مقالات

محاولة انقلاب ناظم كزار بين الأسطورة والحقيقة

بيدر ميديا.."

محاولة انقلاب ناظم كزار بين الأسطورة والحقيقة

صادق الطائي

 

عند الحديث عن محاولة انقلاب مدير الأمن العام اللواء ناظم كزار الانقلابية في 30 حزيران/يونيو 1973 تشعر أنك تسير في أرض مليئة بالفخاخ والدسائس ونظريات المؤامرة، وذلك نتيجة غياب الأدلة التاريخية والوثائق المؤكدة عما جرى، وبالتالي نحن إزاء روايات شفاهية مختلفة قيلت بدوافع مختلفة تحرك قائليها ومطلقيها، وتم خلط الأمور بين العديد من الروايات الحكومية الرسمية، أو الشخصية التي قيلت في السر، ثم خرجت للعلن بعد إسقاط نظام صدام.
الخط الرئيس لرواية أحداث ما وقع في المحاولة الانقلابية، يتمثل في أن ناظم كزار كان مستاءً من ازدياد حالات المحسوبية والعشائرية في مراكز القوة في الدولة والحزب، وبشكل خاص في المراكز الأمنية والعسكرية، حيث بدا واضحا تزايد نفوذ أبناء قبائل تكريت والدور من أقارب ومعارف أحمد حسن البكر وصدام حسين في المفاصل الحساسة للدولة، وأن كزار، وبمساعدة محمد فاضل، عضو القيادة القطرية ومسؤول المكتب العسكري في حزب البعث، ومباركة مثقف حزب البعث الأول عبد الخالق السامرائي، حاولوا القيام بانقلاب داخلي لتصحيح مسار الحزب وحكومة البعث الثانية.
الاختلافات تبدأ من البحث في تفاصيل التنفيذ ومن عَلم به ومن لم يعلم، إلا أن المؤكد هو أن ساعة الصفر قد حددت عند عودة الرئيس البكر من زيارة كان يقوم بها الى بولندا وبلغاريا، على أن يتم التخلص من قيادات الدولة الممثلة بالرئيس البكر ونائبه صدام بعملية اغتيال ينفذها فريق اغتيالات من القناصين تم توزيعهم على سطوح صالة الاستقبال في مطار بغداد القديم (مطار المثنى). ومن جانب آخر قام كزار باعتقال نخبة التكارتة والمقربين من البكر في الدولة، وهم الفريق حماد شهاب التكريتي وزير الدفاع، والفريق سعدون غيدان وزير الداخلية، والرائد عدنان شريف شهاب آمر فوج الحرس الجمهوري وابن أخ وزير الدفاع، ومنذر المطلك التكريتي مدير مكتب الرئيس البكر وزوج ابنته، وبعض الضباط الصغار.

البعض ممن قالوا بدور السوفييت في إفشال المحاولة الانقلابية برروا الأمر على أنه تدخل لترجيح جناح البكر/صدام في الصراع العراقي الداخلي

