مقالات

بصري بين الجبال ٨من ١٢.

هيئة التحرير .

الباحث عبد الحميد برتو .

المرحلة الصعبة
إختارَ الكاتبُ تسميةَ المرحلةِ الصعبة لوصفِ عودتِهِ الى سوريا. على الرغم من إنها سجلت بدايات لإستقرار حياته الشخصية والعائلية والمهنية. أرى في هذه التسمية تمسكاً أصيلاً بجذور معتقداته. تقول كل التجارب أن الذين لا يعانون من خدوش في صلابة مواقفهم إتجاه حزبهم أو مجتمعهم أو رخاوة ما أمام العدو، يواصلون التمسك الروحي، على الأقل، بتلك العلاقة. تكون نوعاً من العشق لجوهر الفكرة العامة، حتى في حالات التمرد الصاخب، ولكنه ذو طبيعة غير تدميرية. أستطيع أن أقول إن كل واحد منهم مثل فلاح زرع شجرة، فأحبها. ظل يراقب نموها أو تعثر ذلك النمو. يسقيها ويستظل بها. نجد مثل هذه الحالات عند الشعوب الشرقية بصفة خاصة. هي حالة نفسية ـ إجتماعية كونتها مسيرة تاريخية عبر عوامل ومؤثرات إقتصادية ـ إجتماعية عامة وكثيرة. يمكن إستغلالها من كل جماعة لتعزيز بنائها الداخلي. ويمكن إستغلالها من الأعداء للتدمير الماحق. لننظر كيف إستخدمت أطراف الهيمنة العالمية هذه الخاصية في شعوبنا للإجهاز عليها دون رحمة.

دام بقاء صاحبنا في القامشلي شهراً كاملاً. يعود طول إنتظاره الى إزدحام المساكن المتوفرة للرفاق بالعاصمة السورية. إستقبله في دمشق النصير أبو أنجيلا بحرارة مميزة مشوبة بشيء من الإرتباك الظاهر. بدأ أبو أنجيلا توزيع أعضاء المجموعة على الأماكن المخصصة. بعد أن عرف الجميع كل الى أي يتجه، فيما عدا النصير العائد محمد الحجاج، الذي ظل دون سكن. كان المشهد محرجاً ومؤلماً للجميع، بعد أن أكد أبو أنجيلا بأنه غير مبلغ بشيء بصدد إسكانه. إن مَنْ يعرف أبا أنجيلا يستطيع أن يتخيل هول الصدمة غير المعنلة في داخله. وإذا تأملنا المشهد ككل نرى خطيئة أرتكتبت بحق الحزب أولاً قبل أن تستهدف إنسان بعينه. يقوم هذا المشهد على وقاحة ونقص في النزعة الإنسانية والذوق. أكيد أن خيطاً من الذكرى المريرة عَلَقَ في ذاكرة النصير العائد، الذي جاء الى الشام بطريقة وقرار مشروعين من مركز القرار في الحزب. وعلق في ذهن أبي أنجيلا، وبقية أعضاء المجموعة. هل من ممكن أن يتخذ إنسان حريص على حزبه، قبل أن نقول غير ذلك، مثل هذا القرار الشائن. أقل الواجب علينا أن نمنح حتى لِمَنْ نغضب عليهم فرصة لبعضة أيام لتدبير أمورهم كبشر حسب.

يمكن تخيل قسوة ذلك التصرف الذي زاده شتاء دمشق عبوساً وبرداً وألماً. تحسس النصير العائد جيبه شبه الفارغ، الذي لا يسد إجرة ليلة واحدة في فندق شعبي. أوقد سيكارة كحل ربما يوفر فرصة لإمتصاص صدمته والإحراج البالغ أمام رفاقه. لم يبقى أمام صاحبنا سوى التوجه الى منطقة مساكن برزة، التي تضم أعداداً كبيرة من العراقيين. غرق النصير في الباص بهموم لا حدود لها. وصل الى نهاية الباص. لم ينتبه الى نداء السائق، وهو يحثه على النزول. طرح خلال رحلة الحافلة الكثير من الأسئلة على نفسه. ولكن السؤال الأكثر إلتهاباً ووجعاً على حد وصفه، هو ما ذكره في كتاب (تجربتي): “كان سؤال يراودني آنذاك، ومازال لحد الآن: ماذا فعلت لأعامل بهذه الطريقة البشعة؟” (تجربتي ص 121)

