مقالات

المحلة البغدادية وإرهاصاتها في الحياة السياسية والاجتماعية

المحلة البغدادية وإرهاصاتها في الحياة السياسية والاجتماعية

قراءة في نتاجات الأدباء اليهود العراقيين

عندما نقلب في النتاجات الأدبية الإسرائيلية في العصر الحديث ونحاول ان نقترب من العقل الإسرائيلي وكيف يستلهم الأحداث السياسية والتاريخية ويجعلها مادة أدبية موجهة إلى الرأي العام الإسرائيلي، وخصوصاً الأجيال الجديدة التي لم تعاصر الفترات والحقب الماضية، وكذلك إرسال رسالة إلى المتلقي غير الإسرائيلي لمحاولة استمالته إلى أحداث حدثت لليهود في العالم تعرضوا فيها للظلم والاضطهاد على مر التاريخ حسب وصفهم. نجد أن الأدب العبري الحديث قد لعب دوراً مهماً في الخطاب السياسي الإسرائيلي، حيث أصبحت النتاجات الأدبية بمثابة وثائق سياسية تؤرخ لمرحلة من مراحل الصراع العربي الإسرائيلي.

ولكي نأخذ نماذج من هذا الموضوع المهم فقد حللنا بعض نتاجات الأدباء اليهود العراقيين الذين هاجروا العراق أواخر الأربعينيات وبدايات سنوات الخمسينيات من القرن العشرين حيث قام هؤلاء الأدباء بنشر العديد من القصص القصيرة والروايات التي تجسد تاريخ يهود العراق عموماً وبغداد خصوصا، حيث  استعرضوا الحياة في محلات بغداد وازقتها في مناطق وشوارع الحيدر خانه والوثبة وكرادة مريم وشارع الرشيد والسعدون وغيرها من مناطق بغداد ناقلين بطريقة واسلوب أدبي سلس حركة وضجيج الحياة في تلك الفترة عن طريق هذه القصص التي تناولت الأحداث السياسية في العراق منذ تكوين الدولة العراقية وحتى هجرة اليهود عام 1951، ولم تكتف إسرائيل بذلك وإنما قامت بترجمة العديد من النتاجات الأدبية العراقية التي تتحدث عن واقعية المجتمع العراقي وارهاصاته، مثلما فعلت الشيء نفسه مع نتاجات الكتاب المصريين والهدف من ذلك هو دراسة هذه المجتمعات اجتماعياً ونفسياً للوصول إلى ماهية تفكير تلك المجتمعات للاستفادة منها سياسياً ومخابراتياً، وهذا جزء مهم من سياسات الدول التي تطمح إلى معرفة وتحليل ما يجري في محيطها السياسي ولهذا أصبحت العديد من نتاجات الأدباء اليهود العراقيين بمثابة وثائق سياسية معتمدة في المنظمات العالمية.

لقد ركزت هذه الاعمال على توثيق الاحداث السياسية التي تمس حياة اليهود في المحلات البغدادية من خلال رصد والتقاط المناسبات المختلفة ومدى مشاركة اليهود فيها في تلك المرحلة والتي سجلت العديد من الفعاليات السياسية ضد الانظمة السياسية في بغداد.

لقد سجلت تلك الاعمال الادبية للأدباء اليهود العراقيين صخب الحياة البغدادية وضجيجها بأسلوب سردي يؤرخ لمراحل مختلفة عاش فيها اليهود في بغداد واندمجوا مع المجتمع البغدادي في كافة الفعاليات السياسية والاجتماعية، وبهذا الاسلوب أراد هؤلاء الأدباء نقل التراث او الموروث اليهودي في بغداد والعراق بصورة عامة للأجيال الجديدة التي لم تعش تلك الحقبة الزمنية من التاريخ، وهنا نشم رائحة دس السم بالعسل، فمن خلال تلك الاحداث التي رُسمت في احداث تلك النتاجات الادبية يتم توثيق تلك الحقبة من وجهة نظرهم في الاحداث التي دارت داخل المحلات والشوارع البغدادية ومنها حادثة الفرهود التي كانت بعض المحلات البغدادية مسرحا لها. تلك الحادثة المشهورة، التي اختلفت فيها الآراء حول حقيقة ما جرى، نُقلت ووُثقت في الاعمال الادبية العبرية حسب وجهة النظر الاسرائيلية وبالاعتماد على السرد الروائي حيث رسمت صورة مأساوية للشخصية البغدادية لما نسب اليها في تلك الواقعة.

