مقالات

قراءة في جذور اليسار العراقي .

شبكة بيدر .

الكاتب صادق الطائي .

عندما نحاول تعيين نقطة البداية لتتبعنا التاريخي لحركات اليسار في العراق، فإننا من دون أدنى شك سننطلق من مطلع القرن العشرين، وبتحديد أكثر دقة من مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى، بسبب ما أنتجته هذه الحرب من تغيير في خرائط المنطقة، وتداعيات سياسية، بعد تفتتيت الامبراطورية العثمانية، وولادة الدول القطرية في الشرق الأوسط ومنها المملكة العراقية.
وعلى الرغم من إشارة بعض الباحثين، إلى جذور فكرية مستلة من معطيات ذات وجود تاريخي بعيد في الفكر العربي والإسلامي، وتقديمها على أنها بذور لأفكار اشتراكية تطورت لاحقا، وتأطير إشارات عن مفاهيم العدالة الاجتماعية في الإسلام، ونماذج من سلوكيات بعض الصحابة كأبي ذر الغفاري، وسلمان الفارسي، باعتبارها نماذج اشتراكية أو يسارية مبكرة، إلا أنني أعتبر ذلك ضربا من اللاعلمية. فاليسار بمفهومه السياسي الحديث دخل إلى الشرق الأوسط وبضمنه العراق بعد ثورة أكتوبر 1917 في روسيا القيصرية، وكان هذا الدخول نتيجة التأثر بما نقل من أخبار الثورة الروسية، ونشاطات البلاشفة التي أثرت لاحقا في بعض الطليعيين ممن تبنوا هذه الأفكار.
كما تجدر الإشارة إلى محاولة بعض الباحثيين الماركسيين ربط الانساق الاقتصادية لمجتمعات ما قبل الحداثة، التي كانت تعيشها القبائل في المجتمع العراقي قبل الحرب العالمية الأولى، بالأفكار الاشتراكية، عبر وصفهم إنتاج الكفاف، والملكية المشاعية لديرة العشيرة، والزراعة والرعي المشترك لأفراد القبائل على أنها مظاهر (اشتراكية جنينية) حفّزت المجتمع العراقي على قبول الفكر الاشتراكي لاحقا. وهذا الأمر برأيي يمثل نوعا من لي عنق الحقيقة، وفرض أطروحات ليست علمية لرسم آراء لا حاجة لنا بها، إذ لا يوجد أي ضير إذا اعترفنا بأن الاشتراكية باطروحاتها العلمية، هي نتاج غربي دخل لمجتمعنا مع كل منتجات الحضارة التي تعرفنا عليها منذ مطلع القرن العشرين.
ويبدو الوضع العراقي من ناحية دخول الأفكار الاشتراكية له مختلفا عن محيطه من الدول العربية، أو الشرق أوسطية، إذ بات معروفا أن الجاليات الأوروبية، وبعض أفراد الأقليات الدينية والقومية، ونتيجة لاتصالهم بالحضارة الغربية، هم من أدخل الفكر الاشتراكي إلى منطقة الشرق الأوسط. ويشير عدد من الباحثين بشكل خاص إلى دور الأقليات اليهودية في التعريف بالفكر الاشتراكي الماركسي في المجتمعات التي كانوا يعيشون فيها، في فلسطين ولبنان ومصر، في نهاية القرن التاسع عشر، وكذلك دور الجاليات الأرمنية في بلاد الشام، والجاليات اليونانية والإيطالية في مصر، في إنشاء تنظيمات جنينية لأحزاب شيوعية في المنطقة.