لا توجد خيارات لمواجه تلك اللحظات الصعبة. إنتظر ساعة كاملة في ذلك الجو الممطر، على أمل أن يمر أحد الأصدقاء، أو حتى أحد المعارف. ولكن في كثير من الأحيان يتوحد العبث مع الصدفة. بعد أن خاب الظن في مساكن برزة. كان ينبغي عليه أن يجرب إحتمالاً آخر في الضفة الأخرى من جبل قاسيون شقيق جبل قنديل.

بعد التفاهم مع سائق تاكسي على الأجرة دفعاً لإحراج ما قد يحصل من نقص في المبلغ الذي لديه. توجه الى دمر ـ حارة الحمام. وصل الى البيت الهدف. وقف عند الباب يسترق السمع عل صديقه مازال يسكن ذات الدار. أطال السمع دون جدوى. لم يبقى أمامه غير مواجهة الخبر اليقين. تجرأ فطرق الباب إعتماداً على مبدأ المواجهة خير من الإنتظار بلا نتيجة. خرجت علية سيدة. ردت تحية على الضيف التائه بلهجة عراقية. هذا الرد كان فاتحة أمل جديد، مهما كان ضعيفاً، أو بمثابة حزمة ضوء في سقف الظلام الذي يحيط به من كل جانب.

قال: “عفوا، ربما أنا قد أخطات، ولكني أبحث عن صديق عزيز لي كان ساكناً في هذا البيت، لما يقرب من سنتين، إنه أبو نيران ـ نبيل عادل حطاب.
ـ نعم إنه بيته، تفضل وأدخل، وهل أنت (ابو علي)؟
ـ نعم، أنا هو.
ـ أنا بنت خالته، وأردفت، قائلة: بعد قليل سيأتي أبو نيران وزوجته.” (تجربتي ص 123)

عند عودة نبيل الى بيته في دمر، حَلَّ جَوٌ من الفرح الحقيقي للطرفين، الضيف والمُضيف. ومما زاد في حميمية اللقاء أن المُضيف قد سمع خبراً مؤلماً عن ضيفه وصديقه. يفيد بأن النصير محمد الحجاج ورد إسمه بين قائمة شهداء بشت آشان. كم هي الحياة رحيمة أحياناً، ها هو حَيٌّ يرزق، ويتسامران في جلسه ودية تتحدى كل المرارات المحيطة.

يقول الكاتب إن طبيعة الإستقبال المؤلم عند عودته الى دمشق. أوحت له بأن علاقته بالحزب أصبحت متشنجة جداً. على الرغم من محاولاته لمعرفة سبب ذلك التعامل غير المبرر من قبل الرفاق، فلم يفلح. لذا ينبغي أن يبحث عن عمل يديم حياته. وهو يعرف أن العمل في دمشق صعب، لأنه يتطلب تزكية من منظمات مرتبطة بحزب البعث جناح سوريا. قدم طلباً الى وزارة التعليم العالي السورية. إستلم رداً بعد نحو شهرين. يطالبه بمراجعة مقر المنظمات الشعبية العراقية ـ التابعة لجماعتهم من العراقيين. عرض الكتاب (تجربتي) الكثير من أشكال معاناة البحث عن عمل دون سند قوي ومتنفذ. وافق على العمل كحارس في إحدى المزارع. لكن صاحب المزرعة إعترض على تشغيله بعد أن علم إنه يحمل شهادة الدكتوراه.

تواصلت لقاءآته مع شخصيات متنوعة عراقية وغير عراقية. كانت الشام تعج بشخصيات محترمة، وأخرى أقرب الى المرتزقة. أشار الى لقاء له مع عبدالله أوجلان زعيم حزب العمال الكردي في تركيا، عن طريق طيب الذكر النقابي العمالي العراقي حكمت كوتاني. تم اللقاء في بيت الأخير في حي دمر.

