيما بعد،‮ ‬بحيث اضطرتّ‮ ‬قوى من داخل جبهة الحكم القومية‮ (‬الاتحاد الاشتراكي‮ ‬العربي‮) ‬للتململ والتمايز عن الاتجاه السائد فيها،‮ ‬وقاد لاحقاً‮ ‬إلى تفكّك الاتحاد الاشتراكي‮ ‬نفسه وخروج قوى من داخله أكثر راديكالية‮.‬
الانتخابات الطلابية
قاد التحرّك السياسي‮ ‬والطلابي‮ ‬بما فيه من داخل قوى قريبة من السلطة إلى إعلان الرغبة في‮ ‬إجراء إنتخابات عامة،‮ ‬وكانت تلك النفحة الليبرالية التي‮ ‬أطلقها الدكتور عبد الرحمن البزاز رئيس الوزراء انعكست في‮ ‬إجراء‮ “‬بروفات‮” ‬لعدد من القطاعات منها قطاع الطلبة،‮ ‬فأجريت الإنتخابات في‮ ‬ربيع العام‮ ‬1967  وفاز فيها اتحاد الطلبة‮ (‬السرّي‮ ‬المحظور‮) ‬بنسبة‮ ‬76  ‮ ‬بالمئة من المقاعد الإنتخابية في‮ ‬جامعة بغداد على الرغم من الضغوط التي‮ ‬تعرّض لها بعض مرشّحيه،‮ ‬فقد انسحب ممثلوه من كليتي‮ ‬الحقوق والتربية الرياضية‮ (‬بغداد‮)‬،‮ ‬كما فاز الاتحاد‮ ‬ 100  ‮ ‬بالمئة في‮ ‬جامعة البصرة و‮ ‬60  بالمئة في‮ ‬جامعة الموصل،‮ ‬وقد عكست نسبة الأصوات الهوّة الساحقة بين فوز الاتحاد الطلابي‮ ‬المحسوب على الحزب الشيوعي‮ ‬وبين واقع القوى الأخرى،‮ ‬وهو ما جئت عليه في‮ ‬مداخلتي‮ ‬عن د‮. ‬خير الدين حسيب الموسومة‮: “‬الرياضة النفسية والمثقف الكوني‮ ‬والكتلة التاريخية‮” ‬المنشورة في‮ ‬مجلة المستقبل العربي،‮ ‬العدد‮ ‬454 كانون الأول‮ / ‬ديسمبر‮ ‬2016.
وقد لفت هذا الفوز الساحق إلى أن ميزان القوى على الرغم من القرب من السلطة من جانب القوى القومية ليس لصالحها،‮ ‬وهو ما دفع بعض الاتجاهات المتشدّدة لإلغاء الانتخابات في‮ ‬اليوم التالي،‮ ‬بل إن بعض الصحف كتبت‮ “‬أن القوى الشعوبية بدأت ترفع رأسها من جديد‮” ‬في‮ ‬إشارة إلى فوز إتحاد الطلبة في‮ ‬الانتخابات‮. ‬وهكذا تبخّرت فكرة الانتخابات العامة والانتقال إلى الحياة النيابية وإعداد دستور دائم،‮ ‬حتى حصل انقلاب‮ ‬17 تموز‮/ ‬يوليــــو‮ ‬1968‮.‬
كان لؤي‮ ‬في‮ ‬صلب النشاط الطلابي‮ ‬خلال وبُعيد الانتخابات الطلابية،‮ ‬بما فيها اللقاء الاحتفالي‮ ‬الذي‮ ‬حصل في‮ ‬مطعم سولاف،‮ ‬وكان ذلك بمثابة لقاء عام حضره عشرات من الفائزين في‮ ‬الانتخابات بموعد مسبق‮. ‬
انشطار الحزب الشيوعي
تكثّفت لقاءاتي‮ ‬مع لؤي‮ ‬أبو التمّن‮ (‬فرات‮) ‬خلال فترة الانشطار التي‮ ‬حصلت في‮ ‬الحزب الشيوعي‮ ‬في‮ ‬17 أيلول‮ / ‬سبتمبر‮ ‬1967 ‮ ‬ حيث قاد الاتجاه المتياسر الجديد عزيز الحاج وبقي‮ ‬الاتجاه التقليدي‮ ‬بقيادة عزيز محمد‮ ‬،‮ ‬ولا أُخفي‮ ‬القارئ سرّاً‮ ‬إذا قلت أن لؤي‮ ‬كان‮ ‬يترنّح بين الإتجاهين،‮ ‬وهو أمر شمل الكثير من الشيوعيين وأصدقائهم ومنهم كاتب السطور الذي‮ ‬ظلّ‮ ‬موزعاً‮ ‬بين الاثنين،‮ ‬وسبق لي‮ ‬أن أشرت إلى ذلك أكثر من مرّة‮.‬
