مقالات

المقاومة الفرنسية .

ضرغام الدباغ .

تعودت منذ زمن بعيد، كلما فرغت من تألف كتاب، أو ترجمة عمل، أن أقوم بدعوة أصدقائي لدعوة شاي أو قھوة، والكعك )الكيك( وكان أول عمل أنجزته ھو رسالة الماجستير التي تقدمت بھا لجامعة لايبزغ بألمانيا عام 1977. ثم توالت الكتب المؤلفة أو المترجمة حتى بلغت اليوم ربما الستين كتاباً، المترجمة منھا ربما 26 كتاب. وواضبت على ھذه العادة، الاحتفال بالأعمال حتى في السجن،)حيث اشتغلت كثيراً

وأنجزت العديد من الأعمال(.

واليوم 14 / آب / 2017 قبل دقائق أنجزت ترجمة عمل مھم جداً، وأرى أن إن لم يقرأه كل عربي خسارة … خسارة لأنني وأنا أترجم العمل، أشعر أن العمل قد طور أفكاري، وأنا الذي أعيش وأقرأ بالألمانية منذ 42 عاماً ..!

الكتاب ھو )مترجم عن الألمانية( عن المقاومة الفرنسية للاحتلال الألماني 1940 ـ 1944، كتاب رائع بكل معنى الكلمة سيزيد في ثراء القراء وسيفتح أمامھم آفاق جديدة للمعرفة.. وقررت أن أدعو أصدقائي والقراء إلى حفلة شاي رمزية، أقدم لكم فيھا ھذا الكتاب الذي آمل أنه سينشر بسرعة .. سأكتب لك

الإھداء، والفھرس وجانب من المقدمة، حتى يبقى خاطر الناشر علينا …! وإليكم جانباً من المقدمة :

من المقدمة

كنت قد قرأت ھذا الكتاب الذي نشر على حلقات ثلاثة في مجلة دير شبيغل )Der Spiegel( الألمانية المشھورة ولكني لم أعثر إلا على الفصل الثاني، وترجمتھا في حينه )وقت صدوره(، إلا أن الكومبيوتر سھل لي العثور على الحلقتين الأولى والثالثة، فأكتمل الكتاب عندي.

لا أنكر أني فرحت جداً بقراءة تفاصيل الحياة الفرنسية تحت الاحتلال، التي أختار لھا كاتبھا عنواناً صادقاً، بقوله : متعاونون، أبطال وخونة. وقرأت مقاطع رھيبة في التضحية من أجل الوطن، ليس بھدف أن نتعلم فحسب، بل شعبنا في كل مكان : المغرب، الجزائر، تونس، ليبياـ مصر، السودان، اليمن، فلسطين، سورية، العراق وأقطارنا الأخرى، قدمنا تضحيات غالية تستحق أن يتعلم منھا شعوب العالم

الطامحة للتحرر والانعتاق.

وإذا كانت البطولة والاستشھاد من أجل الوطن يحملنا على الوقوف احتراما لذكرى الأبطال الذين بتضحياتھم جعلوا الغد ممكناً ….. أبطال قدموا حياتھم بسرور بوعي للأجيال المقبلة، مكتفين من المجد

2

א??دد?:??219 ? א???????:?? /???2020 ?

? ?????מ?א?د??غ

??

بحب الوطن .. وأن تذكر أسمائھم على أعمدة… نعم أعمدة ھي ركائز وجود الوطن الذي شيدته دماء وتضحيات ھؤلاء الأبطال.

سنقرأ ھنا كيف أن الاحتلال لوحده يمثل إھانة، ومواقف البشر حيال ھذه الإھانة يختلف من فرد لآخر بحسب تكوينه العقلي والثقافي والسياسي، وبحسب قدراته في الصلابة والصمود. فمن المعروف أن الأشخاص التافھين سيجدون )الذرائع( لكي لا يظھروا أي مقاومة لمحتل الوطن، ثم ذرائع أخرى ليظھروا )التفھم والتقبل( وأخيراً السقوط الأخلاقي الذي لوحده فصل في الانھيار النفسي يتجسد في التعاون مع

العدو المحتل.

التعاون مع العدو المحتل: ھو ما تطلق عليه القوانين )الخيانة العظمى(. وفي اللغة العربية رغم ثرائھا في المفردات، إلا أنھا لا تضع كلمة أو مفردة أو مصطلح خاص للمتعامل مع العدو المحتل، فنحن نقول خائن على كل من يخون الأمانة من أبو رغال وحتى من يخون ثقة صديقه، وحتى لمن يخون زوجته مثلاً، وفي اللغة الألمانية، وأظن في لغات أوربية أخرى كالإنكليزية والفرنسية، ھناك مصطلح إنساني / سياسي / قانوني للمتعاون مع العدو المحتل )Collaboration( والقوانين قاطبة تعتبر ھذه ذروة الخيانة، ولكن

بعض المتساقطين يفعلونھا بسرور وھذا ما يدل دون ريب على سقوطھم الداخلي قبل سقوطھم الخارجي.

