مقالات

الفيلسوف الكندي أول من أستعمل الرياضيات والموسيقى في الطب .

بيدر ميديا .."

الكاتب/علاء اللامي .

نتوقف اليوم – في هذه الحلقة من سلسلة المقالات التعريفية بهدف دحض للمقولات الاستشراقية الغربية العنصرية التي تريد تهميش مساهمة الفلاسفة والعلماء العرب في الحضارة العربية الإسلامية القديمة – عند شخص وتراث فيلسوف عربي مسلم كبير ورائد في ميدانه: إنه أبو يوسف يعقوب بن إسحق، جده الخامس هو الأشعث بن قيس الكندي، ولد في الكوفة في بيت من بيوت شيوخ قبيلة كندة. كان والده والياً على الكوفة، حيث تلقى علومه الأولية، ثم انتقل إلى البصرة ومنها إلى بغداد، فحظي بعناية الخليفتين المأمون والمعتصم قبل أن ينقلب عليه الأخير، وقد جعله المأمون مشرفاً على مؤسسة “بيت الحكمة” ذائعة الصيت في بغداد وعاصمة العلوم والمعارف في العالم آنذاك.
كان الكندي عضوا في إحدى حلقات المعتزلة وقد دأب في بداياته على استخدم الأدلة العقلية للدفاع عن العقائد الدينية، وكان في مقدمة الذين ردوا على المانوية وأهل الديانات الأخرى، وكتب في ذلك رسائل عدة، ثم كتب في موضوعة “حدوث العالم” وبدأ من هنا خط تطوره العقلاني الصاعد.
*بدأ فكره واهتماماته تتطور وتتغير شيئا فشيئا، وعلى غرار زملائه المعتزلة وأئمتهم، بدأ يدمج علم الكلام بالفلسفة، ويوسع اهتماماته في جميع العلوم السائدة آنذاك بعيداً عن أي تخصص علمي وفق السائد في عصره. وفي هذا الصدد يعتقد المستشرق الفرنسي هنري كوربان في كتابه “تاريخ الفلسفة الإسلامية” “لم يكن الكندي واحدا من علماء الكلام، بل كان مدفوعا في كتاباته في البداية بدافع التوفيق بين البحث الفلسفي والوحي النبوي”.
ويرى كوربان أن الكندي تأثر كثيرا بحنا فيلوبون المعروف عند العرب بيحيى النحوي (المولود في الإسكندرية في القرن الخامس الميلادي “سنة 490 تقريبا”، وكان مثيرا للجدل في بعض الأحيان، بخروجه على الفكر الأرسطي-الأفلاطوني الحديث التقليدي، وطرح أسئلة منهجية تؤدي في النهاية إلى التجريبية في العلوم الطبيعية. وقد أدين فيلوبون بعد وفاته بالهرطقة من قبل الكنيسة الأرثوذكسية بسبب موقفه من عقيدة الثالوث). أعتقد أن المقاربة والمماثلة الجوهرية يمكن أن تقام أيضا بين محاولات الكندي الفلسفية ومحاولات الفيلسوف العربي الأندلسي المولود بعده بثلاثة قرون تقريبا وأعني ابن رشد. فقد كانت تجربة هذا الأخير الفلسفية في جوهرها محاولة للتوفيق ونفي التناقض النوعي بين “المعقول البشري والمنقول الديني” أي بين العقل والوحي.
*للعلامة الشهيد حسين مروَّة في كتابه “النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية”، رأي جدير بالتمعن والدراسة، مفاده أن الكندي ليس الفيلسوف العربي الأول، ولا هو مؤسس الفلسفة العربية، إذْ أن أساس الفلسفة العربية – حسب اعتقاد مروة – كان قد بُني قبل ذلك على يد المعتزلة قبله. ويصعب الأخذ بهذا الرأي برمته إذْ أن المعتزلة كانوا أهل الكلام بالدرجة الأولى، وليسوا أهل فلسفة وخصوصا في مرحلتهم التأسيسية.
لكنَّ مروَّة يسجل للكندي إنجازه المهم وهو الفصل بين الفلسفة بما هي فلسفة والفكر اللاهوتي بما هو لاهوت في تلك المرحلة التاريخية، وهذا الإنجاز يجب النظر إليه – كما يعتقد مروة – في البنى التحتية، أي الظروف الاجتماعية التاريخية التي أنتجت الكندي، بمعنى، أنها الضرورة التاريخية التي اقتضت استقلال الفلسفة عن الفكر اللاهوتي عصر ذاك، وهذا صحيح تماما ويمكن تطوره حتى حدود القول إن الكندي هو الذي فصل علم الكلام بما هو “علم إقامة الأدلة على صحة العقائد الإيمانية” كما يقول تعريفه الأشيع، عن الفلسفة بما هي فلسفة.
*كان الكندي أول الفلاسفة المَشّائِين المسلمين “الأرسطويين”، كما اشتهر بجهوده في تعريف العرب والمسلمين بالفلسفة اليونانية القديمة والهلنستية. عاش في مطلع حياته بالبصرة، ثم انتقل منها إلى بغداد حيث أقبل على العلوم والمعارف لينهل من معينها، وذلك في فترة التنوير العربية على عهد المأمون. وكان الجو الفكري والثقافي مشحونا بالتوتر العقائدي بسبب مشكلة خلق القرآن وسيطرة مذهب الاعتزال المدعوم من الخليفة، وكان القرن الثالث الهجري يموج بألوان شتى من المعارف القديمة والحديثة وذلك بتأثير حركة النقل والترجمة.