لقد حملت الشعارات الراديكالية جاذبية كبيرة وسط الشباب والطلاب بشكل خاص،‮ ‬وجمهرة الحزبيين وأصدقائهم عموماً،‮ ‬لاسيّما وأنها جاءت بعد هزيمة‮ ‬ 5 حزيران‮ / ‬يونيو‮ ‬1967  ‮ ‬حيث كان النقاش في‮ ‬صفوفنا قائماً‮: ‬هل نرفع شعار‮ “‬كلّ‮ ‬شيء إلى الجبهة‮” ‬أم‮ “‬كل شيء من أجل الجبهة‮” ‬والشعار الأخير رفعته القيادة المركزية للحزب الشيوعي،‮ ‬مشدّدة على الإطاحة بحكم عبد الرحمن محمد عارف،‮ ‬شقيق عبد السلام محمد عارف زميل الزعيم عبد الكريم قاسم في‮ ‬قيادة ثورة‮ ‬14 تموز‮/ ‬يوليو‮ ‬1958 والمشارك في‮ ‬انقلاب‮ ‬8 ‮ ‬شباط‮ / ‬فبراير‮ ‬1963 ‮ ‬بقيادة حزب البعث،‮ ‬والذي‮ ‬أصبح رئيساً‮ ‬للجمهورية،‮ ‬ومن ثم قاد انقلاب‮ ‬18 ‮ ‬تشرين الثاني‮ / ‬نوفمبر‮ ‬ 1963  وقد توفّي‮ ‬بعد حادث‮ ‬غامض بسقوط طائرته بين مدينتي‮ ‬القرنة والبصرة في‮ ‬13 نيسان‮/ ‬أبريل‮ ‬1966 ‮.‬
وأتذكّر تظاهرة القيادة المركزية بمناسبة الذكرى الأولى لنكسة‮ ‬5 حزيران‮ / ‬يونيو‮ ‬1967  التي‮ ‬اخترقت شارع الرشيد من الميدان وحتى منطقة‮ “‬المربعة‮” ‬قرب مقهى البرازيلية،‮ ‬حيث واجهتها قوى الأمن لتفريقها واعتقلت عدداً‮ ‬من المتظاهرين‮. ‬ورويت ذلك بشكل مفصّل في‮ ‬مطالعتي‮ ‬عن طارق الدليمي‮ ‬الموسومة‮ “‬الصديق اللّدود‮” – ‬كلّما اختلفت معه ازددت محبّة له‮. ‬والمنشورة في‮ ‬جريدة الزمان‮ (‬العراقية‮) ‬على حلقتين،‮ ‬العددان‮ ‬ 6588 و‮ ‬6589 بتاريخ‮ ‬18 و‮ ‬ 19 شباط‮ / ‬فبراير‮ ‬ 2020   حيث كانت الشعارات اليسارية في‮ ‬ذروتها والحناجر تصدح‮ “‬باسم القيادة‮ ‬يسقط الحكم العسكري‮” ‬و‮ “‬يا فاشي‮ ‬شيل إيدك كل الشعب ما‮ ‬يريدك‮”‬،‮ ‬في‮ ‬حين كانت شعارات اللجنة المركزية تؤكد على الجبهة الوطنية الموحّدة‮ (‬جبهة وطنية لا استعمار ولا رجعية‮) ‬وإطلاق سراح المعتقلين وحلّ‮ ‬المسألة الكردية وانتهاج سياسة نفطية تعبّر عن مصالح الناس وطموحاتهم‮.‬
وعلى الرغم من تململنا وقلقنا وتردّدنا بالاختيار بين القيادة واللجنة،‮ ‬إلّا أننا في‮ ‬نهاية المطاف وبعد أسابيع من الأخذ والردّ‮ ‬والشدّ‮ ‬والجذب حسمنا أمرنا بسبب ما تبيّن من اختيار القيادة المركزية أساليب عنفية وصبيانية‮  ‬في‮ ‬التعامل مع الرفاق بعد اعتقالها الرفيقين زكي‮ ‬خيري‮ ‬و بهاء الدين نوري‮  ‬لنحو‮ ‬20 ‮ ‬يوماً‮ (‬الذي‮ ‬تمكن من الهرب بعد أن جرحت إحدى‮ ‬يديه‮)‬،‮ ‬إضافة إلى مبالغات وضجيج إعلامي،‮ ‬بحيث ارتفعت الدعوات للانطلاق من الاهوار للزحف على المدن في‮ ‬خطة أقل ما‮ ‬يقال عنها أنها‮ ‬غير واقعية ولم تأخذ بنظر الاعتبار الظروف والأوضاع السائدة وتوازن القوى،‮ ‬دون أن‮ ‬يعني‮ ‬ذلك التقليل من البسالة والجرأة التي‮ ‬اتسمت بها المجموعات التي‮ ‬كلّفت بذلك‮.‬
قيادات اتحاد الطلبة