اليسار بمفهومه السياسي الحديث دخل إلى الشرق الأوسط وبضمنه العراق بعد ثورة أكتوبر 1917 في روسيا القيصرية

لكن هذا الأمر لم يكن مهيئا في العراق، إذ لم تتواجد فيه جاليات غربية بشكل كبير وملموس، كما أن يهود العراق كانوا مختلفين عن الجاليات اليهودية الشرق أوسطية، كونهم كانوا جزءًا من النسيج الوطني التاريخي للبلد، ولم يكونوا من الجاليات اليهودية الغربية، كما هو الحال في فلسطين وسوريا ومصر، لذلك كان تأثير اليهود العراقيين، محدودا نسبيا في المراحل المبكرة من عمر الفكر الاشتراكي في العراق. ويشير حنا بطاطو في كتابه «الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية في العراق» إلى دور المعلم الأرمني آرسين كيدور، الذي يصفه بأنه أحد قيادات منظمة «الهانشاق» الأرمنية الماركسية، التي كانت تنشط في مختلف الولايات العثمانية، ويصف بطاطو كيدور بأنه، «معلم التاريخ في المدرسة السلطانية في بغداد، البالغ من العمر 26 سنة، وابن البقال الموسر القادم من مدينة بايزيد التركية، الذي سيكون له تأثيره بارز في عشرينيات القرن العشرين في تطوير الشيوعية في العراق».
وتربط خطوط القدر بين مدرس التاريخ الأرمني آرسين كيدور وحسين الرحال، أحد تلاميذه في المدرسة السلطانية في بغداد عام 1914، الذي يصفه بطاطو في كتابه بأنه أول ماركسي في العراق. الرحال المولود لعائلة من التجار الأثرياء الجلبيين، الذي يعد من الأوائل، إن لم يكن أول من أدخل الأفكار الاشتراكية إلى العراق، ونتيجة عمل والده الضابط في الجيش العثماني، فقد تنقل الرحال في عدة مدن في العراق، نتيجة متطلبات وظيفة الأب الذي رافقته عائلته في هذه التنقلات، ما وفّر للصبي حسين الرحال الاطلاع على وضع المجتمع العراقي في مختلف مدنه وأريافه، كما انتقل مع والده أبان الحرب العالمية الأولى إلى ألمانيا، حيث أرسل والده في بعثة عسكرية، فاصطحب ابنه حسين معه، وتوفرت له فرصة نيل قسم من تعليمه في ألمانيا، كما توفرت له فرصة الاطلاع على الاطروحات الثورية للحركات الاشتراكية الألمانية، التي كانت نشيطة في تلك الحقبة والتي تأثر بها الرحال كثيرا.
عاد حسين الرحال إلى العراق، إلا أن قدره زج به في رحلة جديدة عام 1921، إذ كان المفروض أن يذهب إلى أوروبا لإتمام دراسته التي انقطعت بعد أن وضعت الحرب العالمية أوزارها، لكنه سافر عن طريق البصرة إلى الهند، ومكث هناك سنة تعرف فيها على صحافي هندي شاب كان ماركسيا نشيطا، وقد أثر كثيرا في توجهات وأفكار حسين الرحال، وقد عرفه على الخطوط العريضة للأدبيات الماركسية. وقام الرحال عام 1924، عندما أصبح طالبا في مدرسة الحقوق ببغداد، بتشكيل أول حلقة دراسية ماركسية في العراق، وقد سعى إلى بث العناصر الماركسية في تفكير جماعة أدبية غير رسمية، من الشباب المتحمس للأفكار الثورية، والذين كانوا يلتقون في غرفة داخلية في مسجد الحيدرخانة في قلب بغداد، وهو مسجد اشتهر في بغداد العشرينيات كمكان للقاء الشباب الثوري، وانطلاق التظاهرات السياسية المناهضة للانتداب البريطاني، وسياساته في العراق، وسرعان ما أسست هذه المجموعة جريدتها التي حملت أفكار الشباب الماركسين والتي كانت تصدر باسم «الصحافة» واستمرت بالصدور بين عامي (1924-1925) ثم توقفت وصدرت ثانية لمدة قصيرة عام 1927 لتتوقف نهائيا بعد ذلك.