لم تتطرق تلك الأعمال الأدبية الى الشهادات والأدلة المحايدة والتي تتحدث عن تلك الواقعة وإنما ذهبت الى ما تراه هي من وجهة نظرها، وهذه شهادة عوراء والهدف منها سياسي لكسب التأييد والدعم الدولي.

إن المهتمين بهذا الشأن يعون بأن النتاج الأدبي يعد من الوثائق السياسية التي توثق تاريخ الشعوب والامم، ومن هنا لعب الأدباء اليهود العراقيين دوراً مهماً في توثيق البيئة اليهودية في العراق، وخصوصاً بعد هجرتم من العراق، والتي لعبت الدوائر السياسية في تلك الحقب دوراً في انجاز ذلك المشروع حيث أعطت من خلاله صوراً قلمية لواقع الحياة في تلك الفترة.

وفي سياق آخر استطاع هؤلاء الأدباء ومن خلال  نتاجاتهم تسليط الضوء على مراحل مهمة من تاريخ العراق، وأبرزوا الدور الكبير ليهود العراق في إنشاء وتكوين وبناء الاقتصاد العراقي، وكذلك النظام التعليمي والنظام المصرفي وسيطرتهم شبه المطلقة على عصب الاقتصاد العراقي، والهدف من هذه الرسائل هو تحفيز ذاكرة الاجيال الجديدة بعمق تاريخ الأجداد، وهذا بطبيعة الحال، هو أسلوب يجعل الآخر يبحث في ركام السنين للوصول إلى أهدافه، التي تدخل ضمن البعد السياسي في هذا المجال.

لقد سجلت العديد من تلك النتاجات الأدبية إرهاصات الحياة البغدادية في المناسبات الاجتماعية والدينية وكيف كان اليهود يشاركون الآخرين في إحياء تلك الفعاليات وبأسلوب سيميائي الهدف منة هو التأثير في المتلقي وإقناعه.

إن واقعية ضجيج المحلة البغدادية سُجلت في أغلب الأعمال الأدبية العبرية، وخصوصاً في الأعمال الأدبية للأدباء اليهود العراقيين بعد هجرتهم الى فلسطين، إلا إننا نجد أن العديد من الشواهد والوقائع قد سُجلت وفقاً للمصلحة الإسرائيلية ولأسباب سياسية كان الهدف منها هو تسليط الضوء على ما تعرض له اليهود من أجل كسب الدعم والتأييد لإقامة ما يسمى بـ “دولة إسرائيل”. أما بصدد ما تحمله تلك الروايات والقصص التي تتحدث عن الحنين والاشتياق إلى أرض الولادة والصبا، فهذا نابع من ما تحتفظ به الذاكرة من قصص جميلة ضمن إطار الواقع الاجتماعي…. ولكن على المستوى السياسي نجد أن الولاء هو لإسرائيل وليس لأرض الولادة والصبا فهناك فرق بين الاشتياق والولاء.

لم يسجل اغلب هؤلاء الأدباء الصورة الجميلة المتسامحة للشخصية العراقية والبغدادية، وإنما ركزوا على إبراز الوجه السلبي وغفلوا عن المنظور الإيجابي وهو ما كان سائداً في تلك الحقب إلا الشي البسيط. ومن ناحية اخرى لم تغفل تلك الكتابات الدور الكبير الذي لعبه اليهود في المجال الفني والفنون الجميلة في مختلف الفنون المسرحية منها والموسيقية والسينمائية وتأسيس أرضية للنهوض بهذه الفنون، وهنا لابد القول بان تلك الكتابات لم تكن إلا من أجل ارسال رسائل الى المتلقي عن أهمية الدور الذي لعبه اليهود في كافة المجالات ومنها مجال صنع الجمال.

إذن، علينا أن نعلم بان أغلب ما كتب في توثيق الحياة البغدادية كان الهدف منه سياسياً واحتوى على الكثير من الشواهد والأحداث التي لازالت لم تفك رموزها الى الوقت الحاضر، وأن التسليم بصحة وواقعية تلك الاحداث يحتاج الى الوثيقة والدليل اللذين تؤرخان لمرحلة مهمة من تاريخ العراق السياسي في فترات الأربعينيات وبداية الخمسينيات من القرن الماضي، وليس كما جاء على لسان أبطال تلك القصص والروايات، التي تنقل الأحداث وفقاً لوجهة نظرهم وبأسلوب أدبي يستطيع التأثير في المتلقي، ويجعل الباحث يغفل عن وجهة نظر الجهة الاخرى ووفقاً لبراهين ومعطيات موثقة.

 

 

أ.م.د. رحيم  راضي الخزاعي

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com