انحاز التنظيم الطلابي‮ ‬بأغلبيته الساحقة إلى جانب حزب القيادة المركزية،‮ ‬ولم‮ ‬يبق في‮ ‬صف اللجنة المركزية أو قريب منها أكثر من‮ ‬10 من الكوادر الطلابية،‮ ‬في‮ ‬حين كان هناك نحو‮ ‬80 ‮ ‬كادراً‮ ‬مع القيادة،‮ ‬إضافة إلى مئات من الأعضاء والأصدقاء،‮ ‬ولكن بالتدرّج بدأ نفوذنا‮ ‬يتعزّز،‮ ‬فتوافد علينا العديد من الرفاق والأصدقاء،‮ ‬بينهم من كان في‮ ‬القيادة المركزية واتحاد الطلبة الموازي،‮ ‬وهكذا بدأ جسم اتحاد الطلبة بالتحسّن والتعافي،‮ ‬علماً‮ ‬بأننا حاولنا لؤي‮ ‬وكاتب السطور الابقاء على الاتحاد موحّداً‮ ‬وقبول كون جماعة القيادة المركزية تمثّل‮ “‬الأغلبية‮”‬،‮ ‬لكن الأمور سارت باتجاه آخر،‮ ‬خصوصاً‮ ‬وبعض الرؤوس كانت حامية‮.‬
عملنا لاحقاً‮ ‬وبعد أن أصبح الأمر الواقع‮ “‬واقعاً‮” ‬لؤي‮ ‬وأنا‮  ‬في‮ ‬مكتب سكرتارية اتحاد الطلبة الذي‮ ‬ضمّ‮ ‬حسن أسد الشمري‮ ( ‬السكرتير العام وكان محكوماً‮ ‬لعشر سنوات‮ ‬غيابياً،‮ ‬وهو من خانقين ودرس في‮ ‬نفس مرحلتنا في‮ ‬كلية التربية الرياضية،‮ ‬وقد انتخب قبل الانشقاق وبعد الانتخابات الطلابية مباشرة،‮ ‬علماً‮ ‬بأن الشمري‮ ‬هو الآخر ظلّ‮ ‬متململاً‮ ‬لبضعة أسابيع،‮ ‬فعمل مع الرفيق ابراهيم علاوي‮ / ‬مجموعة الكادر‮ ‬،‮ ‬ولكنه عاد إلى الحزب في‮ ‬حين توجّه ابراهيم علاوي‮ ‬مع تنظيماته إلى القيادة المركزية‮).‬
‮ ‬ومن القيادات الطلابية التي‮ ‬برزت بعد انشطار الحزب آنذاك سعد الطائي‮  ‬وصلاح زنكنة ويوسف مجيد وحميد برتو‮  ‬وسعدي‮ ‬السعيد وفايز عبد الرزاق الصكر وطه صفوك وكانت بساتينهم في‮ ‬الراشدية مأوى لنا ولاجتماعاتنا،‮ ‬خصوصاً‮ ‬الموسّعة،‮  ‬وكان من النشطاء البارزين مهدي‮ ‬السعيد ورقيّة الخطيب‮ (‬تزوجت من الكادر الحزبي‮ ‬عزيز حميد وبعد أشهر اعتُقل زوجها وقتل تحت التعذيب في‮ ‬قصر النهاية‮ ‬1970 ) وشقيقها حمّاد الخطيب وبخشان زنكنة‮ (‬أم بهار‮) ‬وناظم الجواهري‮ ‬وزهير جعفر،‮ ‬ومحمد الأسدي‮ ‬وعلي‮ ‬العاني‮ ‬ومحمود شكارة وكاظم عوفي‮ ‬ومحمد حسن السلامي‮ ‬وشاكر الدجيلي‮ (‬الذي‮ ‬أصبح عضواً‮ ‬في‮ ‬اللجنة المركزية واختفى قسرياً‮ ‬العام‮ ‬2004 ) وفلاح وصلاح الصكر‮ (‬شقيقا الشهيد ستّار خضيّر الذي‮ ‬اغتيل في‮ ‬حزيران‮ ‬1969 ) ومحمد الشبيبي‮ ‬ومالك حسن وجمال الشمّري‮ ‬ولفتة بنيّان وشيروان جميل بالطة‮ (‬استشهد العام‮ ‬1973 ‮ ‬مع‮ ‬12 كادراً‮ ‬شيوعياً‮ ‬واتهم عيسى سوار من الحزب الديمقراطي‮ ‬الكردستاني‮ ‬باغتيالهم بعد أن كانوا عائدين من الدراسة وعبروا الحدود السورية‮ ‬– العراقية من القامشلي‮ ) ‬وعلاء أبو العيس‮ (‬الذي‮ ‬اعتقل مع سعدي‮ ‬السعيد في‮ ‬بساتين الراشدية‮) ‬وعطية فاضل‮ (‬فارسة‮) ‬ونعمان شعبان ورابحة الناشئ ومن خارج بغداد تنظيمات البصرة وأبرزهم محمد فؤاد هادي‮ (‬استشهد في‮ ‬بشتاشان‮ ‬1983 ) ونزار جعفر وسميرة البياتي،‮ ‬ومن الفرات الأوسط كان المسؤول‮: ‬محمد جواد فارس‮ (‬الحلة‮) ‬وطالب عوّاد‮ (‬كربلاء‮) ‬و عدنان الأعسم‮ (‬النجف‮) ‬ومن كردستان نوروز شاويس‮ (‬السليمانية‮) ‬و منعم العطار‮ (‬إربيل‮ ‬– دار المعلمين‮) ‬وقد قُدّر لي‮ ‬الإشراف على إقامة‮  ‬اتحاد الطلبة العام في‮ ‬كردستان أيار‮ / ‬1970 ويعتبر امتداداً‮ ‬لاتحاد الطلبة العام في‮ ‬الجمهورية العراقية‮ ‬،‮ ‬حيث حضره‮ ‬37 ‮ ‬مندوباً‮ ‬،‮ ‬وقد انعقد ليومين بشكل سرّي‮ ‬في‮ ‬دارِ‮ ‬جديدة بمنطقة أزادي،‮ ‬وحضره مندوبين من جامعة الموصل وجامعة السليمانية وطلبة من إربيل وكركوك‮.‬
