مقالات

الرأسمالية العالمية قبل وبعد كورونا!

كاظم حبيب

الرأسمالية العالمية قبل وبعد كورونا!

أولاً: الرأسمالية العالمية قبل كورونا

لم يكن الاقتصاد الرأسمالي العالمي سليماً معافى قبل بروز وانتشار وباء كورونا، بل كان، ولا يزال، يعاني من عواقب أزمات متلاحقة ومتنوعة حصلت في 1964، 1997-1998، 2008-2009، -2011-2012، و2014-2016، إضافة إلى مشكلات كبيرة متراكمة، رمى بكامل ثقل عواقبها على كاهل شعوب الدول الرأسمالية المتقدمة ودافعي الضرائب وعلى كاهل شعوب البلدان النامية، في حين حققت جملة من أكبر الاحتكاريات العالمية المزيد من الأرباح وعلى حساب إفقار الشعوب ولقمة عيش الملايين.

والدراسات الاقتصادية الحدثة التي تبحث في توزيع الملكية وتوزيع الثروة الاجتماعية، وهما وجهان لعملة واحدة مترابطة، تشير إلى صواب النظرية التي طرحها كال ماركس (1818-1883) منذ أكثر من 150 عاماً في كتابه رأس المال (1867) والقائلة بأن تطور الرأسمالية يقود باستمرار إلى مزيد من تركز الثروة الاجتماعية بأيدي حفنة صغيرة من كبار الرأسماليين، مما يحرم الغالبية العظمى من السكان من هذه الثروة. وبهذا التوكيد ترد هذه الدراسات على الادعاء، الذي يتشبث به اقتصاديو البرجوازية الكبيرة وكبار الرأسماليين والمواقع الإلكترونية والكتب والمجلات الاقتصادية التي تدافع عنهم، والقائلة بخطأ مقولة ماركس وأن التطور الرأسمالي يميل باستمرار إلى تقليص الفجوة وتحقيق الاقتراب في توزيع الثروة الاجتماعية وليس إلى الابتعاد. وقد كان أبرز المدعين خطأ ماركس هو الكاتب الاقتصادي الأمريكي سيمون سمث كوزنيتس Simon Smith Kuznets  (1901-1985). لقد بحث كوزنيتس الاقتصاد الأمريكي ووجد إن فترة نشوء الرأسمالية قد سجلت فجوة كبيرة في توزيع الثروة ولكنها عادت إلى التقارب في فترة لاحقة. وركز على الفترة 1910-1953، ونشر دراسته في عام 1955، حيث تبين حقيقة اقتراب نسبي في توزيع الثروة أ في معدل النمو الاقتصادي وتوزيع الثروة الاجتماعية. ولكن دراسته لا يمكن تعميمها لسببين أساسيين هما: إن الدراسة اقتصرت على الاقتصاد الأمريكي فقط، وأن الفترة قد اقترنت بحربين عالميين كان لهما عواقب شديد على النمو الاقتصادي وعلى الأرباح ووجهة توزيع الثروة. وهي لا يمكن اعتمادها في تخطئة نظرية ماركس بهذا الصدد وتعميم مقولة كوزنتس. فقد برهن الكاتب   

الاقتصادي الفرنسي توماس پيكيتي Thomas Piketty (مولود1971) في كتابه الموسوم “الرأسمالية في القرن العشرين” الصادر عام 2013، على صواب رأي ماركس حين درس العلاقة بين توزيع الملكية وتوزيع الثروة على مدى ثلاثة قرون تقريباً حتى عام 2010 ولأكثر من عشرين دولة رأسمالية متقدمة، إضافة على الكثير من الدول الأخرى وركز على اقتصادات كبيرة مثل اقتصادات الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا ولاسيما فرنسا، حث توفرت مواد وسلاسل زمنية كافية لبحث علمي يمكن اعتماد استنتاجاته وتعميمها. لقد برهن پيكيتي، بعد دراسة العلاقة بين توزيع الملكية وتوزيع الثروة الاجتماعية، كما درس معدلات النمو الاقتصادي والفوائض المتحققة لرأس المال، إن الفجوة في توزيع الثروة الاجتماعية في اتساع دائم مع تطور الرأسمالية العالمية وليس العكس.

(Siehe: Thomas Piketty, Das Kapital im 21. Jahrhundert, C.H.Beck, s. 29/30, München 2020).

إن هذا الواقع يشير إلى بروز اختلالات مستمرة في الاقتصاد الرأسمالي العالمي، لاسيما في جانبين مهمين يرتبطان بقانون التطور المتفاوت للاقتصادي الرأسمالي، هما: هيكلية أو بنية الاقتصاد الرأسمالي، والتي ترتبط عضوياً 1) بتوزيع الملكية واستخدام رأس المال، و2) التوزيع الجغرافي غير المتوازن لرأس المال، وكلاهما يقودان إلى تطور علاقة غير متساوية وغير عادلة بين الفائض الاقتصادي وما يطلق عليه بعائد رأس المال ومعدل النمو الاقتصادي في صالح الأول. وينشأ عن ذلك توزيع غير متساوٍ للفائض، مما يقود إلى تنافس شديد وصراع بين الرأسماليين واحتكاراتهم على الصعيد الدولي، إضافة إلى تفاقم للصراع بين العمل ورأس المال، ثم بين الدول الرأسمالية المتقدمة والدول النامية، حيث اعتاد الاقتصاديون الحديث بصواب عن التناقض والصراع بين المراكز الرأسمالية المتقدمة والدوائر المحيطة بها، أو أطرافها، والتابعة لها والمستغلة من قبلها أبشع استغلال.