المتعاون: قلما نجد بين المتعاونين مع العدو عبر التاريخ وفي كافة دول العالم، شخصاً يستحق الاحترام، فھناك دائماً ثغرة في تكوينه الشخصي، نعم أن المتعاونين مع العدو ھي شخصيات محطمة نفسياً وعائلياً، أو فاشلة سياسياً واجتماعياً، والعامل المشترك الأعظم بينھا، ھو المعاناة من ھزيمة داخلية، تتمثل بفشله في تحقيق شيئ أراد إنجازه وفشل في تحقيقه، وأبرز دليل على صواب ھذا التحليل، ھو أن قوى الاستخبارات حين تقرر تجنيد شخص ما تخضعه للدراسة والفحص والتمحيص وفي ملفه سؤال جوھري ” لماذا قرر ھذا الشخص أن يخون وطنه ” وبعبارة شبه مھذبة، لماذا تريد التعاون معنا ؟ فيمطروه بالأسئلة الكثيرة المعقدة والمكررة والماكرة لعلھم يكتشفون أين ھي الثغرة، ثم يخضعونه لجھاز كاشف الكذب، وأخيرا يضعونه تحت التجربة والاختبار، فأن يخون الإنسان وطنه شيئ شاذ غير معقول، ونشبھھا بجريمة الزنا بالمحارم. قد تكون لدى أي شخص ملاحظات حول الوضع في البلاد، ولكن إدخال الأجنبي للبيت ليعبث كما يشاء، يسقط أي اعتبارات لھا علاقة أولاً بالشرف، وحتى في الاعتبارات العقلانية لمن يبحث عن المصلحة فيما يعمل ويھدف. العدو المحتل ما جاء بجيشه وقواه السياسية وتجشم المتاعب والخسائر، ليس إلا من أجل مصلحته، فھو حريص على تأمينھا، وليس للمتعاون سوى المبلغ الذي يدفعون له، شريطة تواصل )التعاون( وأن يكون طوع الإشارة، وألا فالمتعاون شخص رخيص جداً

وتصفيته لا تغضب أحداً.

الاحتلال )Occupation(: ھو عمل كبير تقوم به الدولة المعتدية، وتأتي لبلد ما وتقھر إرادته، وتلغي استقلاله وتعبث بمقدراته وموجودات البلاد، وتقمع أي قوة تعارض ما تقوم به وتوازن القوى يؤشر لصالح المحتل بالطبع، وليس ھناك محتل شريف ومحتل غير شريف، الاحتلال من أولى أھدافه البديھية، تدمير إرادة المقابل، وتدمير قواه السياسية والاقتصادية والعسكرية بالطبع في مقدمة الأھداف. والمحتل بداھة لا يحترم استقلال البلاد، وبداھة مرة أخرى لا يعمل على تعزيزھا، ومن الطبيعي أن يفكر بأستعادة ما فقده خلال عملية الاحتلال التي رأھا العدو، أنھا تتويج لعملية سياسية بالأصل، بلغت حداً معلوماً من

تناقض الإيرادات، بلغت مرحلة الصراع المسلح، واستخدام القوات المسلحة.

معسكر المقاومة )Resistanc(: إلا أن الشعب المحتل لديه قوة مادية لا تنضب تتمثل برفض الاحتلال ومقاومته. ومفردة المقاومة بدورھا عريضة جداً، تبدأ من مقاومته بالسلاح، وتبلغ درجة عدم إلقاء التحية، أو التعاطي بأي شيئ معه. ومن مظاھر المقاومة في بلادنا العراق، تتمثل أن كل أو معظم جنود جيوش الاحتلال في العالم يرتادون المقاھي والمطاعم والأماكن العامة، ومنھا فرنسا موضوع كتابنا ھذا حيث

3

كان الألمان يرتادون أي مكان يريدون في فرنسا، في المقاھي والمطاعم، ولكن المحتلين في العراق لا يأمنون أن الخروج من معسكراتھم ومناطقھم الآمنة ..!

والمقاومة نبلغ ذروتھا مواجھة العدو بالسلاح، أو مقاطعته سياسياً، واجتماعيا، وثقافياً، وعدم الحديث معه، بل وعدم إلقاء التحية، وأن تحاول بأي وسيلة متاحة أن تعبر فيھا أن العدو غير مرحب به في بلادنا ” من رأى منك منكراً فليغيره بيده، وإن لم يستطع فبلسانه، وإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان “. والفرنسيون لم يكونوا كلھم متعاونون، ولا كلھم مقاومون، ولا أرى فائدة لنحصي أي معسكر كان أوسع وأقوى، من يكسب المعارك ليس بالضرورة أن تكون القوة المادية المسلحة لجانبه، بل وأن تكون ايضاً

خطواته قائمة على أسس عادلة، ويقبلھا الشعب بصفة عامة.