وقد جرى انعطاف نحونا بعد انقلاب17 تموز‮ / ‬يوليو‮ ‬1968 والحملة القمعية ضدّ‮ ‬القيادة المركزية،‮ ‬فكان من أبرز الكوادر التي‮ ‬التحقت بنا حميد الظاهر‮ (‬لطفي‮) ‬وفاضل العكام‮ (‬خالد‮) ‬الذي‮ ‬كان أنشط الطلبة‮  ‬ولديه نحو‮ ‬30 صديقاً،‮ ‬وقد اعتقل في‮ ‬قصر النهاية وبقي‮ ‬لنحو عام كامل‮ (‬1970 – 1971 ) واعتقل مرّة أخرى في‮ ‬الثمينينيات ومكث في‮ ‬السجن نحو سنتين،‮ ‬ورواء الجصاني‮ ‬أصبح من قيادات الاتحاد لاحقاً،‮ ‬كما انضم إلينا مهنّد البرّاك‮ (‬نوّار‮) (‬الكلية الطبية‮) ‬في‮ ‬نهاية العام‮ ‬1969  ‮ ‬وعزيز حسون عذاب المثقف البارز‮ (‬كلية الصيدلة‮) ‬وأسعد تقي‮ ‬زيردهام‮ (‬كلية الصيدلة‮) ‬وآخرين لايتّسع المجال لذكرهم‮.‬
الوفد المفاوض‮ ‬
كُلفنا لؤي‮ ‬وكاتب السطور من إدارة الحزب بقيادة الوفد المفاوض مع الاتحاد الوطني‮ ‬لطلبة العراق الذي‮ ‬ضمّ‮ ‬كريم الملّا ومحمد دبدب وحسن المطير ورويت في‮ ‬مطالعتي‮ ‬عن كريم الملّا والموسومة‮ “‬سردية الاختلاف ونبض الائتلاف‮” ‬والمنشورة في‮ ‬جريدة الزمان‮ (‬العراقية‮) ‬في‮ ‬تشرين الأول‮/ ‬أكتوبر‮ ‬2015‮.‬
اكتشفنا أمر المطير بصفته الوظيفية الأمنية باعتباره الساعد الأيمن لناظم كزار،‮ ‬وقد تم تقديمه لنا باسم الزميل‮ “‬فيصل‮”‬،‮ ‬ثم عرفنا من الصديق طيب محمد طيب الذي‮ ‬كان‮ ‬يمثل مجموعة المكتب السياسي‮ ‬المنشطر عن الحزب الديمقراطي‮ ‬الكردستاني‮ (‬وقد عمل لاحقاً‮ ‬في‮ ‬وزارة الخارجية ثم انتقل إلى المعارضة وعاد إلى وزارة الخارجية وأصبح سفيراً‮ ‬بعد الاحتلال‮) ‬وفاضل رسول ملّا محمود‮ (‬الذي‮ ‬اغتيل مع عبد الرحمن قاسملو في‮ ‬فيينا‮ ‬1988 ? واتهمت الأجهزة الإيرانية باغتيالهما،‮ ‬علماً‮ ‬بأنه كان صديق الإيرانيين‮)‬،‮ ‬اسمه الحقيقي‮ “‬حسن المطير‮” ‬ويحمل رتبة ملازم أول،‮ ‬وهو من الجلادين‮  ‬في‮ ‬قصر النهاية المعروف باسم سجن الموت والعذاب‮. ‬وقد شارك المطير في‮ ‬تعذيب لؤي‮ ‬،‮ ‬حيث كانت عيناه ويداه موثوقتان وهو مشدود إلى الحائط،‮ ‬ولكنه عرفه من نبرة صوته،‮ ‬فقد بقينا لنحو تسعة أشهر ونحن نخوض مفاوضات وحوارات وهو‮ ‬يجلس معنا ويرحّب بنا بحرارة حين نحضر‮.‬
وأتذكّر مرّة وبعد أن عرفنا حقيقته وكنّا نشكّ‮ ‬أصلاً‮ ‬بوجوده لأنه طيلة الوقت لم‮ ‬يتحدّث ولم نكن نعرف سبباً‮ ‬لوجوده،‮ ‬كما لم‮ ‬يكن لنا أي‮ ‬معرفة به من قبل،‮ ‬مثل الملّا ودبدب وقبلهما حميد سعيد وحتى ناظم كزار الذي‮ ‬تولّى إدارة الاتحاد الوطني‮ ‬بعد‮ ‬17 تموز‮ / ‬يوليو‮ ‬ 1968 مباشرة،‮ ‬ورفضنا اللقاء به،‮ ‬في‮ ‬حين كان المطير‮ ‬غامضاً‮ ‬ومثيراً‮ ‬للشك‮.‬
