مقالات

لورانس العرب وتصنيع «شرق الغرب»

بيدر ميديا ..

لورانس العرب وتصنيع «شرق الغرب»

 

 واسيني الأعرج

 

الكثير من اللحظات في التاريخ العربي تحتاج إلى إعادة نظر وتأمل حقيقيين، لأنها في جوهرها مزيفة مهما بدت براقة. قُدِّمت في زمن ما، لغرض في نفس مستعمر الأمس قبل أن يثبت التاريخ هزالها وزيفها. هل كان على سبيل المثال لا الحصر، لورانس العرب، مساعداً للعرب من أجل التخلص من بطش العثمانيين؟ بمعنى أبسط، هل كان صديقاً حقيقياً للعرب، أم مجرد آلة تدمير في خدمة من زرعوه في الجسد العربي، وظيفته الأولى هي تدمير كل ما يجعلهم دولة موحدة كما وعدهم الإنجليز بذلك، واستعملوهم لتمرير خطط الاستعمار البريطاني للمنطقة، والمساهمة في تصنيع الشرق الغربي الجديد؟ العودة إلى التاريخ بنظرة موضوعية وبراغماتية تأخذ الحقائق كما هي لا كما نشتهي رؤيتها، وكتابات لورانس نفسه تحسم أي نقاش أو جدل حول الأهداف التي وجد من أجلها في الأراضي العربية.
لم يكن العرب بالنسبة له وبالنسبة لمن وضعوه، أكثر من وسيلة تم استثمارها، ولحم المدافع في حرب لم تكن تخصهم كثيراً. لقد اشتغلت على هذا الموضوع طويلاً وأنا أكتب رواية رماد الشرق، (جزأين) وتناولت فيها هذه الحقبة. قرأت كل ما كتبه لورانس العرب، من أعمدة الحكمة السبعة حتى مذكراته، يومياته فيما سمي بالثورة العربية، التي كان يديرها ويحركها وفق أهوائه بعد أن استمال الشريف حسين وأبناءه، بالخصوص الأمير فيصل الذي مرّر عبره كل ما اشتهى تمريره. خلصتُ إلى الفكرة الخطيرة التي ليست سراً على القراء المتابعين والمتبصرين، لأنها مبثوثة في كل كتبه، أولاً أن لورانس كان في مهمة جاسوسية واضحة، القصد من ورائها غلق الباب أمام فرنسا خوفاً من استيلائها على التركة العثمانية على الرغم من مظاهر التوافق. الحرب السرية وصلت بينهما إلى سقفها في القرن التاسع عشر واستمرت سرياً. ثانياً، كان لورانس مخبراً أساسياً في خدمة الترسانة العسكرية للجنرال الإنكليزي إدموند أللّنبي صاحب موقعات غزة الثلاث في 1917 التي هزم فيها القوات العثمانية، مما سمح له بالدخول بسهولة إلى القدس. كان لورانس العرب يعلمه بالصغيرة والكبيرة في ميدان الحرب. لا أحد يشكّ أنه كان وظل في خدمة التاج البريطاني حتى وفاته في حادث الدراجة النارية المشبوه، ثالثاً: مهمته الأساسية الظاهرة كانت تتلخص في تدمير السلطة العثمانية في المنطقة العربية بمساعدة الجيوش العربية التي كانت هي من يموت في المعارك الطاحنة ضد العثمانيين، ولكن مهمته غير الظاهرة كانت محو البنية التحتية من مخازن ومؤسسات حيوية عثمانية، وجسور، وسكك حديدية، ومطاحن، ومصانع صغيرة، وحرق المحاصيل، وقطع الأشجار، بحجة منع العثمانيين من استعمال ذلك لحاجاتهم الحيوية وعزلهم. مع أنه لم يكن لذلك أية ضرورة، لأن البنية التحتية والزراعة تشكل ميراثاً مستديماً، مهما كان، ويمكن أن تستفيد منه الدولة العربية الموعودة بعد طرد العثمانيين. حتى سُمّي مدمر الجسور. ولنا أن نعرف الخسارات التي خلفتها عمليات كتلك؟ وكيف عزلت المناطق العربية بعضها عن بعض. المهمة الأساسية بالنسبة للورانس العرب هي عدم ترك أي شيء يمكن أن تقف عليه الدولة العربية لاحقاً. كانت قراراته هي النافذة. الخلاف مثلاً الذي نجم حول استراتيجية الاستيلاء على ميناء العقبة التي كان قد خطط لها القائد العربي عودة أبو تايه برفقة الأمير فيصل، أوقفها لورانس واقترح بدائله ونفذها وشارك فيها الجيش العربي بقوة.
