مقالات

سويسرا الحيادية تستثمر أموالها في صناعة الحروب.

بيدر ..

سويسرا الحيادية تستثمر أموالها في صناعة الحروب

 

هيفاء زنكنة

 

قام الشعب السويسري بالتصويت، الشهر الماضي، على مبادرتين لهما أبعاد اقتصادية دولية وانعكاسات أخلاقية وانسانية. لم يتم تمرير أي منهما.
تدعو المبادرة الأولى المسماة «من أجل شركات مسؤولة» الى محاسبة الشركات السويسرية، متعددة الجنسيات، على انتهاكات حقوق الإنسان أو انتهاكاتها للمعايير البيئية التي ترتكبها في الخارج، في زمن بات فيه نفوذ هذه الشركات يفوق غالباً نفوذ البلدان التي تعمل فيها. وتدعو المبادرة الثانية المسماة «مناهضة تجارة السلاح» إلى إضافة مادة إلى الدستور السويسري تحرّم تمويل صناعة الأسلحة. وهذا يعني أن البنك الوطني السويسري ومؤسسات التمويل والادخار لن تستطيع منح قروض أو استثمارات للشركات التي يولّد إنتاج المواد الحربية أكثر من 5 بالمئة من عائداتها السنوية. وسيتوجب على سويسرا أيضاً أن تلتزم على المستوى الوطني والدولي بتوسيع هذا الحظر ليشمل البنوك وشركات التأمين.
تثير نتيجة التصويت عديد التساؤلات حول حضارة الأمم والمستوى الأخلاقي لمواطني دول يتمتعون فيها بحرية الاختيار.
وهل بامكان العالم التطلع الى مستقبل خال من صناعة الحروب وتحقيق السلام، فعلا، أم انها أضغاث احلام « يسارية» لأشخاص ومنظمات، تعيش بعيدا عن الواقع، مستنزفة، ببيعها الأحلام، قوى الناس في نشاطات يعرفون جيدا أنها غير مجدية؟ هل هناك شعب محب للسلام تخلى عن صناعة الحرب المربحة بامكاننا استحضاره كنموذج، لشحن طاقة الأمل بالسلام في ارجاء الكرة الارضية، مستقبلا، وخاصة في منطقتنا التي تعيش 40 بالمئة من الحروب بالعالم؟
إن القاء نظرة على حجم تصنيع وانتاج العتاد الحربي وتصديره، وأهميته الأساسية في اقتصاد الدول المنتجة، وبالتالي انعكاسه على ارتفاع مستوى معيشة الفرد، يبين أن هذه الصناعة المربحة لن تكون مهددة بالانقراض قريبا. بل هناك ما يؤكد، أنها ستبقى، لاسباب سياسية بالاضافة الى الاقتصادية، بمنأى عن التخلي الرسمي والشعبي معا، مهما كانت الدول المصدرة حيادية وتشدّد على تقاليدها الإنسانية واحترامها لحقوق الإنسان، كما هي سويسرا.
تأتي مبادرة « مناهضة تجار السلاح» في سياق ازدياد تصدير السلاح السويسري. واذا كانت الفكرة السائدة عن سويسرا أنها البلد المحايد، المضيف، لأهم المنظمات الدولية الحقوقية والإنسانية والمصّنعة للأدوية والساعات الراقية، فقط، فان الواقع يؤشر الى ما هو أكثر من ذلك. حيث تُصدر سويسرا السلاح وعلى رأسها أنظمة الدفاع الجوي والمدرعات، إلى خمس وخمسين دولة، من بينها دول في حالة حرب بما في ذلك الكيان الصهيوني والسعودية والإمارات.

تكتسب متابعة ما يجري في سويسرا أهمية بالغة بالنسبة إلينا، نحن أبناء البلدان التي يتغذى حكامها ومستبدوها على شراء السلاح ولا مانع لديهم من دفع المليارات ثمنا لأسلحة تستخدم، غالبا، ضد شعوبهم