وبعد بيان‮ ‬11 آذار‮ / ‬مارس‮ ‬1970  حلّ‮ ‬محلّ‮ ‬طيب محمد طيب وفاضل رسول ملّا محمود وصلاح الدين عقراوي،‮ ‬ممثلين عن الحزب الديمقراطي‮ ‬الكردستاني،‮ ‬باسم اتحاد طلبة كردستان،‮ ‬حيث مثله فرهاد عوني‮ ‬الذي‮ ‬كان متعاطفاً‮ ‬معنا إلى حدود كبيرة بعد أن تعرّضنا إلى ضربة موجعة بعد بيان‮ ‬11 آذار/مارس‮ ‬1970 ‮ ‬ وعادل مراد الذي‮ ‬أصبح نائباً‮ ‬لكريم الملّا رئيس الاتحاد‮.‬
لم‮ ‬يتم التوصّل إلى اتفاق بيننا وبين الاتحاد الوطني‮ ‬لطلبة العراق على الرغم من أننا تجاوزنا نحو‮ ‬80 ‮ ‬بالمئة من نقاط الاختلاف بشأن البرنامج،‮ ‬لكن شروط الاتحاد لم نكن قادرين على هضمها،‮ ‬أولها‮ ‬– اعتماد إسم الاتحاد الوطني‮ ‬وإلغاء اسم اتحاد الطلبة،‮ ‬وثانيها‮ ‬– استبدال التمثيل الخارجي،‮ ‬وكان لديهم موقفاً‮ ‬سلبياً‮ ‬من مهدي‮ ‬الحافظ،‮ ‬وبخصوص النقطة الأولى قدّمنا أكثر من مقترح،‮ ‬الأول‮ ‬– دمج الاسمين،‮ ‬حرصاً‮ ‬منا على التعاون والعمل الموحد المهني‮ ‬بحيث‮ ‬يكون الاسم‮ “‬اتحاد الطلبة الوطني‮ ‬في‮ ‬العراق‮” ‬أو اعتماد الاسم الرسمي‮ ‬الذي‮ ‬جاء بالقانون رقم‮ ‬97 لعام‮ ‬1969 ? حيث حدّد الاسم‮ “‬الاتحاد العام لطلبة العراق‮”‬،‮ ‬لكنهم رفضوا المقترحين بشدّة وأصرّوا أن ننضوي‮ ‬تحت لواء الاتحاد الوطني‮ ‬وهو بالنسبة لي‮ ‬وللؤي‮ ‬كان أمراً‮ ‬غير مقبول على الإطلاق،‮ ‬علماً‮ ‬بأن إدارة الحزب لم تكن بذات الحساسية التي‮ ‬نتحدّث عنها نحن العاملان في‮ ‬الوسط‮ ‬،إضافة إلى العديد من أعضاء سكريتارية اتحاد الطلبة‮. ‬
واقترحنا أن نختار إسماً‮ ‬جديداً‮ ‬بحيث‮ ‬يكون تأسيس الاتحاد وفقاً‮ ‬للقانون وعلى أساس نقابي‮ ‬ومهني‮ ‬كنقابة موحّدة ويعتمد ذلك على إجراء انتخابات حرّة،‮ ‬سواءً‮ ‬بالاتفاق أو من خلال قوائم مختلفة أو بتحالفات خاصة،‮ ‬ويحتفظ كلّ‮ ‬منّا بتاريخه القديم،‮ ‬علماً‮ ‬بأن اتحاد الطلبة تأسس في‮ ‬العام‮ ‬1948 ولم‮ ‬يكن الشيوعيون وحدهم فيه،‮ ‬بل ضمّ‮ ‬مختلف القوى حينها‮.  ‬
كان الملّا ودبدب قد اقترحا استمرار الحوار حتى بعد الانتخابات ونحن لم نرغب بانقطاعه،‮ ‬بل أكثر من ذلك،‮ ‬عرض علينا تمثيلاً‮ ‬في‮ ‬المكتب التنفيذي‮ ‬باسم الطلبة الشيوعيين،‮ ‬لكننا رفضنا تلك الصيغة واعتبرناها تسيساً‮ ‬للعمل المهني‮ ‬والنقابي،‮ ‬وكنّا قد رفضنا عرضاً‮ ‬أكثر‮ “‬سخاءً‮” ‬كأن‮ ‬يكون السكرتير العام منا،‮ ‬والرئيس منهم ونائبه كردي‮ ‬ويكون لنا‮ ‬8 أعضاء من مجموع‮ ‬27 ‮ ‬عضواً‮ (‬المجلس المركزي‮) ‬ولهم‮ ‬12 ‮ ‬وللأكراد‮ ‬5 وللقوميين العرب‮ ‬2 ‮ ‬ لكن الاتفاق لم‮ ‬يحصل بسبب الإشتراطات التي‮ ‬ذكرناها،‮ ‬إضافة إلى أن رأينا كان‮ “‬نأخذ ما تأخذون‮”‬،‮ ‬أي‮ ‬أن تكون حصّتنا موازية لحصّة الاتحاد الوطني‮.‬
