صدر حديثا

رواية «وشم الطائر»… بصمة الماضي والجرح الإيزيدي العميق.

بيدر ميديا.."

رواية «وشم الطائر»… بصمة الماضي والجرح الإيزيدي العميق

 

تشارك رواية «وشم الطائر» للكاتبة والشاعرة دنيا ميخائيل، روايات القليل من الكتاب العراقيين، في التعبير عن إحدى الكوارث الإنسانية التي تعرضت لها الطائفة الإيزيدية في العراق، خاصة النساء، إثر اجتياح الإرهاب الداعشي لمدينة الموصل وما جاورها، وتبقى هذه المشاركة علامة مختلفة في مسار الكتابة الروائية العراقية الإبداعية، كنص سردي كان مرشحاً لجائزة البوكر العربية لعام 2021 ضمن القائمة القصيرة، وأسلوب معالجتها للأزمة.
صدرت الرواية عن دار الرافدين (بغداد – بيروت 2021) واعتمدت دنيا ميخائيل في تسجيل أحداث الرواية على ما دوّنته من وقائع مأساوية، خلال زيارتها للعراق عام 2016، إذ التقت العشرات من النسوة اللواتي تعرضن لأبشع جرائم العنف والسلب والاغتصاب، والقهر والتشرد، واستمعت منهن لروايات وحكايات مطوّلة لما جرى لهن، حين يتحول العنف إلى متعة في نظر أهل اللحى.
زيارة الروائية للعراق، مكّن دنيا من الإمساك بخيوط الرواية منذ ذلك التاريخ، وكتبت أولاً (سوق السبايا) ثم انتقلت إلى «وشم الطائر» كنسخة منقحة عن كتابها السابق، وكجزء من مدونات مليئة بالمغامرة والشقاء عاشتها الروائية، وكتبتها عملاً روائياً نادراً، استوى فيه فعل المضمون مع فعل الصور السردية، التي قدمتها ميخائيل بقدرة ونباهة، وصبر مليئتين بالتحفز والترقب.
تنفتح الرواية على شخصيتين رئيستين: هيلين وإلياس، هما الصوتان الفعليان في الأحداث، ويقبعان وراء بناء النص السردي، تحاول الكاتبة المزج بين السيرة الذاتية، والسرد، وأسلوب الواقعية التسجيلية، والتضمين، والتقطيع السينمائي، لتختلط الرواية بالسيرة الواقعية، والعودة للمتخيل، لتقدم نصاً سردياً يشدد على الخطوط الأساسية في الشخصيات، والنص يرتكز حول بؤر محددة من التجربة، فضلاً عن عرض شرائح مختلفة، لتكشف الحدود الدقيقة فيه، بين اليقظة والكابوس، وبين الوهم والواقع.
بؤرة المكان تتمثل في قرية (حليقي) منها سينتقل القارئ إلى فضاءات وعوالم من التحولات والطقوس، والأساطير، والجمال والاضطراب، طائر القبج الجميل يتحول إلى رمز، ليس من خلال علاقة الحب بين هيلين ابنة حليقي، وإلياس الإعلامي القادم من الموصل، متابعاً لطائر القبج الجميل، الذي غالباً ما يفقد حريته، في التحليق، وينتهي به الحال إلى الأسر في قفص ضيق، والمفارقة هي ان أهل حليقي لا يصيدون الطيور ولا يأكلونها، إنما يقيمون طقساً سنوياً يحرقون فيه الأقفاص الخالية، ويرقصون حول النار في يوم يسمونه عيد الطيور.
في هذا السياق كان كل من هيلين وإلياس يعيشان حرارة العشق التي أفضت إلى الإعلان عن يوم خطوبتهما، وتخليهما عن خاتمي الزواج، واكتفيا بوشم العرافة على بنصريهما بطائر، بدلاً من الخاتم، يومها تنبأت العرافة بأن يواجه أحدهما أحداثاً شاقّة، وكتمت ما تبقى من نبؤتها. يذكر أن وشم الطيور كتقليد يحمل العديد من الدلالات لدى بعض الشعوب، فهو الحرية، والانطلاق، والسلام والحب، أو النبل والمعرفة، والطيور ترمز للأسرة والأمومة، وكذلك اسم هيلين يعني بالكردية عش الطير، على أثر ذلك تلتحق هيلين بزوجها، وولديه يحيى وياسر من زوجته المتوفاة، وتغادر القرية إلى الموصل.
يبدو أن دنيا ميخائيل أكثر إثارة للدهشة والغرابة وقوة الخيال، في التقاط الزوايا السردية للرواية، والانعطافات في لغة الرواية الخالية من المحسنات والمجازات، والتركيز على الحبكة الروائية، في إشارة إلى تأثر هذه الروايات بتيارات ما بعد الحداثة، التي تدعو إلى تخليص اللغة من البلاغات التي ترهقها. وفي أكثر فصول الرواية لم تلجأ دنيا إلى تكثيف لغتها السردية بالشعر (كونها شاعرة) بل جاءت تقريرية أو خبرية، لوقائع وأحداث متتابعة، مكتظة مزدحمة بالأشخاص والأمكنة.

