رأي

مؤلف “فقه التسامح” حاور فضل الله والبغدادي ودافع عن المسيحيين العرب

بيدر ميديا.."

مؤلف “فقه التسامح” حاور فضل الله والبغدادي ودافع عن المسيحيين العرب

عبد الحسين شعبان: تخلّف النخب السـياسية والفكرية يكبح التغيير والتجديد

 

 

هناك تراجع في حرية التعبير والفضائيات تحرم وتحلل

لا يمكن إحداث أي إصلاح من دون إصلاح الفكر الديني

 

كلام صورة

عبد الحسين شعبان: ينبغي للمثقف ألا يتنازل عن وظيفته الأساسية وهي النقد

 

 

حسان الزين

 

لا يفصل الباحث والحقوقي العراقي عبد الحسين شعبان بين العمل النظري والممارسة. فهو لا يكتفي بتأليف الكتب التي بات له منها أكثر من خمسين. لقد انشغل بإعادة النظر في تجربته السياسية الفكرية ونقد الإيديولوجيا، وبقراءة الإسلام والحوار مع شخصيّات معاصرة، وبالبحث في واقع المجتمعات العربية. وفي غمرة ذلك، كتب عن شخصيات عامة أثّرت في بلده العراق وثقافته وحياته السياسية. وكان شعبان المولود في مدينة النجف من طليعة مؤسسي الحركة الحقوقية العربية ومنظّريها. وكذلك هو من المبادرين إلى تقويم تجربتها ورصد إخفاقاتها وإنجازاتها، في واقع صعب يشهد تراجعاً للحريّات والحقوق عموماً.

معه هذا الحوار:

 

تتحدّث كثيراً عن التابوهات أو الخطوط الحمر، لننطلق منها لرسم المشهد العربي من ناحية البحث وحرّيته وحقوق الإنسان!

التابوهات أو الخطوط الحمراء كثيرة وتزداد كلّ يوم. فأنت لا تستطيع أن تنتقد الرموز السياسية أو الدينية، وإن كانت سبب البلاء. وأحياناً، لا تستطيع نقد بعض النصوص أو قراءاتها بصورة مغايرة تفسيراً وتأويلاً على زعم أنها “مقدّسة” لدى البعض، حتى وإن كانت ماضوية ومتخلفة. فتلك القراءة ستمسّ هذه المجموعة المتحكّمة أو تلك، حتى وإن كان النقد من باب التصويب والتجديد.

بالطبع، ثمة كوابح أمام أي تجديد أو تغيير، ويعود الأمر إلى تخلّف العديد من النخب السياسية والفكرية، الحاكمة وغير الحاكمة. إمّا بسبب عدم قدرتها على استنباط الأحكام لتقديم قراءة جديدة للواقع، أو خشيةً على مصالحها وامتيازاتها أو مراعاة للعامة وما استقرّ من فهم متخلّف لديها أو مجاملة على حساب التنمية والتقدّم.

هناك تراجع في حريّة التعبير، على رغم طوفان الفضائيات، التي تحرّم وتُحلّل، بل تحرّض على القتل أحياناً، وليس أدلّ على ذلك ما شهده العالم العربي من أعمال يندى لها الجبين، خصوصاً ما قامت به تنظيمات “القاعدة” و”داعش” و”جبهة النصرة” (فتح الشام) وأخواتها.

لقد أصبح المثقف في مجتمعاتنا يتوجّس كثيراً حين يتناول موضوعات كان يقاربها بأريحية، لا سيما أن حياته أحياناً تكون مهدّدة باستعادة ما حصل للسيّد محمد باقر الصدر ومحمود محمد طه ونصر حامد أبو زيد وفرج فودة ونجيب محفوظ وجار الله عمر وغيرهم.

النقاشات المفتوحة في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي التي شهدتها بلداننا، أصبحت أقرب إلى التابوهات اليوم.