‮ ‬ونزلنا إلى الانتخابات بتحالف مع الحركة الاشتراكية العربية التي‮ ‬ساعدناها في‮ ‬تأسيس‮ “‬جبهة الطلبة التقدميين‮” ‬كتنظيم طلّابي،‮ ‬ولم تحصل قائمتنا‮ “‬المهنية‮” ‬على أية مقاعد تذكر وحقق الاتحاد الوطني‮ “‬فوزاً‮ ‬ساحقاً‮ ‬ماحقاً‮” ‬بسبب تداخلات الأجهزة الأمنية،‮ ‬فحصل على نتائج هي‮ ‬أقرب إلى نتائج الانتخابات في‮ ‬الأنظمة الديكتاتورية‮  ‬بحوالي‮ ‬99 ‮ ‬بالمئة‮ ‬من المقاعد الانتخابية،‮ ‬بعد أن كان قد حصل في‮ ‬انتخابات العام‮ ‬1967 على أقل من‮ ‬2‮  ‬بالمئة‮ ‬ولذلك شكّكنا بنتائج الانتخابات واعتبرناها مزوّرة،‮ ‬ونشرنا تقريراً‮ ‬موسّعاً‮ ‬وبالأسماء والأرقام للحوادث التي‮ ‬حصلت حينها وقام بإعداده لؤي‮ ‬أبو التمّن وكاتب السطور وبإشراف من الرفيق ماجد عبد الرضا‮. ‬
وقد تمت دعوتنا لؤي‮ ‬وأنا لحضور افتتاح المؤتمر ما بعد الانتخابات،‮ ‬فقاطعنا ذلك،‮ ‬وكان اتحاد الطلاب العالمي‮ ‬قد أرسل وفداً‮ ‬لتقصي‮ ‬الحقائق إلى بغداد والتقيناه حميد برتو وكاتب السطور،‮ ‬وزوّدناه بالمعلومات الضرورية التي‮ ‬سبق أن نشرناها على نطاق واسع والتي‮ ‬توضح وجهة نظرنا بشأن تزوير الانتخابات والأساليب التي‮ ‬استخدمت والانتهاكات التي‮ ‬حصلت والتجاوزات التي‮ ‬لمسها الطلبة أمام أعينهم‮. ‬
وكان قد حضر كجمن من ألمانيا الديمقراطية وفتحي‮ ‬الفضل من السودان‮ (‬حالياً‮ ‬عضو المكتب السياسي‮ ‬للحزب الشيوعي‮ ‬السوداني‮) ‬وكلاهما من قيادات اتحاد الطلاب العالمي‮ ‬الذي‮ ‬كان سكرتيره العام مهدي‮ ‬الحافظ بعد نوري‮ ‬عبد الرزاق،‮ ‬وقد اصطحبناهما إلى أحد الاجتماعات التي‮ ‬نظّمناها لسكرتارية اتحاد الطلبة في‮ ‬بغداد الجديدة في‮ ‬أحد البيوت،‮ ‬وفي‮ ‬أحد المرّات إلى الشارع أبو نواس وفي‮ ‬مرّة ثالثة لمشاهدة فيلم في‮ ‬سينما أطلس‮. ‬ويمكن مراجعة تفاصيل تلك الفترة في‮ ‬الكتاب الذي‮ ‬حاورني‮ ‬فيه توفيق التميمي‮ (‬المختفي‮ ‬قسرياً‮ ‬منذ مطلع العام‮ ‬2020  ‮) ‬والموسوم‮ “‬المثقّف في‮ ‬وعيه الشقي‮”‬،‮ ‬دار بيسان،‮ ‬بيــــــــروت،‮ ‬2013‮.‬
وكان الحزب قد نظّم كونفرنساً‮ ‬حزبياً‮ ‬أشرف عليه ماجد عبد الرضا حضره حوالي‮ ‬25 رفيقاً‮ ‬ووفقاً‮ ‬لذاكرتي‮ ‬فإنه انعقد في‮ ‬بغداد الجديدة أيضاً،‮ ‬كما عقد كونفرنساً‮ ‬طلابياً‮ ‬يوم‮ ‬10 ‮ ‬تشرين الأول‮ / ‬أكتوبر‮ ‬1969 ‮ ‬حضره‮ ‬ 44 مندوباً‮ ‬في‮ “‬جزيرة أم الخنازير‮”. ‬ناقشنا فيهما مسألة المشاركة في‮ ‬الانتخابات واختيار قيادة طلابية جديدة بعد سلسلة تغيرات مؤقتة منذ انعقاد المؤتمر الرابع في‮ ‬28 كانون الأول‮ / ‬ديسمبر‮ ‬1968 ‮ ‬ وقد جئت على ذلك في‮ ‬كرّاس أصدرته في‮ ‬بشتاشان عن مطبعة طريق الشعب العام‮ ‬1983 والموسوم‮ “‬لمحات من تاريخ الحركة الطلابية في‮ ‬العراق‮”.‬
عضويات شرف
وعلى الرغم من التباعد الذي‮ ‬حصل فقد منح الاتحاد الوطني‮ ‬لطلبة العراق عضويات شرف إلى‮ ‬20 ‮ ‬شخصية بعثية أو محسوبة عليها و4 ‮ ‬كرد و4 ‮ ‬شيوعيين من قيادات اتحاد الطلبة هم نوري‮ ‬عبد الرزّاق وماجد عبد الرضا ولؤي‮ ‬أبو التمّن وعبد الحسين شعبان،‮ ‬ونقل الخبر عبر التلفزيون وفي‮ ‬الإذاعة وتناولته الصحف أيضاً،‮ ‬وظنّ‮ ‬الكثيرون أنّنا حضرنا المؤتمر ولكن لم‮ ‬يحصل شيء من هذا القبيل،‮ ‬لكن الحوارات استمرت،‮ ‬قبل أن تنقطع إثر حملة اعتقالات ضدّنا واغتيال محمد الخضري‮ ‬وقمع مشاركتنا في‮ ‬مسيرة الاحتفال باتفاقية‮ ‬ 11 آذار‮ ‬يوم‮ ‬21 آذار‮/ ‬مارس‮ ‬ 1970 بمناسبة‮ ‬يوم عيد نوروز‮.‬