«وشم الطائر» ذاكرة الإنسان التي لا يمحيها الزمن، بصمة الماضي والجرح العميق الذي يستيقظ في حاضر هيلين وهي تواجه الغربة، بمعنى الابتعاد عن المكان الأول، حين يشهر الموت سيفه، ويدمّر أبسط أمنيات الإنسان في العيش آمناً، ليظل حائراً في غمرة ما يجري، وهو متناقض غاية ومعنى.

تكتشف هيلين أنها في سجن معروضة للبيع، وفيه تحولت إلى رقم 27، ما حدث لها، حدث لنساء الطائفة على اختلاف أعمارهن، خلفاء الله على الأرض سلبوا كل شيء، واعتدوا على شرفهن، وسلبوا خواتم الزواج، في قاعة الأسر لمحت أمينة صديقة طفولتها، وبلقاءات المصادفة لمحت شقيقها الأسير آزاد، والولدين يحيى وياسر اللذين انضما لتنظيم «داعش» وهي تتنقل من سرير لآخر في أخس صفقات البيع والشراء التي ينظمها وحوش «داعش» كان مقتل عياش آخر من اشتراها، قد مكّنها من الهروب، لتنضم إلى شقيقها آزاد في قرية المهتدين، وقوامها من الأسرى، الذين يخدمون أصحاب اللحى.
بنيت الرواية على شبكة من الرواة المتداخلين، فثمة عدة رواة يتحدثون على امتداد الرواية، بلغة واحدة مستقرة، تحمل الصفات الأسلوبية ذاتها، واحتل المكان أهمية بالغة من بين أركان السرد الأخرى بعدّه الحيز والحاضنة لفعل السرد الذي تنهض به الشخصيات. وفق هذه المعطيات تندرج «وشم الطائر» ضمن نهج روايات أخرى باتجاه الواقعية، التي لا تخلو من القصدية في توصيل تلك الانتهاكات للمتلقي بأساليب مختلفة، اجتهدت فنياً للابتعاد عن التوثيقية.
يتمكن آزاد من الهرب إلى قرية أخرى، ويعمل على إنقاذ شقيقته هيلين، ثم يلتحق بهما يحيى وياسر، بعد مشاهدتهما لمقطع فيديو، فيه يتدفق الدم من رقبة إلياس، أثناء التدريب على الذبح وحز الرؤوس، هذا المشهد قلب توجهاتهما تماما، ثم تتسارع الأحداث فتشهد خاتمة الرواية عودة أمينة الصديقة الأقرب لهيلين إلى زوجها تحمل طفلاً من أب داعشي، وليلى تفقد قدرتها على النطق، وريحانة تنتحر بعد أن تناوب العديد من الرجال على اغتصابها، وتتمكن هيلين من الوصول إلى كندا لاجئة مع يحيى وياسر وابنتها ميادة، لكن ذاكرة هيلين لا تبارحها رقصة أبناء قريتها (الطير الجريح) فيتمايلون بأجسادهم على نغمات الناي الحزين.
راحت دنيا ميخائيل تتلمس عمق الجرح الإيزيدي، والخراب العراقي، فكأنها بذلك تلملم أجزاء الجسد الاجتماعي – النفسي، جسد البشر والمكان، والروح والعيش، هذا الجسد الذي فتته الاجتياح الإرهابي، الطائفي، العنصري، حتى بدا عاجزاً عن إيقاف الانهيار، والخروج من دوامة النزيف.
«وشم الطائر» محاولة لصياغة وعي نقدي بأحداث الواقع، ما تبقّى هو الألم والأمل، وأحداث الرواية تنوس بينهما. هروب هيلين المتحصنة بحلمها لا يعني تغلبها على خصمها، ومع هذا تبقى منتصرة على مستوى الفاعلية السردية، أي على مستوى وظيفتها كبطلة روائية تحرّض القراء ضد أعدائهم، بعد أن تترك في نفوسهم مأساتها، وفي وعيهم ظلامتها.
«وشم الطائر» ذاكرة الإنسان التي لا يمحيها الزمن، بصمة الماضي والجرح العميق الذي يستيقظ في حاضر هيلين وهي تواجه الغربة، بمعنى الابتعاد عن المكان الأول، حين يشهر الموت سيفه، ويدمّر أبسط أمنيات الإنسان في العيش آمناً، ليظل حائراً في غمرة ما يجري، وهو متناقض غاية ومعنى.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com