 

أنت من الباحثين الذين يقاربون الأديان بتسامح ومن دون أحكام مسبقة، هل لك أن تعرض لنا منطلقاتك؟

في شأن النص المقدّس، هناك مسافة زمنية بعيدة تفصله عن الواقع الحالي. وعليه لا يمكن قراءة النص الديني، بما فيه القرآني، قراءة ماضوية محدّدة بتأويل واحد لا يقبل أيّة تأويلات أخرى. وأعتقد أن في ذلك إساءة إلى الفكر وحريّة التفكير وتعاليم الدين السمحاء.

القرآن ليس للتلاوة والترتيل والحفظ فحسب، وإنما هو كتاب عظيم وجامع وقابل للتأويل والقراءة الواسعة والمفتوحة، وهو بالطبع ليس ملكاً لأحد، سواء كان عالم دين أم فقيهاً أم شيخاً أم مرجعاً أم مقرئ أم مرتّل…، ويستطيع كلّ إنسان قراءته وفهم معانيه وقيمه الإنسانية السامية.

أستطيع القول إنه لا يمكن إحداث أي إصلاح حقيقي وجذري وعميق في أي مجتمع من دون إصلاح الفكر الديني، وبحسب هوبز أن أي “إصلاح مفتاحه الفكر الديني”.

هناك من يتطلّع إلى الحديث باسم الدين فيقول: هذا مخالف للدين، وذاك مخالف للشريعة. ولكن مصدر كل تلك الآراء سياسي ولا علاقة له بفهم النصوص الدينية ومقاصدها. وهكذا سترى وراء كثير من التابوهات سياسات مقصودة ومحدّدة بخدمة حكّام أو طبقات اجتماعية أو جماعات طائفية متنفّذة، أو حتى قوى سياسية تتستّر وراء جماعات مشبوهة، وقوى معروفة أو غير معروفة، محليّة أو دولية.

 

في مقابل هذا، لك مساهمات عديدة حوارية مع مفكرين دينيين ودافعت عن حقوق مجموعات دينية، كيف تعرض هذه التجربة؟

لقد كانت لي مع السيد محمد حسين فضل الله، وهو مفكر إسلامي جليل، مطارحات عدة، وأعددت بحثاً بعنوان “فضل الله وسلطة العقل”، وفي كتاب “الإسلام وحقوق الإنسان” (2001)، نقدت العديد من الآراء التي تزعم تعارض الإسلام مع قيم حقوق الإنسان، بل تفتعل مثل هذا التعارض لأمور جزئية لا تتعلّق بالصميم. وقدّمت في كتاب “الإسلام والإرهاب الدولي” (2002)، قراءة حقوقية مختلفة، وفهم آخر للإسلام بالضدّ من محاولات أبلسته دولياً أو مساعي توظيفه سياسياً لخدمة مجموعات متعصّبة.

وقد بلورت رؤية نقدية ارتجاعية ومستقبلية لفكرة التسامح، وذلك في كتابي “فقه التسامح في الفقه العربي- الإسلامي” (2005)، الذي قدّم له المطران جورج خضر. واستكملتها بدفاعي عن المسيحيين في محاولة إقصائهم وإلغاء وجودهم وهم أهل البلاد الأصليين قبل المسلمين، ودفعهم إلى الهجرة، خصوصاً باستهدافهم عبر عمليات عنف طاولت كنائسهم وأديرتهم وشخصياتهم ومناطق سكناهم، مشككةً بتاريخهم. وهو الأمر الذي حصل بشكل خاص في العراق وسوريا. وبالطبع، فإن تلك الحملة ضدّ المسيحيين مستمرّة في فلسطين المحتلة منذ العام 1948 من قبل الصهيونية العالمية. ويمكن الإشارة إلى أوضاع المسيحيين في لبنان ومصر وغيرها، وجئت على ذلك في كتاب “أغصان الكرمة – المسيحيون العرب (2015)”.