كان آخر لقاء حضرنا فيه مع الاتحاد الوطني‮ ‬لؤي‮ ‬أبو التمّن وأنا هو‮ ‬يوم‮ ‬20 آذار‮ / ‬مارس‮ ‬ 1970   حيث كان من المقرّر الخروج بمسيرة شعبية‮ ‬يشارك فيها الكرد لأول مرّة وتشترك فيها نقابات واتحادات،‮ ‬إضافة إلى حزب البعث والحزب الديمقراطي‮ ‬الكردستاني‮. ‬وعلمنا من إدارة الحزب أن الحزب استحصل على موافقة بالمشاركة،‮ ‬على الرغم من بداية حملة ضدّنا،‮ ‬حيث اعتقل من الطلبة فلاح الصكر ومحمد حسن السلامي‮ ‬و11 طالباً‮ ‬آخر،‮ ‬كانوا‮ ‬يكتبون شعارات تؤيّد اتفاق‮ ‬11 آذار بين الحكومة والحركة الكردية على الجدران فجر الثاني‮ ‬عشر أو الثالث عشر من آذار‮/ ‬مارس‮ ‬1970 ‮.‬
وحين أبلغنا قيادة الاتحاد الوطني‮ ‬رغبتنا بالمشاركة في‮ ‬المسيرة في‮ ‬إطار الاتفاق العام،‮ ‬رفضوا ذلك،‮ ‬وأبلغني‮ ‬كريم الملّا ونحن في‮ ‬حديقة الاتحاد بأن المعلومات التي‮ ‬لديه بأنه سيتم التصدّي‮ ‬لنا وتفريقنا في‮ ‬حال محاولتنا المشاركة دون موافقة الدولة كما قال،‮ ‬وقال هذا رأي‮ ‬القيادة،‮ ‬وكانت قيادة الحزب الشيوعي‮ ‬تنتظر نتيجة اجتماعنا،‮ ‬وقد تم تحديد موعدين لنا بعد الاجتماع لمعرفة نتائجه،‮ ‬الأول في‮ ‬الساعة التاسعة مساءً‮ ‬والثاني‮ ‬في‮ ‬التاسعة و45 دقيقة في‮ ‬موقف باص في‮ ‬ساحة الميدان،‮ ‬وفوجئنا بالرفيق باقر ابراهيم‮ (‬أبو خولة‮) ‬بانتظارنا،‮ ‬لكي‮ ‬يستمع إلى رأينا وموقف الاتحاد الوطني،‮ ‬علماً‮ ‬بأننا أبدينا مرونة بشأن الشعارات وتأكيد تأييدنا لبيان‮ ‬11 آذار/مارس،‮ ‬لكن القرار بعدم مشاركتنا كان واضحاً،‮ ‬وقد فوجئ الرفيق‮ “‬أبو خولة‮” ‬بردّ‮ ‬الاتحاد الوطني،‮ ‬وأبلغنا قرار الحزب بالحضور في‮ ‬اليوم التالي،‮ ‬وقد ذهب لؤي‮ ‬أبو التمّن مساء ذلك اليوم مع كاظم عوفي‮ ‬لإيقاظ أحد تجار الأقمشة في‮ ‬الكرّادة لشراء قطعة قماش بيضاء قام كاظم العوفي‮ ‬بكتابة الشعارات المطلوبة عليها حسب توجيهات الحزب وجاءا بها صباح اليوم التالي‮ ‬إلى دار الطلبة في‮ ‬باب المعظّم،‮ ‬حيث كان موعد الانطلاق من الميدان‮.‬
اغتيال محمد الخضري
في‮ ‬صبيحة اليوم التالي‮ ‬نشرت الصحف خبر اختفاء محمد الخضري،‮ ‬حيث تم العثور على جثّته قرب مدينة بلد‮ (‬ 80 كلم عن بغداد‮) ‬وقد طرّزت‮ ‬  22 ‮ ‬إطلاقة وعليها آثار تعذيب‮. ‬وكان ممثّلاً‮ ‬عن القائمة المهنية للمعلمين،‮ ‬وأتذكّر تعليق لؤي‮ ‬أبو التمّن ونحن في‮ ‬التظاهرة،‮ ‬حيث كان العديد من إدارات الحزب الشيوعي‮ ‬يتوافدون للحضور‮. ‬بينهم عامر عبدالله وزكي‮ ‬خيري‮ ‬وحسين سلطان وباقر ابراهيم وآخرين‮. ‬على اغتيال الخضري‮ ‬قوله‮: ‬من سيكون القادم؟ وأتذكّر أن صاحب الحكيم سألني‮ ‬حينها هل صادف أن لمحت محمد الخضري‮ (‬أبو عادل‮)‬،‮ ‬قلت له‮: ‬تم العثور على جثته في‮ ‬مدينة بلد ففوجئ بذلك،‮ ‬ودار همس بين الرفاق خلال التظاهرة الحاشدة،‮ ‬وقبل أن نتحرّك من ساحة الميدان كان الهجوم عليها شديداً‮ ‬لتفريقها بعد عزل إدارة الحزب عن قاعدته،‮ ‬وكاد لؤي‮ ‬أن‮ ‬يعتقل بعد أن حاول أن‮ ‬يتصدّى لأحد المهاجمين،‮ ‬لكن عدداً‮ ‬من المتظاهرين سحبوه إلى طرفهم وهكذا تم التفرّق وحاولنا التجمع قرب ساحة حافظ القاضي،‮ ‬لكن محاولة التفريق كانت أشد هذه المرّة،‮ ‬فانسحبنا ولم نعاود الكرّة‮.‬
‮ ‬وبالمناسبة فقد تعلّم محمد الخضري‮ ‬السياقة بسيارة والد لؤي‮ ‬أبو التمّن،‮ ‬وهي‮ ‬سيارة فارهة من نوع‮ “‬شيفروليه‮”‬،‮ ‬وقد استعارها في‮ ‬أحد الأيام وتوقّفت عند منتصف الطريق وانتظر لؤي‮ ‬لنحو ساعتين إلى حين وصوله،‮ ‬وقد وضعنا احتمال اعتقاله وتلك قصة أخرى‮.‬
قال لي‮ ‬لؤي‮ ‬بعد انتهاء المسيرة،‮ ‬حيث توجّهنا صوب الباب الشرقي‮ ‬وجلسنا في‮ ‬مقهى المعقّدين نحتسي‮ ‬الشاي‮ ‬المعطّر،‮ ‬وكان متأثراً‮ ‬لاغتيال الخضري‮ ‬الذي‮ ‬عرفه عن قرب ودرّبه لأسابيع على سياقة السيارة‮: ‬يبدو أن الدور وصل إلينا،‮ ‬قلت له أتعتقد ذلك؟ قال‮: ‬لاحظ،‮ ‬اختاروا من اللجنة العمالية عبد الأمير سعيد،‮ ‬الذي‮ ‬تم اختطافه‮ ‬،‮ ‬ومن الخط العسكري‮ ‬،‮ ‬اغتيل ستار خضير ومن المعلمين تم اغتيال محمد الخضري‮ ‬وعلّق‮: ‬جاء دورنا وأشار بإصبعه‮: ‬كنت أراقب حسن المطير حين تتحدّث،‮ ‬وخصوصاً‮ ‬حين سلّمت ورقة بأسماء المعتقلين من الطلبة إلى كريم الملّا،‮ ‬بل حاولت أن تتلوا أسماءهم،‮ ‬كم كانت عضلات وجهه تتحرّك وكم كان متشنجاً‮ ‬ومُستفَزاً‮ ‬وأنت تتحدّث عن التعذيب؟
لؤي‮ ‬في‮ ‬قصر النهاية وبالفعل فقد اعتقل لؤي‮ ‬بعد شهرين تقريباً‮ ‬من هذا التاريخ‮ ‬13 أيار‮/ ‬مايو‮ ‬1970 ‮ ‬وكان‮ ‬يفترض أن‮ ‬يترك الدائرة التي‮ ‬يعمل فيها بعد أن تم ترشيحه إلى زمالة دراسية وكذلك ترشيحي،‮ ‬لكن القدر‮ ‬غلب الحذر كما‮ ‬يقال،‮ ‬وبالمناسبة ففي‮ ‬مثل هذا اليوم بالذات وصل لؤي‮ ‬من السويد إلى الشام‮ ‬1985 ‮ ‬وقد احتجز في‮ ‬المطار،‮ ‬وكان قد جاء لحضور لقاء مع صالح دكلة‮ “‬التجمع الديمقراطي‮” ‬وعلّقت و بعد التدخل لإطلاق سراحه،‮ ‬بأن‮ “‬الجماعة‮” ‬لا‮ ‬يريدونك أن تنسى هذا التاريخ‮ ‬يوم‮ ‬13 ‮ ‬أيار‮ / ‬مايو‮.‬
مكث لؤي‮ ‬في‮ ‬قصر النهاية شهراً‮ ‬كاملاً،‮ ‬وكنا قد أصدرنا عدداً‮ ‬خاصاً‮ ‬من‮ “‬كفاح الطلبة‮” ‬جريدة الاتحاد وكانت المطالبة بإجلاء مصيره والتحذير من الخطر على حياته في‮ ‬المانشيت العريض‮. ‬وقد أبلغني‮ ‬لؤي‮ ‬أن ناظم كزار أطلعه على العدد وهو في‮ ‬قصر النهاية وطلب تعليقاً‮ ‬منه‮: ‬هل أنت في‮ ‬خطر فعلاً؟ وهل حياتك مهدّدة؟ وعلى الرغم من الانهاك النفسي‮ ‬والجسدي‮ ‬والتعرّض للتعذيب أجابه لؤي‮: ‬أنني‮ ‬معتقل وليس لي‮ ‬صلة بالعالم الخارجي‮ ‬ولا تعليق لدي‮.‬
‮{ ‬باحث ومفكر عربي

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com