تمت عملية اعتقال وزيري الدفاع والداخلية ومن معهم بطريقة سلسة من قبل ناظم كزار، لأنه كان مسؤولهم الحزبي، وقد دعاهم لحضور افتتاح مؤسسة أمنية جديدة، ومن هناك تم اعتقالهم والتحفظ عليهم، والغاية من ذلك، هو اغتيال الرئيس البكر، وقيل لاحقا النائب معه، ليتم بعد ذلك إعلان قيام جنرالات الحزب، حماد شهاب وسعدون غيدان بمحاولة انقلابية، وأن الحزب قد تمكن من إحباط المحاولة لتتم تصفية المعتقلين، وليتسنم عبد الخالق السامرائي المنصب الأول في الدولة والحزب في الحركة التصحيحية.
أشارت بعض نظريات المؤامرة الى وقوف صدام حسين خلف محاولة الانقلاب، وأنه كان المحرك الفعلي لها، وأن المحاولة الانقلابية كانت عبارة عن صفحة ضمن صراع جناحي البعث، المدنيين الذين يقودهم صدام، والعسكر الذين يقودهم البكر، وقد استخدم صدام ناظم كزار الرجل الأقوى حينذاك، وفي اللحظة الأخيرة انقلب عليه هو وجماعته وتخلص منهم، وبذلك ازداد نفوذه في الدولة والحزب، وأصبح الرجل الأقوى والرئيس الفعلي من خلف الستار، حتى تمكن من إزاحة البكر بعد ذلك بست سنوات في تموز/يوليو 1979.
كما أن الحديث عن فشل، أو إفشال المحاولة الانقلابية أيضا فيه الكثير من الخلط الذي يصل حد الأسطرة، إذ جرى تداول معلومات شفاهية عن سبب فشل المحاولة الانقلابية نتيجة تدخلات مخابراتية دولية، إذ قيل إن المخابرات السوفيتية الـ (كي جي بي) علمت بالمحاولة الانقلابية عن طريق أحد عملائها الموجود قريبا من ساحة الأحداث، وإن ما حصل كان ترتيبا من المخابرات السوفيتية التي أوصلت أوامرها الى بلغاريا بهذا الشأن، وعندما هبطت طائرة الرئيس البكر في رحلة العودة الى بغداد للتزود بالوقود، تم استقباله من الرئيس البلغاري جيفكوف، الذي أصر على استضافة البكر في جولة في مصيف فارنا، مما أدى الى تأخر وصول طائرة البكر عدة ساعات عن موعد عودتها منتصف نهار 30 حزيران/يونيو، وقد تم كل ذلك دون إبلاغ السلطات العراقية في بغداد. هذا التأخير أدى الى فزع واضطراب مجموعة القناصة المكلفة بعملية الاغتيال في مطار بغداد، والنتيجة قيام الملازم أول محمد مطر قائد المجموعة بسحب رجاله خوفا من أن يكون أمرهم قد كشف، وعودتهم الى المقر حيث يتواجد ناظم كزار الذي كان يتابع تفاصيل استقبال الرئيس في التلفزيون الذي كان يغطي الحدث.
في هذه اللحظة ابتدأت رحلة نهاية المحاولة الانقلابية التي تمت بعد يوم واحد، ففي الأول من تموز/يوليو حاول كزار ورجاله أخذ الرهائن الذين بحوزتهم والتوجه شرقا في محاولة للفرار خارج العراق. لكن تمت مواجهتم من قبل فلاحي قبائل منطقة ديالى حتى تم وصول مروحيات عسكرية ألقت القبض عليهم، وقد قتل وزير الدفاع الفريق حماد شهاب، وجرح وزير الداخلية الفريق سعدون غيدان، في هذه المطاردة. وتمت العودة بمنفذي الانقلاب الى القصر الجمهوري أولا، ثم جرى التحقيق معهم من قبل لجنة تحقيق خاصة برئاسة سعدون شاكر رئيس المخابرات، ثم محاكمتهم بمحكمة خاصة تولى رئاستها عزة الدوري، وأمرت بإعدام المشتركين في المحاولة الانقلابية، وتم تنفيذ حكم الإعدام بهم يوم 9 تموز/يوليو، فيما تم خفض عقوبة عبد الخالق السامرائي من الإعدام الى السجن المؤبد نتيجة التدخلات والضغوط الدولية والعربية.