ضمت مجموعة الماركسيين الرواد الملتفة حول الرحال كل من، محمد سليم فتاح، وهو طالب في كلية الطب وصهر الرحال، ومصطفى علي وهو معلم ابتدائي، الذي سيصبح لاحقا في عهد عبد الكريم قاسم وزيرا للعدل، وعبد الله جادو، وعوني بكر صدقي، وهو معلم وصحافي، أصبح في أواخر الخمسينيات رئيس تحرير جريدة «صوت الأحرار» ذات الميول الماركسية. وربما كان أبرز أعضاء المجموعة محمود أحمد السيد، المتحدر من عائلة من الأشراف السادة، الذي كان والده إمام مسجد الحيدرخانة الشهير، وربما كان هو من وفر غرفة اللقاءات الاولى للمجموعة. ويوصف محمود أحمد السيد، بأنه أول روائي عراقي، والذي كتب أول رواية عراقية بعنوان «جلال خالد» التي تصف رحلة شاب عراقي يساري إلى الهند مطلع العشرينيات، وربما يكون السيد قد استلهم في روايته رحلته هو وكذلك رحلة حسين الرحال إلى الهند، وتأثرهما هناك بالفكر الماركسي.
وتجدر الاشارة إلى أن الدور الأبرز لحسين الرحال، تمثل في إدخال أدبيات الفكر الماركسي للعراق في حقبة العشرينيات عبر الترجمة والتلخيص، وتسليط الضوء على مناهج المادية الجدلية، والمادية التاريخية في زمن لم تكن فيه الأدبيات الماركسية قد توفرت باللغة العربية، كما أن أعداد العراقيين ممن يجيدون اللغات الأجنبية كانت محدودة جدا، ويمكننا الإشارة إلى تأثير الرحال في جيل الآباء المؤسسين للحزب الشيوعي العراقي، الذين عرّفهم على الأفكار الماركسية مثل، زكي خيري وعاصم فليح ، كما كانت أمينة الرحال اخت حسين الرحال، أول أمراة عراقية تتخلى عن الحجاب في بغداد، والتي ستصبح بعد ذلك عضو لجنة مركزية في الحزب الشيوعي العراقي. هنالك شخصيتان لعبتا أدوارا مهمة في حقبة جذور الفكر الاشتراكي في العراق، الاول هو بيوتر فاسيلي، وهو شاب آثوري نشأ وتعلم في تفليس في جورجيا التي هاجر ابوه لها أيام الدولة العثمانية، وكان فاسيلي يجيد عدة لغات، عاد إلى العراق، الذي دخله عن طريق المحمرة عام 1922، وعرف بكونه ثوريا محترفا، وعمل في عدة مدن عراقية تنقل بينها، لكن نشاطاته السياسية تركزت في البصرة والناصرية، ويربط بعض الباحثين تشكيل اول منظمة شيوعية في البصرة عام 1927 بفاسيلي، ولم تكتشف الشرطة العراقية أن بيوتر فاسيلي ناشط شيوعي إلا عام 1932، وكذلك أكدت هذا الاتهام تقارير الاستخبارات البريطانية، فتم نفيه خارج العراق عام 1934.
أما الشخصية الثانية فهو عبد الحميد الخطيب، وهو مدرس فيزياء في مدرسة البصرة الثانوية، وقد قدّم اعترافات للشرطة العراقية عام 1934 مفادها أنه هو من شكّل المجموعة الشيوعية الأولى في البصرة، التي اختارت نادي الشبيبة مركزا لنشاطاتها، وأن مجموعة البصرة ضمت زكريا الياس دوكا، وسامي نادر مصطفى، وعبد الوهاب محمود. كما ادعى الخطيب أنه هو من كسب للحزب شخصيات من ما يعرف بمجموعة الناصرية، التي سيكون لها الدور الأكبر في تاريخ الحزب الشيوعي مثل يوسف سلمان (فهد) أول سكرتير للحزب الشيوعي العراقي بعد ذلك، واخيه داوود سلمان، وغالي زويد، إلا أن حنا بطاطو ربط هذه المجموعة ببيوتر فاسيلي، وليس بعبد الحميد الخطيب. ومع بدء عقد الثلاثينيات ابتدأت مرحلة جديدة في تاريخ اليسار العراقي، يمكن أن نسميها مرحلة البناء، الذي قامت به نخب جديدة تعلمت من جيل الرواد ولهذا موضوع قادم.
كاتب عراقي

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com