 

على رغم هذا الرأي، أثار كتابك “دين العقل وفقه الواقع” نقاشاً واسعاً لدى الأوساط الثقافية والدينية، لماذا حصل ذلك؟

أولاً لأنه كتاب مفتوح خارج الدائرة الإيديولوجية النسقية، التي تدّعي الأفضلية واحتكار الحقيقة؛ وثانياً لأنه شمل حواراً مع فقيه هو السيد أحمد الحسني البغدادي، وهو حوار ندّي تكاملي، بمعنى أن هدفه ليس تسجيل نقاط أحدنا على الآخر، بل البحث عن الحقيقة بوجوهها المتعدّدة؛ وثالثاً لأن قراءة النصوص الدينية ليس لها مرجعية واحدة ثابتة عابرة للزمان والمكان، كما يذهب إلى ذلك التيار الديني السائد الذي يحاول أن يفرض تفسيراته وتأويلاته على النص الديني باعتباره حكراً عليه. وتضيق المسألة أكثر حين تكون القراءة مذهبية طائفية، وهي قراءة ترفض أي قراءة أخرى إن لم تؤثمها أو تجرّمها أو تكفّرها.

حاولت في هذا الكتاب أن أقدّم قراءة جديدة خارج تلك القوالب والكليشيهات الجاهزة، التي غالباً ما تختلط بالوهم، وأحياناً بميثيولوجيات وعادات وتقاليد لا علاقة لها بالدين، إذ يُستعاض عن جوهر الدين ببعض طرائق التديّن، وبالطبع هناك فارق كبير بين الدين، الذي هو منظومة قيم ومعتقدات ذات أبعاد إنسانية، وبين التديّن، الذي هو مجموعة ممارسات وشعائر لتطبيق تعاليم الدين. إن هدفي هو إيصال المعنى الكامن في الدين الذي يتجدّد بتجدّد الإنسان وقراءاته وفقاً لمفاهيمه وآليات عصره ودرجة تطوّره.

يقول الإمام علي في نهج البلاغة: “هذا القرآن إنما هو خط مستور بين الدفتين، لا ينطق بلسان، ولا بدّ له من ترجمان، وإنما ينطق عنه الرجال”. والرجال، سواء كانوا علماء دين أم فقهاء أم باحثين، يتغيّرون بتغيّر الزمان، وفقاً لقاعدة فقهية معتمدة لا يريد المغالون والمتعصبون أو الذين لم يستوعبوا السياق التاريخي الإقرار بها، وهي التي تقول “تتغيّر الأحكام بتغيّر الازمان”. وذلك هو المعنى الحقيقي الكامن للنصوص الدينية، وهو ما ينطبق على النصوص غير الدينية أيضاً.

 

تحدّثت عن الفقهاء والدينيين، ماذا عن المثقفين غير الدينيين، أتراهم يغيّرون ويحسّنون أدواتهم لبناء فكري نقدي يخلّصهم من الاتكالية التي سادت في صفوفهم والتعويلة التي قادتهم إلى الانتظار والتقليد؟

أستطيع أن أميّز ثلاثة نماذج من المثقفين في علاقتهم بالنصوص القديمة والحديثة، الأول هو الذي يدور في فلك السلطة، بل يرابط فيها أحياناً، سواء أكان جزءاً منها أم ناطقاً باسمها أم مروّجاً لها بحرق البخور لها، أم مؤدلجاً لسياساتها أم مجمّلاً لأخطائها وخطاياها؛

الثاني ضدّ السلطة، إذ يرفض أي شكل من أشكال التعاطي معها، لدرجة الترفّع عنها، ويعتبر أي اقتراب منها هو تواطؤ لحدّ “الخيانة”، لا يجوز للمثقف ولا يليق به أن يُقدم عليه؛

والثالث ناقد للسلطة من دون أن يستبعد وسيلة إصلاحها، ويسعى لمدّ الجسور بينها وبينه، بحيث تكون الطريق سالكة بينهما. وبالمعنى الإيجابي يتحوّل المثقف إلى قوّة اقتراح وضغط لما فيه خير المجتمع. هكذا يكون ناقداً وراصداً ومشاركاً ومتمماً لعملية التنمية، تخطيطاً وتنفيذاً.

