مقالات

التعذيب في العراق… إدانة دولية ولامبالاة حكومية.

بيدر ميديا.."

التعذيب في العراق… إدانة دولية ولامبالاة حكومية

 

صادق الطائي

 

يبدو أن التحول الديمقراطي الذي حصل في العراق، لم يعالج أكثر النقاط حساسية في الإرث الديكتاتوري، الذي ورثه المواطن من حقبة النظام الشمولي، وأقصد هنا إقرار حقوق الإنسان بشكل فعلي، وعدم الاكتفاء بإدراجها كمواد قانونية في الدستور، أو في الأحكام القانونية، من دون أن تنفذ بشكل حقيقي.
فالتعسف والتعذيب الذي يلاقيه المحتجزون قيد التحقيق، لانتزاع الاعترافات منهم، ما زال ساري المفعول ويذكّر بإجراءات أجهزة الديكتاتور القمعية، وهذه المسألة تعد كارثة حقيقية، إذ يعني ذلك أن ضحايا النظام الشمولي قد تبنوا نهج جلاديهم في إدارة ملفات التعامل مع المحتجزين والمعتقلين، الذين يتم تغييبهم من دون مذكرات قضائية، بالإضافة إلى تعرض العشرات إلى الخطف السياسي من جهات متنفذة في العملية السياسية، مثل بعض الميليشيات التي باتت تنفذ أجنداتها خارج إطار الإجراءات القضائية في العراق.
والجميع يعلم أن الدستور العراقي الدائم لعام 2005 قد منع في المادة (37) منه، “جميع انواع التعذيب النفسي والجسدي والمعاملة غير الإنسانية”، وأكد على أن “لاعبرة بأي اعتراف انتزع بالإكراه، أو التهديد، أو التعذيب، وللمتضرر المطالبة بالتعويض عن الضرر المادي والمعنوي الذي أصابه وفقا للقانون”، لكن يبدو أن هذه النصوص القانونية لا تعدُ أكثر من كونها حبراً على ورق. تقارير المنظمات الدولية، ومن بينها منظمة “هيومن رايتس ووتش”، سلطت الأضواء على انتشار ظاهرة التعذيب في مراكز التحقيق والاعتقال في العراق في وقت مبكر من التحول السياسي الذي شهده العراق، ففي تقريرها المعنون “العراق الجديد؟ تعذيب المعتقلين وإساءة معاملتهم في حجز السلطات العراقية”، الصادر في كانون الثاني/يناير 2005، أشارت المنظمة إلى الاستعمال الممنهج لوسائل وآليات التعذيب لانتزاع الاعترافات من المحتجزين في مختلف محافظات العراق. وسجلت منظمة “هيومن رايتس ووتش” عبر التحقيقات، التي قامت بها في العراق، الاستخدام الممنهج للاعتقال التعسفي، والاحتجاز لفترات مطولة قبل المحاكمة، من دون مراجعة قضائية، وتعرض المحتجزين للتعذيب وسوء المعاملة، وحرمان الأسر والمحامين من زيارة المحتجزين، والمعاملة غير المناسبة للأطفال المحتجزين، وتردي الظروف في مراكز الاحتجاز السابق على المحاكمة إلى مستويات مروعة. كما أشارت إلى ما يشوب المحاكمات من نقص التمثيل القانوني، وقبول الاعترافات المنتزعة تحت وطأة الإكراه، كأدلة ضد المعتقلين. ومن الخطوات التي اتخذتها بعض المنظمات الدولية المناهضة للتعذيب في العالم، تجدر الإشارة إلى الدعم الذي قدمته منظمة “هارتلاند ألاينس إنترناشونال”، وهي منظمة حقوقية تعمل في العراق على حقوق المحتجزين، وقد دعمت هذه المنظمة تحرك بعض أعضاء البرلمان لإصدار مشروع قانون لمكافحة التعذيب في أيار/ مايو 2017. هذا القانون كان سيطالب قضاة التحقيق بإصدار أمر بإجراء فحص طبي لأي محتجز يزعم أنه تعرض للتعذيب، خلال 24 ساعة من الادعاء، وهو أمر نادرا ما يحدث بحسب منظمة “هيومن رايتس ووتش”. كما ينص مشروع القانون المشار إليه على فرض عقوبات جنائية على من يعذب شخصا أثناء احتجازه، ويدعو القضاة إلى رفض جميع الأدلة التي يتم الحصول عليها جراء عمليات التعذيب.. ويؤكد على وجوب إقالة الشخص الذي يثبت أنه استخدم التعذيب في التحقيق، كما يطالب القانون بوجود محام لجميع المحتجزين طوال فترة التحقيق.
إن إقرار هذا القانون والعمل به بشفافية كان سيساعد في معالجة حالة الانفلات الواسع للتعذيب لانتزاع الاعترافات بالإكراه في العراق، لكن المحزن في الأمر، أن هذا القانون ما زال يراوح في أروقة البرلمان العراقي، منذ أربع سنوات، من دون إقرار. إن استمرار حالات انتهاك حقوق الإنسان عبر الاستخدام الممنهج لعمليات التعذيب في مراكز الاحتجاز والسجون العراقية، دفع مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان (OHCHR) وبعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق (يونامي)، إلى إصدار آخر تقاريرها مطلع شهر آب/أغسطس الحالي، تحت عنوان “حقوق الإنسان في تطبيق العدالة في العراق: الشروط القانونية والضمانات الإجرائية لمنع التعذيب والمعاملة السيئة”، وقد تناول التقرير هذه الممارسة التي تفاقمت في السجون في جميع أنحاء العراق. وقد غطى التقرير المدة الزمنية من 1 تموز/ يوليو 2019 إلى 30 نيسان/إبريل 2021، واستند إلى مقابلات أجريت مع 235 محتجزا، بالإضافة إلى موظفي السجون والقضاة والمحامين وأهالي المعتقلين.