ظلت حالته تقوم على البحث الدائم عن عمل. وأخيراً حصل على عمل في مختبر للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ـ القيادة العامة بزعامة أحمد جبريل في حي المزرعة. كان مرتب ذلك العمل جيد جداً، ثلاثة آلاف ليرة سورية. يقع المختبر في منطقة عين صاحب. تبعد عن دمشق نحو ساعة بالسيارة. شيد المختبر داخل كهوف بحكم طابعه السري. لم يكن عمل المختبر جدياً. بدا له وكأنه وسيلة لأخذ راتب جيد فقط. ظل طيلة الوقت شغله الشاغل البحث عن عمل حقيقي. في هذه الأثناء حصل على عمل في الجزائر. هنا بدأت الحياة تكون أكثر إنتظاماً. عقد قرانه على خطيبته وشريكة حياته سهام الجواهري. حصل على جواز سفر يمني رسمي (جمهورية اليمن الديمقاطية) بإسمه الصريح هذه المرة. تم ذلك بمساعدة طيب الذكر الرفيق عبدالوهاب طاهر في دمشق، وصديق آخر هو لطيف منصور الشاهين في عدن.

ظل هاجس معرفة سر العقوبة التي تعرض لها من الحزب هاجساً يطارده. ينغص حياته العامة والخاصة. حاول اللقاء بـ (أبو نبيل) مسؤول منظمة الحزب في الشام بمقرها خلف جامع الكويتي، ولكنه لم يفلح. كل ما حصل عليه بعض الملاحظات من الرفيق عبدالوهاب طاهر. ولم يدون الكاتب ما ذكره له الرفيق عبدالوهاب.

تصادف حضور الكاتب الى مقر الحزب بدمشق مرة، مع زيارة للرفيق آرا خاجادور عضو اللجنة المركزية للمقر. أخبره الرفيق آرا بوجود السكرتير العام للحزب عزيز محمد. ومن المناسب اللقاء معه للتداول في أمره. جرى اللقاء فعلاً وإتسم بالود. إن دعوة الرفيق آرا الحجاج للقاء مع سكرتير الحزب تؤكد حقيقة أن النظر الى مصائر الرفاق متفاوتة، من حيث درجة الحرص على الحزب، وعلى الرفيق أيضاً، وفي وقت واحد. ها هو القائد الفهدي العمالي الراحل آرا خاجادور يبادر هو لتقديم الرفيق النصير العائد الى الشخص رقم واحد في السلم التنظيمي للحزب لرفع الحيف الذي لحق به.

أترك وصف اللقاء مع الراحل عزيز محمد كاملاً على لسان النصير نفسه. من خلال فقرات ضافية وردت في كتابه (تجربتي)، وهي كالآتي:
“وبعد التحدث عن الوضع العام للحزب. وتحديداً عن أحداث بشت آشان، بادرني بالسؤال المهم التالي: هل كانت تلك الأحداث قدراً محتماً على الحزب؟ أجبته بمنتهى الصراحة، بأنها لم تكن كذلك. ومن وجهة نظري كان من المفروض تلافيها بكل الوسائل. وأن لا يجر الحزب الى مثل هذه المواقف، لا سيما ونحن نعلم بأن المشاكل بين الحركات الكردية قد تحدث حتى لأسباب شخصية وتافهة في بعض الأحيان، بالرغم عن ما كان يدبر من أساليب التآمر التي يحوكها النظام الدكتاتوري في بغداد والمفاوضات التي تتم في الخفاء بينه وبين بعض القيادات الكردية. وأكملت وجهة نظري بالقول: وحتى إذا سلمنا بوجود هذه المؤامرات، كان علينا تلافي الإنجرار لمثل هذا النزاع الذي كان دائراً بين الحزب الإشتراكي والإتحاد الوطني، إذا كنّا لا نتمكن من ردم الصدع بينهما. فإن لعبة السياسة تحتاج الى سلوك آخر، لا سيما أن الإشتراك بمثل هذه الخلافت سلبياً يفقدنا الكثير من المنجزات التي تم تحقيقها عبر جهد وتضحيات كبيرة، وكان علينا أن ندرك في حينها بأن الحفاظ على هذه المنجزات أهم بكثير من الرضوخ الى الواقع (العشائري)، وهي السمة البارزة لسلوك غالبية الحركات الكردية آنذاك، حتى وإن تبرقعت بالزي الثوري. إتفق معي الرفيق عزيز محمد بالكامل، وردد: هكذا كنت أقول. وللعلم لم يكن هو موجوداً في كردستان أثناء تلك الأحداث، أي إنه كان خارج العراق. وإنتهى اللقاء دون العثور على أجابة عن علاقتي بالحزب، ووعدني بالنظر فيها وحلها لاحقاً، ولكن حتى هذه اللحظة، لم أجد جواباً شافياً”.(تجربتي ص 129 ـ 130)

