مقالات

الإنتفاضة وجه العراق الحقيقي .

بيدر ميديا .

عبد الحميد برتو .

باحث

جاء الإحتلال الأمريكي للعراق عام 2003، ليؤكد على المستوى العالمي، إنفراد واشنطن بقيادة العالم دون منازع، بعد تفكيك منظومة الدول الإشتراكية في أوروبا الشرقية والإتحاد السوفياتي. وعربياً، لتهشيم طموحات وأفكار وحتى أحلام، كانت ذات يوم قوة تحريك لآمال شعوب المنطقة. وإقليمياً، لتولي توزيع الأدور، وخلق حالة من التخويف المتبادل بين الأنظمة، وزع العداوات بين الشعوب، بكل الأعماق والحدود الممكن. ومحلياً، لتطوع شعب إمتلك مقومات النهوض الحقيقي، على أساسٍ مادية وتاريخية وحتى شعورية واقعية.

كان الحصاد الأمريكي في العراق وافراً جداً، حتى أبعد من الخيال الأمريكي نفسه. لم تبقى قيادات قوى سياسية أو دينية أو مذهبية أو عرقية أساسية ومنظمة في العراق دون مطاوعة. تتراوح تلك المطاوعة بين التعاقد الوظيفي مع المحتل، أو التواطؤ، وفي أحسن الأحوال التردد في إعلان موقف وطني بحدوده الدنيا. بالمقابل لم تخلو حركة منظمة دون مواجهة معارضة داخلية، تقوم على الأسس التي بُنيت عليها تلك القوى. تفاوتت حجوم الإعتراضات بين ضعيفة كمياً، أو متفاجئة، أو لم تعد نفسها لمواجهات من هذا النوع، أو إنها تريثت الى أن طغى التطرف الديني بكل أصنافه، بما لا يدع مجالاً حتى للإنتحار.

كانت طموحات القوى الإقليمية ذات الغطاء الديني كبيرة. لكنها في الوقت ذاته ذليلة. هذا بإستثناء اللغو الفارغ، والكلمات الكبيرة الهائمة، التي تنقصها القيم الإنسانية والدلالة. طبعاً جاءت لإشباع الإستهلاك المحلي غير المجدي أيضاً. برز الدور الإيراني لأن المحتل سعى الى إستغلاله محلياً وإقليمياً. وتضافر مع الأوهام العثمانية في الهيمنة والتوازن الإقليمي مع أهداف خاصة أخرى. لا يقل الدور الرجعي العربي عدوانية إتجاه العراق عن أخويه الإيراني والتركي. هذا دون تجاهل المخاوف الذاتية للدول المجهرية.

ظلت واشنطن ضابط الإيقاع المنفرد للقوى الإقليمية والمحلية من خلال “المشورة” المباشرة أو الضغوط الموجعة على شعوب المنطقة، وتخويف الحكام الذين لم يجيدوا سوى الجعجعة الفارغة، من مسارات غضب شعوبهم. طرّب وتفاخر بعض الحكام بتلك “المكاسب” التي تحققت على المستوى الإقليمي، والتي تتناسب مع حجومهم الحقيقية. هذا بعد أن غضت “سيد العالم” الطرف عنها. تلك الأخيرة لا يضيرها أن توصف بالشيطان الأكبر أو الحليف الكبير غير الموثوق… الخ.

إذا كنّا اليوم لا نملك وثائق تدين جميع القوى المحلية والإقليمية، التي سعت الى تدمير العراق شعباً وأرضاً، والأهم في ذلك التدمير القيمي والثقافي والإقتصادي، من خلال تبادل الخدمات والأدور، فإن المشهد على الأرض يفيد ويشي بالكثير. سواءً كان ذلك عبر التسريبات الجزئية أو زلات الألسن أو مقابلات الأحداث والوقائع ببعضها البعض. إن الغد سوف يكشف الكثير عن السلوكيات الغادرة إتجاه الشعب العراقي. ومن أكثر صفحات الغدر تعاون جميع الأطراف المشار إليها على خلق ودعم “داعش”، لزيادة معدلات تمزيق الوحدة الوطنية العراقية، وقبل ذلك إعطاء مبررات لجميع الأطراف الأنانية لمواصلة إستهلاك قوى الشعب العراق، ولخدمة مصالحهم الخاصة، في التحريض والتدخل، ودفع “المخاطر” المحتملة عن أنظمتهم الجائرة التي تواجه عزلة داخلية.

على الرغم من تباين الأطراف المعادية للشعب العراقي، لنتلمس المشترك بينها في مجال تنفيذ خططها مع تباين الأهداف.

ـ العمل على تمزيق وحدة الشعب العراقي، على أسس رخوة وعنيفة في ذات الوقت، تقوم على المشاعر البدائية، غير المتسلحة بالوعي الإجتماعي الضروري، من تلك العوامل: الأصول العرقية، المعتقدات الماورائية، الإمتيازات المادية ونظيراتها. إن مشاعر الدينية والعرقية والرفاهية الشخصانية غير المنضبطة، تساعد في تعجيل الإنزلاق صوب منحدراتها بسهولة، وفي ذات الوقت تكون مروعة. خاصة إذا ترافق ذلك مع نشاط إعلامي فني وخبير. كما إن خيط التوازن الذي تسير عليه المشاعر البدائية رفيع وحاد جداً. يمتاز بسرعة الإشتعال. يمكن تغذيته عبر جرائم مروعة وإستفزازية تمررها الغفلة والأعصاب المشدودة. كل الإهتمامات السلبية التي تنشأ منذ الطفولة تكون سريعة العطب والحرق، بحكم تأثير قوة العادة والتطبيع العائلي والإجتماعي. هذه أدوات يمكن توظيفها بأكثر من إتجاه أيضاً.