ضحايا النظام الشمولي تبنوا نهج جلاديهم في إدارة ملفات التعامل مع المحتجزين والمعتقلين

ومن أكثر أساليب العنف الجسدي والنفسي المستخدمة في آليات التعذيب في السجون العراقية، بحسب التقرير الأممي كان “الضرب المبرح، والصعق بالكهرباء، والوضعيات المجهدة، والخنق”، كما ذكر بعض السجناء ممن تمت مقابلتهم، “وقوع أعمال عنف جنسي”، وأشار بعض المحتجزين إلى معاملة “لا يستطيعون التحدث عنها”، وقد قال أحد السجناء لموظفي الأمم المتحدة الذين ساعدوا في إعداد التقرير، “لقد عشتُ أسوأ أيام حياتي. وما أن وصلتُ إلى السجن حتّى انهالوا عليّ ضربا بأنابيب معدنية، وفي الأيام التالية، استخدموا سلكَي كهرباء مكشوفَين وصعقوني بالتيار الكهربائي”. أما عن محدودية عمليات كشف الضحايا لهذه العمليات، وعدم تقديم الشكاوى للجهات القضائية لتحقق في هذه الانتهاكات، فقد ذكر التقرير، “إنه على الرغم من وجود آليات لتسجيل مزاعم التعذيب، فإن السلطات” تتجاهلها في كثير من الأحيان، ومن بين 1406 شكاوى تلقاها مجلس القضاء الأعلى، في عام 2020، تم إغلاق 18 تحقيقا فقط، وكانت النتائج غير واضحة”، لذلك ذكر نصف السجناء الذين التقاهم الباحثون التابعون للأمم المتحدة، أنهم تعرضوا للتعذيب أثناء الاستجواب بهدف انتزاع الاعترافات. والنتيجة الحتمية لسياسات التعذيب الممنهجة هي، “أن المحتجزين ينتهي بهم الأمر في كثير من الأحيان إلى توقيع وثائق تعترف بجرائم لم يرتكبوها”.
كما ذكر التقرير الأممي أن سبب عدم متابعة الشكاوى من قبل الموقوفين والمحكومين، الخاصة بارتكاب التعذيب وسوء المعاملة ضدهم هو، الخوف من تجاهل السلطات لعلامات التعذيب، كما أن إجراءات الشكاوى تبدو غير عادلة، أو فعالة، وهناك نقص واضح في المساءلة عن هذه الإخفاقات. وقد علقت ميشيل باشيليت المفوضة السامية لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة على الأمر بقولها، “حقيقة أن العديد من المحتجزين يختارون عدم الإبلاغ عن مثل هذه المعاملة بسبب انعدام الثقة أو الخوف من الانتقام، وهذا الأمر يشير إلى عدم ثقتهم بالنظام القضائي”، وأضافت “يحتاج هذا الجانب إلى معالجة فورية”، مشيرة إلى أن “توصيات محددة حول كيفية معالجة هذه الآفة”، متضمنة في التقرير، وأكدت أن “الأمم المتحدة مستعدة لمساعدة الحكومة العراقية في هذا المسعى”. لكن الموقف الحكومي الرسمي من التقرير، وما ورد فيه من معلومات كان الإنكار، إذ قالت مصادر رفيعة المستوى في وزارة العدل، “لا يوجد داخل السجون التابعة لها أي حالة من حالات التعذيب أو الانتهاكات الإنسانية”، وأكدت أن مشكلة السجون في العراق أنها “تعاني من الاكتظاظ وضعف الإمدادات الطبية”. لكن ميشيل باشيليت أكدت حدوث الانتهاكات، وقالت في بيان مشترك صادر عن مكتبها وبعثة يونامي، إن “السلطات بحاجة إلى التنفيذ الفعال للأحكام المكتوبة في القانون في كل مركز احتجاز”، وأشارت إلى أنه “إذا لم يكن الأمر كذلك، فإنها ستظل حبرا على ورق”. ومن جانبها أشارت الممثلة الأممية في العراق جينين هينيس – بلاسخارت، بقولها،” ليست هناك ظروف، مهما كانت استثنائية، تبرر التعذيب أو أي شكل من أشكال الإفلات من العقاب”، وطالبت حكومة الكاظمي ببذل المزيد من الجهود من أجل الوقاية والمساءلة، بما يتماشى مع التزامات العراق بموجب القانون الدولي والمحلي في هذا الشأن، لكن يبدو أن هذا الملف الساخن لن يكون من أولويات حكومة الكاظمي على المدى المنظور، لتبقى عمليات انتهاك حقوق الإنسان عبر عمليات التعذيب الممنهجة، سلوكا متبعا في سجون العراق، من دون أن يوقفها أحد.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com