أرى أن المؤمن بنظرية الطبقة العاملة بحق، قد تساعده في تجنب بعض الأخطاء، التي تصيب أي إنسان. عدا أخطاء وأعمال وتصرفات الخيانة، فهي تدخل تحت عنوان وفعل آخر. لا توجد حركة ثورية أو رجعية في العالم وعبر التاريخ تخلو من خونة في صفوفها. وإذا كان الحزب الثوري يقظ، فإن الخيانة تبعث بمؤشرات تتطلب الحس السليم لإلتقاطها. قد نكتفي بإشارة واحدة هنا للأجيال الجديدة. إن مَنْ يستخدم إسلوب التنكيل ضد رفاقه تقع علينا جميعاً مسؤولية فتح عيوننا، وكذلك إيقاظ حاسة الشم لأن للخيانة رائحة.

من أفدح الأضرار بأي جماعة من الناس أن تسود النظرات الآحادية الجانب: إما صفر أو مائة. من الضروري أن ننظر إتجاه كل إنسان بما له وما عليه، إذا كنّا معنيين به. أروي حادثتين عن الرفيق الراحل عزيز محمد. وهو يؤكد على أن المسؤول الحزبي هو قوي بمّنْ حوله. يقول على سبيل الطرفة: الأسد إذا يقود أرانب يصبح نصف أسد، والأرنب إذا يقود أسود يصبح نصف أسد.

الحادثة الأولى: بعد المؤتمر الرابع للحزب 1985. وبالتحديد بعد مذبحة المحاولة الإنقلابية في 13/ كانون الثاني ـ يناير/1986 في جمهورية اليمن الديمقراطية التي راح ضحيتها عدد كبير من كبار قادة اليمن الجنوبي ومئات من الكوادر المؤهلة وآلاف المدنيين والعسكريين. إنعكست الحالة على رفاقنا العراقيين هناك. وإضطر العشرات منهم الى ركوب باخرة متجهة الى اللاذقية على عجل. كانت حالتهم يرثى لها. كنت في تلك الفترة مسؤول منظمة الحزب في سوريا. سافرت الى اللاذقية مع أحد رفاق المنظمة. طلب الرفيق عبدالوهاب طاهر السفر معنا. رحبت بحضوره دون إستشارة أحد. لأن حضور قديم في الحزب يضفي أهمية للوفد الذاهب للإستقبال. جرى على الفور تقديم كل المساعدات الممكنة والإستقبال الحار. بادر أبو سعود بمساندة طلبي لتقديم العون تسهيل نقل القادمين الى مناطق مستقرة. وتقديم سلف لكل منهم بدون النظر الى حزبيته. وهذه السلف لشراء بطاقات السفر والمعيشة وشراء ملابس مناسبة، حيث وصلوا بملابس شبه تالفة. تعاد تلك السلف للحزب بعد إستقرارهم، وتوفر الأموال لديهم. إن إعادة ديونهم تعني مساعدة غيرهم من المحتاجين. كان الرفيق في هذا الموقف شهماً وتصرف كقائد شيوعي. حتى ظن كثيرون أن نفساً جديداً وحيوياً قد حَلَّ بعد المؤتمر الرابع. وظل الرفاق العائدون من اليمن يمتدحون ذلك الموقف من جانب الحزب الى يومنا هذا.