ـ تحطيم بنية أسس الحياة الحضرية، مثل: الكهرباء، الماء، الإنتاج بشقيه الزراعي والصناعي ومؤسسات التربية والتعليم. هذا التدمير يخلق بيئة صالحة لتنامي الجريمة بغطاء سياسي أو معتقد ما. غني عن البيان الإشارة الى العلاقة بين نوع ونمط الحياة وتأثيرها على النظام القيمي العام. إن تدمير المؤسسات الخدمية وبالأخض التعليمية، وهز مكانة المعلم، وفرض التردي على المناهج والأهداف. وتمرير كل ذلك التردي تحت غطاء ديني أو فكري أو ثقافي. تبذل جهود مردوسة لتعميم كل أنواع الفساد والإنحطاط، وتعميق الذاتية، الفردية والقبلية وبعض الحالات الأوسع وأكثر خطراً.

ـ جرى تطبيق خطوات متضاربة من خلال معادلة موغلة في الوحشية، وهي: تجويع بالإكراه/ رفاهية دون أساس/ تجويع شامل للشعب وخلق أقلية فاحشة الثراء غير المشروع. حقق الحصار الإقتصادي الخطوة الأولى، أي حالة تجويع لفئات واسعة من الشعب بقوة الإكراه الدولية. ثم الخطوة الثانية، أي ضخ المزيد من الأموال المتراكمة بما يزرع وهم الرفاهية. ثم يأتي دور الخطوة الثالثة، التي تمتص كل مظاهر الرفاهية التي برزت بعد الحد من قسوة الحصار. وذلك من خلال وقف الصناعة الوطنية وتسريح مئات آلاف العمال. وتدمير الزراعة من خلال وقف خدماتها في المكننة والري والقروض والتسويق والحماية، أي تسريح ملايين الفلاحين، تحت وطأة إستحالة وجود مصادر للرزق في الريف.

لا أحد ينكر مخاطر تعميم حالات سلبية خطيرة أخرى، لتتضافر جهود كل العوامل التدميرية، منها:
ـ إغراق مفرط للبلد بقيادات سياسية لا تثق بالشعب. ينصب كل همها على سرقة أكبر قدر ممكن من المال والممتلكات العامة. نزع ثقة الشعب بدوائر الحكومية وحتى الأشخاص، وذلك من خلال تحطيم صورة المناضل الذي يقاتل من أجل شعبه، عبر عدة وسائل، منها: الإغراق بالإمتيازات غير المتوفرة حتى لقادة الدول الكبرى الغنية. تشويه صورة المترفع عن تلك المباذل. تكريم الإنتهازية والجشع وعشق قهر الآخر، وتغطيتها بثياب دينية أو مذهبية أو عرقية. لو سعي أي باحث الى درج كل تلك أساليب المتعمدة لتحطيم ثقافة الشعب العراقي، لما فرغ منها بسهولة.

ما هي الحصيلة التي سعت إليها تلك الأطراف على إختلاف أهدافها ومواقعها؟ إنها سعت الى تعميم بعض المظاهر والسلوكيات السلبية، بما يخذل ويبشع ويسخر من التطلع والأمل والعمل من أجل مجتمع عادل ومتقدم. سار العمل حثيثاً لزرع اليأس ليصبح حقيقة يقر بها حتى بعض المخلصين أيضاً. بهذا تستمر هيمنتهم على العراق كل حسب مصالحه ووفق حجمه السياسي والعسكري والثقافي وقوة أدواته المحلية. كادت الإنطباعات السلبية أن تصبح حقيقة يقرها الجميع، ربما بإستثناء قلة لم ينكسر عودها.

هنا جاءت إنتفاضة الأول من اكتوبر/ تشرين الأول، التي تحل اليوم ذكراها الأولى، لتقول للجميع: الشعب العراقي لم ولن يمت. اللعبة الدينية والطائفية والعرقية تنقلب على لاعبيها. أحرار الشعب يعرفون قوة ودهاء خصومهم، كما يعرفون بضاعتهم الفاسدة. الشعب العراقي لا يعادي أحداً، ولكنه لا يقبل بالإستغلال الجائر بكل أنواعه. الطوائف غير الطائفية السياسية. نريد إعادة تشغيل المصانع والمزارع. نريد صيانة أمن وكرامة المواطن. نريد إختيار ممثلينا بحرية، ومن خلال قانون عادل ورقابة موثوق بها. نريد محاسبة سراق المال العام، وهو يكفي لإعاد بناء العراق من جديد، ولا يمكن إستعادة الأموال والممتلكات العامة وأقطاب الفساد يملكون السلطة والنفوذ. نريد محاسبة القتلة بكل أصنافهم.
بإختصار الشعب رسم طريقه بـ: نريد وطناً.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com