واضح أن الاستراتيجية المتبعة كانت تتجاوز بوضوح الحرب العالمية الأولى. حتى عندما وصل إلى دمشق الشام، ونصب الأمير فيصل كأمير عليها، وكان يريدها مرتبطة بالتاج البريطاني، فقد عمل على تشريد وتصفية كل المعارضين له، الذين رأوا في حركته تدخلاً غير مقبول في شأن البلاد العربية. ومن بين الذين مسهم ضرره بشكل مباشر، عائلة الجزائري التي كانت تدير شأن بلدية دمشق في ذلك الوقت، في انتظار وصول الأمير فيصل لاستلام زمام أمور تسيير المدينة والبلاد.
التقى الأمير سعيد الجزائري بالأمير فيصل العديد من المرات في الأردن، حيث كانت ترابط القوات العربية التي دخلت إلى الشام. أكثر من ذلك كله، فقد قتل أشد معارضيه، منهم الأمير عبد القادر الحفيد، الذي رفض تسلطه على العرب، وعارضه بقوة وتمرد عليه على رأس قوات دمشقية ودرزية لم تكن ترى بعين الرضى العلاقة الحميمية بين لورانس وفيصل. فقد كان الأمير الحفيد سباقاً إلى اعتباره عميلاً إنكليزياً، وليس مناصراً لقضية التحرر العربي من النير العثماني. وقد ذكر لورانس في «أعمدة الحكمة السبعة» كل الوقائع المرتبطة باغتياله الأمير عبد القادر الحفيد ومناصريه من الدروز. يصف بفخر مقتل المناهضين له، حتى أن بعض الاغتيالات نفذها بمسدسه الخاص.
لقد وصل لورانس إلى درجة أن كان يملي فيها إرادته على الأمير فيصل، وهذا الأخير، من باب الثقة أو الضعف، كان ينفذ ما كان يُطلب منه، قبل أن يطلب منه الفرنسيون المغادرة بموجب قرار داخلي فرنسي-بريطاني. يجد نفسه فجأة في قطار في اتجاه مجهول قبل أن ينصبه الإنكليز حاكماً على العراق، بعد تقسيم المنطقة نهائياً بين بريطانيا وفرنسا، ونشر روسيا بشكل انتقامي لبعض الوثائق السرية من اتفاقيات سايكس-بيكو التي ذبحت المنطقة بشفرة قلمين تاريخيين، أحمر وأزرق، حددا الحدود والمناطق لما سيكون عليه التاريخ العربي منذ تلك اللحظة التي تجاوزت لورانس العرب نفسه.
لقد انتهى يومها العرب كجغرافيا موحدة، وبدأ عصر آخر أشد قسوة: جغرافيا التمزق. الشرق الآخر، المختلق: شرق الغرب، كما يسميه إدوارد سعيد.
على التاريخ العربي أن يخرج من عواطفه غير الصحيحة، ويعيد قراءة تلك الحقبة الحاسمة، لأن كل ما يحدث اليوم في منطقة الشرق الأوسط، بما فيها قضية فلسطين، منبعه تلك اللحظة. لم يكن لورانس أكثر من مجرم حرب صغير، وجاسوس حقيقي في خدمة من سخروه لمصالحهم. فقد دخل حتى في الوجدان الإنجليزي بأنه منقذ العرب من آلة التخلف العثمانية. فوجئت يوماً بالمترجم الأمريكي تريفور لوغاسيك الشهير، الذي ترجم روايتي «رماد الشرق» إلى الإنكليزية، وهو يخطِّئني في موقفي من لورانس. قال لقد كان لورانس مغامراً ومحباً للعرب، جنتلماناً عظيماً. أنت تظلمه باعتبارك له مجرماً ومخبراً. لم أناقشه كثيراً، لكني أرجعته إلى كتاب لورانس نفسه «أعمد الحكمة السبعة». بعد مدة قصيرة، اعتذر لي وقال بحسرة: حقيقة، لم أكن أعرفه على تلك الصورة. أحياناً أتساءل بيني وبين نفسي: أليس كوشنير، مستشار الرئيس الأمريكي السابق ترامب، والمرشح لجائزة نوبل للسلام، لورانس العرب الجديد، مزيداً ومنقحاً، حسب مقتضيات عصر الهزيمة واليأس العربيين؟

 

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com