الحادثة الثانية: بعد ذات المؤتمر إشتدت الخلافات بين الإتجاهات الحزبية، خاصة الكوادر الأساسية. لقد وقفت ضد محاولات تخريب الحياة الحزبية. ولكن في الوقت ذاته وقفت ضد القسوة في معاملة الرفاق المعارضين. كان الرفيق أبو سعود أقل الرفاق قسوة من جميع ممَنْ يُنسبون الى الطرفين في التعامل. كذلك الرفيق أبو خولة ـ باقر إبراهيم كان لا يشجع على الإنشقاق. إن الوضع في سوريا ينطوي على خصوصية إذ يوجد نصف م. س بشكل دوري فيها. وهذا يخلق تضارب في التصورات حول معالجة المواقف والنظر الى مصائر الرفاق. يبدو أن الرفيق ذاته أخذ برأي الآخرين، قال لي: رفيق هل تريد أن تميّز موقفك عنا؟ وهذا العبارة تحمل الكثير لمَنْ يعرف عن قرب حياتنا الحزبية. إن الذين مالوا الى التشدد في معالجة الصراعات التي أخذت لحد ما طابعاً شخصياً. قد أضروا بالحياة الحزبية من خلال إشاعة أجواء التنصت على الرفاق سواءً كانوا معهم أم ضدهم. روجوا لعبارة منسوبة الى لينين يمتدح فيها مَنْ يسميهم (عملاء الحزب في التنظيم). بحثت عن هذه العبارة طويلاً ولم أجدها.

هل أحكم على الرفيق الراحل عزيز محمد من خلال الحادثة الأولى أم الثانية؟ من الضروري أخذ كل رفيق ضمن مسيرته كاملة. هذا الموقف ينطبق على كل الرفاق ممن وصفوا باليسار أو اليمين في الحزب. لكل واحد منهم نقاطه المشرقة وجوانبه ربما المظلمة، لأنه إنسان. وكل واحد منهم شذبته الشيوعية والنضال الوطني والطبقي بقدر ما مختلف ومتفاوت. هذا الى جانب مَنْ عقده النضال أيضاً. ولكن هناك حالات لا يمكن أن تكون إعتباطية. مثل إذا كلف رفيق بقيادة أكثر من منظمة وفي عدد من البلدان. حارب فيها مجتمعة أخلص الرفاق لحزبهم. هنا فقط يُطرح السؤال الكبير جداً عن هذا “الرفيق” وعن الكيفية التي مرت بها جميع إنتهاكاته. كما ينبغي في الوقت ذاته الإنتباه الى الحملات الواسعة التي توجه الى رفيق بالإسم لتحطيمه بالكامل، من جهات لا علاقة لها بالحزب. لكنها تنجح أحياناً في تمرير بعض أهدافها عبر رفاق فقدوا الحذر الضروري في الظروف القاسية.

نعود الى النصير العائد حيث يُقَومُ نفسه بأنه لم يكن في يوم من الأيام مشاكساً طيلة حياته العامة والحزبية. لكنه لا يستطيع العمل إلا وفق قواعد تتوفر فيها شروط محددة، منها: القناعة بالفكرة، الصرامة في التطبيق، احترام الرأي، نبذ مبدأ الميكافيلية في السلوك الشخصي، لا يطبيق أي خطوة دون تفكير بها مسبقاً. ولهذا يرى بأنه مجبرٌ على تطبيق مبدأ (المركزية الديمقراطية). قال عنه إنه في التطبيق يعمل في أغلب الأحيان بنصفه الأول. ذهب أبعد من ذلك معتبراً مبدأ المركزية الديمقراطية يفقد المرء رأيه الشخصي الى حد ما، وهذا ما لا يحتمله. ويرى فيه بأنه يجرد الإنسان من كيانه، وتتقلص فيه روح المبادرة والعمل الطوعي الذي ينص عليه النظام الداخلي للحزب. وواصل هجومه على المركزية الديمقراطية. وجسد ذلك في علاقة المكتب السياسي باللجنة المركزية، حيث بات وكأنه هو المسؤول على اللجنة المركزية بدلاً عن مسؤوليته أمامها. ربما فات الرفيق النصير أن يشير الى أن جوهر المركزية الديمقراطية هو تنفيذ برنامج الطبقة العاملة، مثل هذه الإشارة تساعد المعني بأن يرى حقيقة المبدأ وطريقة تنفيذه في آن واحد.