وبكلّ الأحوال، ينبغي للمثقف ألا يتنازل عن وظيفته الأساسية، وهي النقد. والمثقف العضوي بالمعنى الغرامشي لا بدّ أن يتفاعل مع قضايا عصره بتقديم رؤيته للواقع الذي تعيشه مجتمعاته واستشرافه لمستقبلها. ولا يمكنه والحالة هذه البقاء في إطار الأساليب والأدوات القديمة، وعليه تحيين أدواته النقدية بما ينسجم مع روح العصر، خصوصاً وأن العالم اليوم في الطور الرابع للثورة الصناعية واقتصاد المعرفة والذكاء الاصطناعي.

كذلك عليه أن يتفاعل مع الحراك الثقافي، بعيداً من الإيديولوجيات التي لا تعصم من الخطأ، بل أحياناً تمنع من إبصار الحقائق. وإذا كان ماركس قد استلهم روح عصره وصاغ أحكامه واستنتاجاته بما ينسجم معها، وهو في القرن التاسع عشر، فعلينا استنباط الأحكام والحلول من واقع عصر العولمة بوجهيها المتوحّش والإنساني، بما فيها عولمة العلم والثقافة وحقوق الإنسان.

 

هل تحرّرت من الإيديولوجيا، وإلى أي حد؟

إذا كانت الإيديولوجيا تعني علم الأفكار والمعتقدات، فإنه من الصعب القول إننا نتحرّر منها كليّاً، لأنها مجموعة رؤى تتكوّن وتتبلور من خلال الممارسة، وهكذا يفترض. للأسف، نحن عزلنا الممارسة عن النظرية، ولا نظرية صحيحة من دون ممارسة (براكسيس) صحيحة أيضاً. وتُختبر النظرية بالممارسة، مثلما يُختبر صدق الغاية بالوسيلة.

وكان غاندي يعتبر الشجرة هي الغاية، أما الوسيلة فهي البذرة، والوسيلة موجودة في الغاية، مثلما توجد البذرة بالشجرة.

إذا كنّا لا نستطيع التحكّم بالغايات، أي بالوصول إليها، فيمكننا التحكّم بالوسائل، وهذا سيعني التحكّم بالغاية أيضاً من خلال الوسيلة، الغاية مجرّدة أما الوسيلة فهي ملموسة، الغاية تُعنى بالمستقبل، أما الوسيلة فتُعنى بالحاضر. فالغايات والأهداف غالباً ما تكون متشابهة، لكن الفوارق الجوهرية هي في الوسائل في كثير من الأحيان.

الوسيلة هي المقياس لتقييم الغايات والأهداف والأفكار والمبادئ والممارسات الدينية والسياسية والاجتماعية، وسيصبح التلازم عضوياً بين الغاية والوسيلة، وتلك مسألة جوهرية وليست عابرة أو ثانوية، أي أن الوسيلة تتوحد بالغاية، حيث لا انفصال بينهما، مثلما لا ينفصل الجلد عن الجسد.

وعلى الباحث أن يتحلّى بقدر من الموضوعية، إذا ما أراد أن يُصبح باحثاً، أما إذا كان يريد أن يكون “إيديولوجياً” أي داعيةً ومبشّراً، فإنه سيدّعي امتلاك الحقيقة ويفترض أفضليات أفكاره على الآخرين، ثم تنفصل الوسيلة عن الغاية عنده بالتطبيق، مبرّراً أن كلّ ما يتّبعه متّصل بغايات شريفة، إلّا أنه حينئذ سيكفّ عن أن يكون باحثاً بقدر ما هو داعية إيماني. وهناك فرق كبير بين الداعية والباحث، وعلى الأخير التخلي عن ربْقة الإيديولوجيا التي تسكن رأسه وتحتلّ كيانه، ويسعى عبر البحث والعلم الوصول إلى النتائج الموضوعية، حتى وإن اختلفت مع تصوراته المسبقة التي لا تقدّم له سوى وهماً زائفاً حسب ماركس نفسه.