انصرف الكندي إلى دراسة الفلسفة والعلوم القديمة حتى تمكن منها ونبغ فيها. وقد كلفه المأمون بمهمة الإشراف على ترجمة الأعمال الفلسفية والعلمية اليونانية إلى العربية في بيت الحكمة. وقد اعتبره ابن أبي أصيبعة إلى جانب حنين بن إسحق وثابت بن قرة وابن الفرخان الطبري من أحذق وأدق المترجمين المسلمين. وقد مكنته تجربته هذه من كتابة أطروحاته الأصلية في الأخلاقيات والميتافيزيقيات “ما وراء الطبيعة” والرياضيات والصيدلة.
*في علم الفلك، اتبع الكندي نظرية بطليموس حول النظام الشمسي، والتي تقول بأن الأرض هي المركز لسلسلة من المجالات متحدة المركز، التي تدور فيها الكواكب والنجوم المعروفة حينها.
*في الطب، أنجز الكندي أكثر من ثلاثين أطروحة، والتي تأثرت فيها بأفكار جالينوس. أهم أعماله في هذا المجال هو كتاب “رسالة في قدر منفعة صناعة الطب”، والذي أوضح فيه كيفية استخدام الرياضيات في الطب، ولا سيما في مجال الصيدلة. على سبيل المثال، وضع الكندي مقياس رياضي لتحديد فعالية الدواء.
*في الرياضيات، ألف الكندي أعمالاً في عدد من الموضوعات الهامة، بما فيها الهندسة والحساب والأرقام الهندية وتوافق الأرقام والخطوط وضرب الأعداد والأعداد النسبية وحساب الوقت. كما كتب أربعة مجلدات، بعنوان “كتاب في استعمال الأعداد الهندية”.
*كان الكندي رائداً ومؤسسا في تحليل الشفرات وعلم التعمية، طوَّر طريقة يمكن بواسطتها تحليل الاختلافات في وتيرة حدوث الحروف واستغلالها لفك الشفرات، اكتشف ذلك في مخطوطة وجدت مؤخرًا في الأرشيف العثماني في إسطنبول، بعنوان “مخطوط في فك رسائل التشفير”، والتي أوضح فيها أساليب تحليل الشفرات، والتشفير والتحليل الإحصائي للرسائل باللغة العربية.
* وضع الكندي لأول مرة قواعد للموسيقى في العالم العربي والإسلامي. واقترح إضافة الوتر الخامس إلى العود، وقد وضع الكندي سلماً موسيقياً ما زال يستخدم في الموسيقى العربية من أثنتي عشرة نغمة، وتفوق على الموسيقيين اليونانيين في استخدام الثمن. كما أدرك أيضاً على التأثير العلاجي للموسيقى، وحاول علاج صبي مشلول “مصاب بالشلل الرباعي” بالموسيقى.
*وفاته: مع تولي ولدي المعتصم الواثق ثم أخيه المتوكل الخلافة، أفل نجم الكندي في بيت الحكمة. وقد رجح البعض أن ذلك بسبب التنافس في بيت الحكمة، والبعض قال إن السبب تشدد المتوكل في أمور الدين.
كان المُعتصم قد طلب من الكندي أن يكون المُربّي الخاص لابنيه هارون الواثق وجعفر المتوكل، وحين استلم المتوكل الخلافة بعد أخيه الواثق، كانت علاقة الكندي وعمله معه يسيران “بشكلٍ جيد، إلى أن بدأ الوشاة والحاسدون بتشويه صورة وسمعة الكندي أمام المتوكل، حتى نجحوا في ذلك. فقد بدأ الكندي يتعرّض للإهانة وحتى الضرب على يد المُتوكل. وقد صودرت مؤلفاته لفترة، واستمرت تلك المُعاناة حتى أخر أيام ذلك الخليفة، وبعد وفاة المتوكل ابتعد الكندي عن الخلفاء واعتزلهم، كما تكتب أحلام الزعبي. وبهذا الصدد، قال هنري كوربين – الباحث في الدراسات الإسلامية – أن الكندي توفي في بغداد وحيداً ومعزولا عام 259 هـ/873 م، في عهد الخليفة المعتمد بن المتوكل.
*استدراك مكرر: أعود وأكرر أن هدفي الجوهري من هذه السلسلة من المقالات التعريفية بالفلاسفة والعلماء العرب المسلمين القدماء ليس الترويج لنزعة قومية إثنية لا تعني عندي شيئا، فلستُ قومياً ولن أكون، مع اعتزازي كإنسان فرد بعروبتي وحضارتي وبالجانب المضيء من تراثي ولغتي وأرومتي، بل هو كما ثبته في الوسمة المرافقة لهذه السلسة من المقالات كسر التهميش الاستشراقي الغربي المناوئ للعرب والإسلام، وفضح محاولات تفريغ هذا التراث من محتواه التقدمي التنويري ومن أشخاصه وصانعيه من جميع أمم وشعوب الحضارة العربية الإسلامية وخاصة من ذوي الأصول العربية المهمشين استشراقيا غربيا.
*الصورة لطابع بريدي أصدرته حكومة الجمهورية العراقية الفتية سنة 1962 بمناسبة الاحتفالات بألفية الفيلسوف الكندي.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com