تبدو رحلة الآلام تشارف على نهايتها. على الرغم من تشنج العلاقة مع الحزب، وآخرها عدم الإستجابة المنظمة لدعوته للمشاركة في حفل عقد قرانه سهام الجواهري، وكان مسؤولها في تلك الفترة عادل حبه. فما عليه في هذا الجو إلا أن يشد عزمه في مجال إختصاصه العلمي. فقد أتم مراسم الخطوبة، وفيما بعد عقد الزواج في المحكمة بدمشق. كان حينها ضيفاً على صديقه أبو نيران في منطقة دمر (حارة الهواش) حيث أفرغ له صديقه أبو حيدر (صلاح الصـﮔر). وهو أخو الشهيد ستار خضير عضو اللجنة المركزية، الذي إغتيل من قبل النظام الديكتاتوري في مطلع السبعينات من القرن السابق بالوقت التي كانت مفاوضات (الجبهة قائمة).

سافر النصير السابق وعالم الوراثة في نهاية الشهر التاسع عام 1984 الى الجزائر، بعد أن أصبح رب أسرة. وبعد أن حصل على قرض من صديقه سعد السعد لتغطية أجور السفر. يقول: “التحقت بعملي كاستاذ جامعي لأول مرة … لحقت بي زوجتي بغضون شهرين تقريباً من سفري، بعد أن إستلم بيتاً مؤثثاً من قبل الجامعة. وقد علمت منها بعد وصولها، كيف عملت المنظمة الحزبية بدمشق على عرقلة سفرها بإسلوب سيء جداً وتافه لا يستحق التوقف عنده. هدفه فك الإرتباط بيننا، بعيداً عن كل القيم، ولا أريد أن أنوه عن الأسماء التي قامت بذلك لأنها لا تستحق حتى الذكر. (تجربتي ص 131). إذا إستطعنا أن نبتلع عدم المشاركة في حفل عقد القران. ماذا نقول عن محاولة تحطيم عائلة شابة جديدة. هل هذا ممكن. إنه العار لا غيره.

يقول الكاتب إنه بدأ يستعيد نفسه. يرتيب أموره الشخصية. يدفع للتنظيم تحويلات مساوية لرواتب ثلاثة أشهر ونصف سوية مثل بقية الرفاق في الجزائر. على الرغم من العلاقة المتشنجة مع الحزب. يضيف بأنه توقف عن إرسال التحويلات، بعد أنكروا دفعه لتلك التحويلات. طالب بالتحقيق، وهو أمر لم يتحقق لحد الساعة على حد تأكيده.

إستمر بالعمل في جامعة أم البواقي حتى عام 1989. ثم في جامعة عنابة، حيث عمل صديقه الدكتور الصيدلاني نبيل الأسدي (أبو نيران). وصف أصدقاءه في أم البواقي بالرائعين، منهم: د.علاء صبيح، د. حسن الوردي، د. شوكت الأسدي، ومن سوريا د. محمد أنور الإمام. أتاح له العمل سفرات جميلة في الأعوام 1985، 1987، 1990. زار خلالها معظم الدول الأوروبية، الشرقية منها والغربية، العربية أيضاً. شملت كلاً من: تونس، ايطاليا، النمسا، تشيكوسلوفاكيا، المانيا الغربية والشرقية، إيطاليا. يقول: ساعدته تلك الجولات في التعرف على تقاليد شعوب وحضارت تلك الدول. وإكتساب معرفة ثقافية غيرت الكثير من المفاهيم الخاطئة لديه. كذلك إستطاع من خلال دعوة من الدكتور حسن الوردي زيارة الإتحاد السوفيتي السابق. ثم عاد الى سوريا عن طريق البحر إنطلاقاً من أوديسا المطلة على البحر الأسود. ومن أوديسا كان المرور والتجوال في موانيء: فارنا، أثينا، اسطنبول، قبرص حتى المحطة الأخيرة في اللاذقية السورية. طبعاً رافقته زوجته في كل تلك الأسفار. عاد لتبدأ مرحلة جديدة بعد العودة من تلك الأسفار السياحية، وليس من الوطن.
يتبع …

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com