 

وماذا عنك شخصياً؟

إنتقلت من المرحلة الإيمانية التبشيرية الدعووية في الشباب الأول، إلى المرحلة التساؤلية العقلية النقدية، بنقد الذات ونقد الآخر. ولا بدّ من القول إن “لا تجربة حقيقية من دون نقدها”.

ليس من السهولة أن يتخلّص المرء من لوثة الايديولوجيا أو فايروس ادّعاء الأفضليات، وعليه بذل جهد كبير وعناء أكبر مع النفس، وبالتالي ممارسة رياضة نفسية للتصالح مع الذات.

ولأنني متصالح مع نفسي فإنني متصالح مع تاريخنا العربي والإسلامي. والإسلام مكوّن أساسي مادّي وروحي من مكوّنات مجتمعاتنا، متدينون أو غير متدينين. ولا ماركسي أو ثوري أو يساري حقيقي من يعادي الإسلام أو يعادي الدين، لأن الدين بشكل عام، والإسلام بشكل خاص، ظاهرة وعلينا دراستها والتعمّق فيها والتعاطي معها من موقع البحث عن المشتركات الإنسانية، لا سيما قيم الحريّة والكرامة والعدالة والمساواة والشراكة والمشاركة والسلام والتسامح وغيرها.

والدين عموماً، والإسلام خصوصاً، يدخل في كلّ مفاصل حياتنا، من أسمائنا إلى أعيادنا ومآتمنا وكلّ ما يتعلّق بتاريخنا وثقافتنا ولغتنا ورموزنا. كيف يمكنني أن أفصل نفسي عن مكّة المكرّمة، التي يحجّ إليها ملايين البشر سنوياً أو أغفل عن القدس الشريف، أولى القبلتين؟ وهل يمكن أن لا يكون النبي محمد أو الفاروق عمر أو الإمام علي أو الحسين، إلّا جزءاً من ثقافتي؟ فمعنى ذلك إنكار لأصلي و”من أنكر أصله لا أصل له”.

علينا كيساريين وحداثيين أن نفهم طبيعة مجتمعاتنا وتكويناتها المختلفة، وأن نتعاطى معها بأريحية لأننا لا يمكن أن نكون إلّا جزءاً منها، وعند ذلك يمكننا المساهمة في تطويرها وتنميتها وتغييرها.

 

لهذا تبدو اليوم خارج التصنيف وفق التصنيفات المعهودة، فأنت يساري وكتبت “تحطيم المرايا – في الماركسية والاختلاف”، وأنت متصالح مع الإسلام والعروبة، ولديك أفكار تتعلق بحقوق الإنسان وتعمل في هذا المجال الذي نادراً ما وطأه الماركسيون والإسلاميون؟

لا أنسب نفسي إلى شخص، وإن كنت كثير الاعجاب بماركس، وأعتبره، إضافة إلى القرآن والشعر بخاصة والأدب بعامة، أحد روافدي الأساسية. وشخصياً، أعتبر ماركس من أعظم مفكري التاريخ، لا سيما ما تركه من منهجه في تحليل طبيعة النظام الرأسمالي، وسبق لي أن قلت إن الماركسية هي “علم الرأسمالية بامتياز”، وقد وضع ماركس أحكامه وقوانينه انسجاماً مع مجتمعه والتطوّر العلمي فيه وقدّم لنا استنتاجين مهمّين، الأول يتعلّق بقراءة تطوّر المجتمع البشري، والثاني يتعلّق بفائض القيمة.

