تحقيقات

( سنة الشاعر الفلسطيني معين بسيسو في العراق ).

بيدر ميديا .

( سنة الشاعر الفلسطيني معين بسيسو في العراق )
******************************************
عبد الرزاق دحنون

في خريف عام 1952 ضاقت شوارع غزة هاشم على الشاعر الفلسطيني الشيوعي الشاب معين بسيسو من ملاحقات الشرطة السريَّة فشدً الرحال إلى العراق. سافر إلى بغداد وفي جيبه عقد عمل لتدريس اللغة الإنكليزية لطلاب المرحلة الثانوية. وفي أول ليلة له في بغداد وبالدينار الوحيد الذي كان يملكه اشترى تُفاحاً وزجاجة نبيذ وديوان “بوشكين تركيا” الشاعر الشيوعي العظيم ناظم حكمت. وفي الصباح سافر مع ناظم حكمت إلى الديوانية ومنها إلى قرية الشاميَّة.
اقرأ لنا قصيدة يا ناظم حكمت, قرأ: أنا شيوعي, أنا الحبّ من مفرق رأسي حتى أخمص قدمي, الحبّ أن ترى, تفكر, تفهم. الحبّ طفل يولد في كلِّ مطلع فجر أحمر. الحبّ ارجوحة معلقة بين نجمتين في السماء. الحبّ أن تعرف كيف تسقي حديد الجسد ليصير فولاذاً. أنا شيوعي, أنا الحبّ من مفرق رأسي حتى أخمص قدمي.
يكتب معين بسيسو في دفاتره الشيوعيَّة:
كانت مشكلتي أين أُقيم في قرية الشاميَّة, دعاني ناظر المدرسة ذلك اليوم للعشاء في بيته وبعدها قادني مع حقيبتي الوحيدة إلى البيت الذي قبلني كضيف فيه. حين استقر بي المقام فتحتُ حقيبتي وجدتُ أن أحداً ما عبث بها نظرتُ إلى المدرسين الثلاثة في الغرفة فكانوا يبتسمون. لقد تمَّ تفتيش الحقيبة والمُدرس الشيوعي عباس العادلي تقدم مني فاتحاً ذراعيه وهو يلوح بديوان المعركة:
-أهلاً بك في العراق.
كان ديوان المعركة باكورة كتب معين بسيسو والذي حمله معه من غزة إلى بغداد بمثابة أوراق اعتماد كشيوعي فلسطيني إلى الشيوعيين العراقيين. لم يرتبط حزب شيوعي بالشعر مثلما ارتبط الحزب الشيوعي العراقي. في ذلك لوقت من بداية عام 1953 كان الحزب يُقاتل ضدَّ الانقسام وضدَّ نوري السعيد من أجل وطنٍ حرٍ وشعبٍ سعيد.
بدأت الأيام تمشي في قرية الشاميَّة حيث كانوا أربعة مدرسين هم كل الكادر التدريسي في مدرسة الشاميَّة وكانت مدرسة مختلطة للبنين والبنات في قرية في العراق تلك الأيام-يا لزماننا الأغبر هذا الذي نعيشه اليوم-المهم في الأمر أن حوارات الرفاق في غرفة الشاعر كانت تمتد حتى مطلع فجر كل يوم. تدور في مُجملها حول ما يحدث في فلسطين, و ما يحدث في العراق. يقول معين بسيسو:
حادثة لن أنساها في حياتي, حين بدأ نوري السعيد بطرد اليهود من العراق, كان من بين اليهود المطرودين شيوعيَّة يهودية عراقية رفضت ركوب الطائرة, ضربها عسكر نوري السعيد حتى سقطت فوق سلم الطائرة, جروها جراً إلى داخل الطائرة وهي تصرخ: هذا وطني.
في أمسية من تلك الأمسيات الشيوعيَّة في قرية الشاميَّة قرأ الرفاق في الجرائد قصيدة محمد مهدي الجواهري في مدح ولي العهد الملكي الشاب فيصل الثاني فكانت صدمة كبيرة بالنسبة لهم فقرَّروا في خلية الشاميَّة الشيوعيَّة حرق محمد مهدي الجواهري. كوَّموا دواوينه في كومة وأشعلوا النار فيها. وفي تقريرهم الشهري للحزب كان أول ما كتبوه هو قرار اشعال النار في قصائد الجواهري. جاء ردُّ الحزب سريعاً في منشور خاص عن الجواهري عنوانه: محمد مهدي الجواهري شاعر العرب الأكبر. فأغلق الرفاق في الشاميّة علبة الكبريت التي تحرق دواوين الشعراء.
كان الشاعر مُعين بسيسو يُعطي دروساً مجانية لتلاميذ القرية. وفي أحد الأيام أرسل الشيخ الاقطاعي رابح عطية أحد رجاله ليضرب معين بسيسو. كان الرجل الضارب أباً لأحد التلاميذ الذي يتعلم عند الشاعر بالمجان. وهذا ما جعل الهراوة تسقط من يد هذا الأب الذي كان عامل مضخة للمياه, وكان أول من تمَّ تنسيبه من قبل معين بسيسو إلى الحزب الشيوعي العراقي.
بدأت منشورات الحزب وكراساته تظهر في قرية الشاميّة, صنع الرفاق سقفاً مستعاراً لغرفة الشاعر كي يكون حاجباً عن أعين الغرباء, وكان ما بين السقفين مخبأً سريَّاً لمناشير الحزب التي راحت رائحة حبر طباعتها تفوح في دروب القرية, ومع المناشير بدأت عناصر الشرطة السريَّة في الظهور.
يقول معين بسيسو:
فريد ناجي كان أعزُّ طلابي وكان مُصاباً بروماتيزم في القلب. استعار مني رواية الأم لصاحبها مكسيم غوركي ومات ولم يتم قراءة الرواية. ضع مزقة من سعفة نخلة في منتصف صفحات الرواية وبعدها توقف قلبه عن الخفقان. حملناه فوق سيارة وذهبنا لدفنه في مقبرة النجف. لقد رأيتهم وهم يغسلونه ولكنهم لم يستطيعوا أن يغسلوا اسم مكسيم غوركي من صدره. أردتُ أن أدفن معه كتاب الأم ولكنهم رفضوا. ربما خافوا أن يقوم كتاب بعمل انقلاب تحت التراب.
الخلية الأولى من الحزب الشيوعي العراقي في قرية الشاميَّة أعطت الخلية الثانية. وكانت امتحانات نهاية العام على الأبواب وبدأ حبر المناشير يفوح من جديد وبدأت الشرطة السرية تُكثف في لوبانها.
تغيرت الأحوال وكان على الشاعر أن يفلت من المصيدة . وجاء مندوب من الحزب وطلب من الشاعر السفر إلى بغداد فوراً. وهُناك تقرر كل شيء: عليك يا معين أن تُغادر العراق. حمل معه حقيبة خشبية مًصفحة بالتنك امتلأت بطنها بمطبوعات الحزب الشيوعي العراقي وغادر العراق إلى قاهرة المُعزِّ لدين الله . كانت أثمن هدية إلى الشيوعيين المصريين والشيوعيين الفلسطينيين في قطاع غزة موطن الشاعر .

” منقول ..”

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com