وتواصل سويسرا تغذية الحرب ضد اليمن بالسلاح منذ أكثر من خمسة أعوام، بالاضافة الى وجود تقارير تؤكد وصول اسلحتها الى سوريا وليبيا، على الرغم من كونها محظورة. اذ من المفترض خضوع صادرات الأسلحة السويسرية إلى مناطق النزاع الى قانون العتاد الحربي، الذي تنص المادة 5 منه على أنه لا ينبغي منح ترخيص تصدير إذا كان بلد المقصد متورطًا في نزاع مسلح داخلي أو دولي؛ وإذا كان ينتهك حقوق الإنسان «بطريقة منهجية وخطيرة»؛ وإذا بدا أن هناك احتمالا لاستخدام الأسلحة المصدرة ضد المدنيين؛ أو إذا كان هناك «خطر كبير في أن تتم إعادة تصدير هذه الأسلحة إلى مستلم نهائي غير مرغوب فيه». الا ان هذه النصوص القانونية المقيدة لم تمنع وصول الاسلحة الى بلداننا، مما دفع حزب الخضر و«مجموعة من أجل سويسرا بدون جيش» والأحزاب اليسارية والمنظمات غير الحكومية الناشطة في مجال تعزيز السلام الى طرح المبادرة الثانية، المستهدفة للشركات التي تحقق أكثر من 5 بالمئة من ربحها السنوي من إنتاج السلاح. مع العلم أن الاستثمار والإتجار بالأسلحة البيولوجية والكيميائية والنووية وكذلك الألغام المضادة للأفراد والذخائر العنقودية محظور في سويسرا.
أثارت هذه المبادرة، النقاش ما بين المؤيدين والمعارضين، لارتباطها بالوضع الاقتصادي العام والمعاشي للمتقاعدين. شكّل معارضو المبادرة لجنة مؤلفة من مسؤولين منتخبين من جميع الأحزاب اليمينية والوسطية وكذلك النقابات المهنية لمحاربتها. فقبولها يعني اعادة النظر في استثمار ما قيمته 1.93 تريليون دولار، يدار من قبل المصرف الوطني السويسري، ومنظومة التأمين ضد الشيخوخة والعجز التي تديرها الدولة، بالإضافة إلى أكثر من ألف وخمسمائة صندوق معاشات مهنية. وأي مس بهذه الاستثمارات يُشعر المواطن بالقلق لما قد يصاحب ذلك من تدهور في وضعه الاقتصادي، بالاضافة الى تقليل فرص العمل المرتبطة بتصنيع السلاح. فحسب تقرير منظمة «لا تستثمر في القنبلة» استثمر المصرف الوطني السويسري و «كريدي سويس» و«يو بي إس» حوالي 9 مليارات دولار في شركات منتجة للمواد الحربية المحظورة في عام 2019، ومنها شركات أيرباص وبوينغ.
يرى مؤيدو المبادرة أن الاستثمار في صناعة السلاح وتصدير المعدات الحربية يُساعد على تأجيج النزاعات المسلحة في جميع أنحاء العالم، مما يتعارض مع صورة سويسرا كوسيط دبلوماسي محايد، ودولة تروّج وتدعم الجهود الإنسانية. كما يقترحون ان هناك صناعات واستثمارات بديلة لتجارة الحروب. «هناك قطاعات أخرى صالحة للاستثمار مستقرة ومُربحة مثل تجارة الحرب» تقول المتحدثة باسم حزب الخضر. هذا صحيح، طبعا، وليس من المستحيل تحقيقه.
الا أن حملة رفض المبادرة المكثفة التي ضمت غالبية مجلس النواب السويسري والأحزاب اليمينية بالاضافة الى النقابات المهنية ( وهي نقطة تستحق الدراسة) وحثهم الناخبين على رفضها، أدت الى عدم تمريرها وان حازت على نسبة عالية من الاصوات.
تكتسب متابعة ما يجري في سويسرا أهمية بالغة بالنسبة إلينا، نحن أبناء البلدان التي يتغذى حكامها ومستبدوها على شراء السلاح ولا مانع لديهم من دفع المليارات ثمنا لأسلحة تستخدم، غالبا، ضد شعوبهم، وبإمكان مصدر السلاح فرض شروط استخدامها عليهم ومنعهم إذا ما عاشوا صحوة ضمير وأرادوا استخدامها ضد أعدائهم الحقيقيين، والأمثلة في فلسطين واليمن وسوريا كثيرة. كما تثير متابعة التصويت في سويسرا تساؤلا بالغ الأهمية وهو اذا كان هذا هو الوضع بالبلد المحايد غير التوسعي فكيف يمكن تحجيم صناعة السلاح والحروب في أمريكا وهي من اكبر الدول المصدرة للسلاح وسياستها تهدف الى الهيمنة على العالم؟
تعتمد صناعة السلاح، في مفهوم السوق التجاري الرأسمالي، على الربح وما يوفره من رفاهية لشعوب الدول المصدرة.
وتنبع مناهضتها، من قبل شرائح مجتمعية دون غيرها، لأسباب أخلاقية وانسانية تخوفا من استغلال الشركات والدول لفرص الربح على حساب حياة الناس. هنا تكمن مسؤولية الحكومات في بلداننا الموبوءة بالاستبداد والقمع والنزاعات المختلقة والحروب في وضع حد لصفقات السلاح المربحة القاتلة، ولأن قدرة حكوماتنا على تنفيذ ذلك مشكوك بها، لعل الضوء الذي يمنحنا الأمل هو العمل سوية مع مناهضي انتاج السلاح وحركات السلام في البلدان المنتجة للسلاح نفسها.

كاتبة من العراق

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com