ربما لم يمهل العمر البيولوجي ماركس لدراسة كثير من القضايا، فنظريته المعرفية حول الدولة غير متكاملة، ودعوته لذبولها أقرب إلى طوباوية، فضلاً عن أنه لم يعط اهتماماً كبيراً لدراسة الجوانب النفسية للإنسان، وأحياناً كانت نظرته إسقاطيه مركزية غربية على الواقع. يُضاف إلى ذلك أن التراث الماركسي تعرّض للتشويه في إطار المدارس المختلفة اشتراكياً، فروسيا أرادت “ترويس” الماركسية والصين “صنينتها”، وفعل مثلهما الألبان والكوبيون والفيتناميون والكوريون. والأمر لا يتعلّق بتوطينها، بل محاولة تطويعها انطلاقاً من رؤية لا تخلو من إرادوية ذاتية.

هكذا ضاع ماركس الكبير بين “القبائل الماركسية” المتشظّية، في حين أن منهجه ما زال صالحاً، مع الأخذ بنظر الاعتبار التطوّر العالمي. أما استنتاجاته فهي تصلح لعصره وليس لعصرنا، وكثير منها تخطّاها الزمن أو لم تثبت صحّتها على أرض الواقع. وكان الماركسيون العرب في معظم الوقت متلقّين واتّكاليين، وساد في وسطهم الكسل الفكري والانتظارية.

لم نتوقف كثيراً عند كتاب ماركس “المسألة اليهودية”، وبقدر ما تحدّث عن علاقة اليهود بالمال، فإنه تحدّث في هذا الكتاب المهم عن التعددية والتنوّع والديمقراطية وحقوق الإنسان. الأمر الذي يحتاج إلى إعادة قراءة الماركسية باعتبارها الحلقة الذهبية الأولى في التمركس وليس نهايتها أو تماميتها.

ولا يمكن لماركسي حقيقي أن يكون ماركسياً إلّا باحترام حقوق الإنسان، أما التطبيقات المشوّهة في الأنظمة الاشتراكية في القرن العشرين، فإنها فشلت، ولذلك انهارت بالكامل. وهكذا تبدّدت تجربة تاريخية كان يمكن تطويرها لمصلحة الإنسان.

 

الحركة الحقوقية العربية أخفقت في تحقيق أهدافها

هناك تراجع واضح في الحركة الحقوقية العربية، التي يُعد عبد الحسين شعبان من أبرز أسمائها وقد حاز في 2003 جائزة أبرز مناضل لحقوق الإنسان في العالم العربي. نسأله عن ذلك فيجيب:

وراء ذلك أسباب موضوعية وأخرى ذاتية، منها أن “المجتمع المدني العربي ما زال ناشئاً، وهو حديث التكوين، بل جنينياً في بعض البلدان. وهناك العديد من القوانين في البلدان العربية التي تحول دون حريّة تأسيس الجمعيّات والمنظمات المدنية، فضلاً عن بعض المساعي الاحتوائية من جانب بعض القوى المتنفّذة داخلياً وخارجياً، لكن ذلك ليس كامل الصورة.

وتعاني مؤسسات المجتمع المدني العربي من نواقص وثغرات وعيوب من داخلها، منها محاولات تسييسها أو تديينها أو مذهبتها بإخضاعها لجماعات سياسية أو دينية أو مذهبية أو طائفية، بحيث يكون واجهة لها، سواء كانت حكومة أم جهات غير حكومية، وتتم محاولات ترويضها أحياناً عبر القانون، إما باتهامها بالعمل لحساب قوى خارجية أو تهديد الأمن العام أو العلاقات مع جماعات إرهابية.

ويعود ضعف مؤسسات المجتمع المدني إلى ضعف الثقافة الحقوقية بشكل عام، وانخفاض مستوى الوعي وضعف المبادرات وتغليب الحقوق السياسية والمدنية على الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، كما أن غالبية منظمات المجتمع المدني هي منظمات احتجاج، في حين ينبغي أن تتحوّل إلى قوّة اقتراح وقوّة اشتراك، بدلاً من انخراطها كقوّة اعتراض. يضاف إلى ذلك ضعف بعض أهلية قياداتها وتعتّقها بمواقعها وكأنها مملوكة بالطابو لها، واستخدامها وظيفة مستمرّة وليس عملاً تطوّعياً، فضلاً عن اضطرارها إلى حصر أنشطتها بالتمويل الخارجي، وغالباً ما تكون لمؤسسات التمويل أجندات خاصة، لغياب التمويل الداخلي. وكذلك غياب استراتيجيات واضحة لها، وضعف الهياكل والتراكيب التنظيمية، والعلاقات غير الديمقراطية بين منتسبيها وهيئاتها.