البعض ممن قالوا بدور السوفييت في إفشال المحاولة الانقلابية، برروا الأمر على أنه تدخل سوفيتي لترجيح جناح البكر/صدام في الصراع العراقي الداخلي، والنتيجة فوز السوفييت بتطبيع علاقات النظام العراقي مع الحزب الشيوعي – اللجنة المركزية بقيادة عزيز محمد، الذي دخل سريعا في تحالف مع البعث في ما عرف بالجبهة الوطنية الديمقراطية في صيف 1973، بالاضافة الى المكاسب السوفيتية التي جنتها موسكو عبر صفقات التسليح، والاتفاقية النفطية التي وقعها العراقيون مع السوفييت لتطوير حقول الجنوب النفطية عام 1973. لكن يبقى كل ذلك ضمن حدود الروايات الشفاهية والاستنتاجات وأقاويل الأفراد في شهاداتهم على الحدث، نتيجةغياب الوثائق والسجلات الرسمية.
من جانب آخر قال بعض أصحاب نظريات المؤامرة إن المخابرات الأمريكية (سي آي أي) هي من كانت وراء إفشال محاولة كزار الانقلابية، وهي التي حمت صدام حسين، رجلها في المنطقة، عبر إبلاغه بتوقيت وتفاصيل المحاولة الانقلابية، وبالتالي تم وضع خطة تأخير طائرة الرئيس البكر في صوفيا من قبل صدام حسين نفسه، وهو الذي قبض على المنفذين وحقق معهم على يد رجله الأقوى سعدون شاكر رئيس المخابرات، ومن ثم تصفية المنفذين لتدفن معهم أسرارهم. لكن المفارقة أن وثائق المخابرات الأمريكية قد تم الإفراج عنها بعد مرور المدة الزمنية القانونية ويمكننا أن نقرأ فيها وصف ما حدث.
وسأعتمد هنا على الترجمة التي أوردها الصحافي رياض محمد للوثيقة التي تمثل تقييما لوكالة المخابرات المركزية عن المحاولة والمؤرخة في 4 تشرين أول/اكتوبر1973 والمرسلة الى وزير الخارجية الأمريكي هنري كيسنجر. يقول التقييم إن المحاولة الفاشلة تمثل دليلا على عدم الاستقرار في نظام البعث الذي يقوده البكر وصدام، وإن الصراع الداخلي كان سمة هذا النظام لكن هذا التنازع اشتد في الشهور الأخيرة.
ويقول تقييم المخابرات الأمريكية للحدث إنه بينما تشكل الاختلافات الايديولوجية عاملا مهما في الصراع الداخلي في العراق، فإن الاختلافات الشخصية عامل أهم، وإن المخابرات الأمريكية لا تملك معلومات عن هوية المعارضين الداخليين للنظام في العراق، لكن النظام يتصرف بعصبية. كما يشير التقييم إلى أن البكر الذي يمثل العسكر، وصدام الذي يمثل الحزب كانا يتنافسان حتى تاريخ المحاولة الانقلابية، وإنهما يعملان معا الآن لإعادة الاستقرار من أجل بقائهما المشترك في السلطة.
وتضيف الوثيقة أن جهود السلطة فشلت في القضاء على المشاكل. وقد انتشرت منشورات تهاجم النظام وتطالب بعودة الجنرال صالح مهدي عماش الذي كان سفيرا للعراق في موسكو وعبد الكريم الشيخلي وزير الخارجية السابق وعضو ممثلية العراق لدى الأمم المتحدة الى السلطة. وطالبت المنشورات أيضا بتصحيح الانحراف الذي أصاب الحزب، كما أن هذه المنشورات وضعت الصراع على السلطة أمام العامة.
وتؤكد الوثيقة على أن هنالك نتيجة ثانوية لهذا الصراع تتمثل في انفتاح متواضع أمام الغرب في النواحي التجارية، ونحن (المخابرات المركزية الأمريكية) نعتقد أن النظام يحاول إبعاد الأعين عن مشاكله الداخلية ويحاول توسيع قاعدته الشعبية. وما يعنيه هذا للولايات المتحدة لا يزال غير واضح، وليس هناك أي دليل على أن هذا الوضع سيشكل انفراجة حقيقية في العلاقات الأمريكية – العراقية، كما أن تغيرا أساسيا في انحياز العراق للاتحاد السوفييتي غير محتمل. بالرغم من أن شراء العراق لقاصفات روسية (سوبرسونيك) متوسطة مؤخرا يوضح مدى اعتماد العراق على موسكو تسليحيا.
كاتب عراقي

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com