لا أريد في مقدمتي أن أستبق الكتاب، ولكني أريد تسھيل مھمة القارئ. ألمانيا أختلت فرنسا، وھم كانوا يبحثون داخل المجتمع الفرنسي عن متعاونين، وھو دأب المحتلين وتحدث في كل البلدان التي تتعرض إلى غزو واحتلال. سينبري أشخاص يدعون أتباع الحكمة ومسايرة القوة التي احتلت البلاد، ومنھم من يعتقد ضرورة تجنيب البلاد الدمار، ولكن ھناك دائماً من يريد اغتنام الاحتلال كفرصة ليصفي حسابات داخلية، وھناك انتھازيون دائماً، والباحثين عن الأمن والمكاسب، ووظيفة الدفاع عن الوطن مھمة لغيرھم، ومقاومون للاحتلال من مشارب شتى، وطنيون، وقوميون، واشتراكيون، وأيضاً يحتمل ھذا المعسكر ربما شقاوات وزعران، وأشقياء، بل ومجرمين ھاربين حتى..! لا نستطيع مناقشة من يريد أن يقاوم احتلال بلاده.. لماذا تقاوم … الطبيعي ھو أن يقاوم، والشاذ ھو من يرتمي تحت أقدام المحتلين، لا مبرر ولا عذر لھم .. ولذلك صمت الماريشال بيتان )المتعاون( ولم ينطق بحرف واحد طيلة محاكمته بعد

التحرير.

لقد قاوم الفرنسيون بالسلاح، وقاتلوا قتالاً مجيداً، وقدموا التضحيات السخية من أجل بلادھم، ولكن بينھم من قاوم بالكلمة:

ــ الشاعر الكبير بول أيلوار الذي كتب يمجد سقوط صديقه غابريل بيري : إلى غابريل بيري، أحد أبطال المقاومة الفرنسية وقت الفجر أوثقوه إلى خشبة الإعدام وقد أرعبه ثقل جسده عالماً بأن الملايين … الملايين من الرفاق لابد آخذون بثأره لقد ھوى……. ثم أشرق النھار

ــ الشاعر الفيلسوف بول فاليري الذي كتب:

أواه كم رأيت وجوھاً فر الشرف من جباھھا……

ً
وكتب أيضا:

ليس ھناك نھار أكثر ألقاً من اليوم الذي يقتل فيه الخونة………

ــ وكتاب القصة والرواية مثل فرانسوا مورياك، وفيركور بعمله الكبير “صمت البحر”، والشاعر الكبير رينيه شار، الذي كان يكتب بأسم مستعار، والشاعر روبير دينوس، والشاعر الكبير لوي أراغون …وآخرون كثيرون….. إذا كان ھناك الكثير من السفلة والخونة، إلا أن معسكر الشرفاء أيضاً

4

كبير ..!

المقاومة كانت تجد طرقاً كثيرة لتوزع أعمال الكتاب الأحرار، وقد أسسوا اتحادا للأدباء والكتاب الأحرار، كانوا يضعونھا سراً في صناديق البريد، أو يوزعونھا في الليل تحت جنح الظلام، وأحياناً كانت تقذفھا الطائرات البريطانية من الجو، كما لعبت إذاعة حكومة فرنسا الحرة برئاسة الجنرال شارل ديغول

دوراً مھماً في نشر الأدب المقاوم.

رسامون كاريكاتور، وتشكيليون، ومغنون، جنود معروفين ومجھولين في جيش المقاومة الذي ھو في النھاية جيش الشعب كله … أطرح منھم الخونة والمتعاونين، والأنذال، يكون الشعب كله معك، حتى الخائف الساكت في بيته ھو لك، الشعب خسر فقط أولئك الذين لم يكفھم جبنھم أو نذالتھم، فصاروا عوناً

للمحتل …. وشطبھم من رصيده.

أنا أدعو القراء إلى الدقة في القراءة، والتأمل في أبعاد الأحداث … أحداث مھمة جرت في بلد متحضر … إقرأوا واستخلصوا النتائج والعبر .. لنستفيد من تجاربنا وتجارب غيرنا .. أقرؤا رجاء .. لقد تعبت كثيراً في إنجاز ھذا الكتاب للقارئ العربي، دون أن أكسب لنفسي شيئاً ولا قرشاً واحد …!

ضرغام الدباغ برلين :24 / آب / 2017

لوحة الغلاف : لوحة رسمت بالمقص )السلويت ــ Silhouette( موضوعھا ……. مقاومة.. الشعب يقاوم رجال نساء عمال فلاحون ومثقفون … الشعب يقاوم…… من لا يقاوم غير موجود في الصورة ..!

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com