لا بدّ لمنظمات المجتمع المدني أن تضع مسافة كافية بينها وبين العمل السياسي أو الانحياز الإيديولوجي أو الولاء الديني أو الطائفي أو المعارضة أو الحكومة.

أستطيع أن أقول بثقة وبعد تجربة لسنوات، ومن باب النقد الذاتي، أن منظمات حقوق الإنسان وهيئات المجتمع المدني بشكل عام أخفقت في تحقيق الأهداف التي بدأتها في مطلع الثمانينيات، حيث كانت تتمتّع بالصدقية والموضوعية، في حين أن بعضها أصبح ممالئاً للسلطات، والآخر اتّجه نحو معارضتها، والثالث انكفأ لأنه لا يستطيع أن يؤيّد السلطة أو يعارضها، فضلاً عن النفوذ الخارجي في أوساطها.

وإذا كان علينا البحث عن مرجعية خاصة عربية وإسلامية، فهي ليست بمعزل عن المرجعية الكونية، التي ينبغي أن تتفاعل معها في إطار المشتركات الإنسانية، ومنذ أربعة عقود كنت أدعو إلى فك الاشتباك بين المرجعية الكونية وبين الخصوصية، التي لا تعني التحلّل من الالتزامات الدولية، بل التفاعل معها، ولا يمكن اليوم لإنسان أن يعيش في قرية معزولة، لأن العالم أصبح صغيراً ومتداخلاً ومتشابكاً ومتفاعلاً ومتراكباً، وهذه الحقيقة لا بدّ من الأخذ بها.

وحين أقول إن “حلف الفضول” هو أحد مرجعيات حقوق الإنسان الكونية، فإنما هو اعتزاز بتاريخنا وتراثنا، ناهيك عما قدمته الثقافة العربية – الإسلامية من قيم تصلح أن تكون مرجعية لحقوق الإنسان المعاصر، مثلما يعتزّ الصينيون بالكونفوشيوسية والتاوية، والهنود بتعاليم بوذا، والبريطانيون بالماغناكارتا، والفرنسيون بمبادئ الثورة الفرنسية، والأميركيون بدستورهم، والروس بمبادئ حق تقرير المصير والحقوق الجماعية، فلماذا لا يتفاخر العرب والمسلمون برافدهم الكوني لحقوق الإنسان؟

إن قراءتي هذه إنما هي إعادة تأصيل علاقة حضارتنا وثقافتنا بالحضارة العالمية والثقافة الكونية، فقد كان لنا قصب السبق في ذلك. وعلينا أن نتصالح مع تاريخنا. وبالعودة إلى “حلف الفضول”، فقد نشأ حين اجتمع فضلاء مكة في دار عبد الله بن جدعان وتعاهدوا على أن “لا يدعوا ببطن مكّة مظلوماً من أهلها، أو من دخلها من غيرها من سائر الناس، إلّا كانوا معه على ظالمه حتى تُردّ مظلمته”. وقد اتّخذ الإسلام موقفاً إيجابياً منه، وحين ألغى النبي محمد أحلاف الجاهلية استثنى منها “حلف الفضول”، ويوم سُئِلَ عنه، أجاب “شهدت مع أعمامي في دار عبد الله بن جدعان حلفاً لو أنني دعيت إلى مثله في الإسلام لأجبت”.

 

 

حوار أجراه الصحافي حسان الزين مع د. شعبان ونشر في جريدة نداء الوطن (اللبنانية) في 6 أيار / مايو 2023.

 

https://www.nidaalwatan.com/author/325-%D8%AD%D8%B3%D8%A7%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B2%D9%8A%D9%86

 

 

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com