إن ما يؤكد صواب مقولة ماركس بهذا الصدد ما تنشره المنظمة الدولية المسماة قاعدة بيانات عدم المساواة العالمية The World Inequality Database (WTID) من تقارير دورية وبيانات عن عدم المساواة وتنامي الفجوة بين حصة الأجور وما يهيمن عليه رأس المال من فائض القيمة في توزيع الدخل القومي. [في عام 2015 تم دمج هذه المنظمة بالمنظمة العالمية (WID) The World Wealth and Income Database]. (راجع موقع المنظمة على الإنترنيت)

ويمكن إيراد بعض الأرقام التي تؤكد الخلل الهائل في توزيع الثورة في العالم، والتي تجسد تفاقم عدم التساوي والتباعد بين الأجر ورأس المال، بين الأجر وفائض القيمة لصالح الأخير. ففي عام 2019، كان 0.9% من سكان العالم يمتلكون 43.9% من ثروة العالم، في حين كان 56.6% من سكان العالم لا يمتلكون سوى 1.8% من ثروة العالم“. ويشير تقرير يبحث في عدم المساواة الاجتماعية إلى أن 82% من الثروة المتولدة في العام الماضي (2017) ذهبت إلى جيوب أغنى 1% من سكان العالم. وينبثق هذا من تقرير “مكافأة العمل، وليس الثروة”، الذي تنشره منظمة المساعدة والتنمية في حالات الطوارئ أوكسفام في الفترة التي تسبق المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس.  ومع ذلك، فإن 3.7 مليار شخص يشكلون النصف الأفقر من سكان العالم لم يستفيدوا من نمو الثروة على الإطلاق. وجاء في التقرير نفسه “بين عامي 2016 و2017، زاد عدد المليارديرية بشكل لم يسبق له مثيل – تمت إضافة ملياردير جديد كل يومين، 233 شخصاً، فبلغ عدد المليارديرية 2043 مليارديراً، وبذلك سجل ارتفاعًا قياسيًا في عام 2017.” وأشار موقع العالم Welt بتاريخ 22/01/2018 إلى أن 42 شخصاً من أغنى أغنياء العالم يملكون وحدهم ثروة تعادل ما يملكه 3,7 مليار نسمة من أفقر نصف البشرية في عام 2017.  (Siehe:  Reichtumspyramide: Verteilung des Reichtums auf der Welt im Jahr 2019, Statista, 2020). (Siehe: 82 Prozent des weltweiten Vermögenswachstums gehen an das reichste Prozent der Bevölkerung. OXFAM). Siehe auch: Karsten Selbel,   Bericht zur sozialen 42 Milliardäre besitzen so viel wie die halbe Welt, Welt, 22.01.2018).

في ذات الوقت بلغ عدد العاطلين عن العمل من المسجلين فقط 174،3 مليون نسمة، عدا النسبة العالية من غير المسجلين، إضافة إلى نسبة عالية من النسوة غير المسجلات، لاسيما في البلدان النامية. (Statista, 19:02:2020).

وهذه الحقيقة تتجلى بصورة أكثر بشاعة تجسد غياب التوزيع العادل للثروة كما في الأرقام التالية التي تدلل على عواقب التطور غير المتوازن وغير المتساوي والتمايز الطبقي الذي تعاني منه غالبية شعوب البلدان النامية الفقيرة في هذا العالم الرأسمالي وفي ظل العولمة الرأسمالية واللبرالية الجديدة، لاسيما في آسيا وأفريقيا، وهذا التطور غي المتكافئ وغر المتساوي هو قانون اقتصادي موضوعي في الرأسمالية، تلعب الأيديولوجيا والسياسية أو النهج السياسي دورهما في تعميق فعله وعواقبه السلبية. جاء في تقرير الأمم المتحدة عن معدل الجوع في العالم في عام 2018 ما يلي:

” بلغ عدد الجياع في العالم في عام 2018: 821.6 مليون (أو 1 من كل 9 أشخاص)، منهم في:
آسيا: 513.9 مليون، إفريقيا: 256.1 مليون، أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي: 42.5 مليون.

  • عدد الذين يعانون من انعدام الأمن الغذائي المعتدل أو الشديد: 2 مليار (26.4٪)
  • الأطفال الذين يعانون من انخفاض الوزن عند الولادة: 20.5 مليون (طفل من بين كل سبعة أطفال)
  • الأطفال دون سن الخامسة الذين يعانون من التقزم (قصر القامة بالنسبة للعمر): 148.9 مليون (21.9٪)
  • الأطفال دون سن الخامسة الذين يعانون من الهزال (نقص الوزن بالنسبة للطول): 49.5 مليون (7.3٪)” (تقرير الأمم المتحدة: معدلات الجوع في العالم لا تتراجع بعد ثلاث سنوات، والبداية في تزايد. 15.07.2019).

ولكن أين يكمن جذر القضية التي تعاني منها البشرية في ظل العالم الرأسمالي والعولمة الرأسمالية واللبرالية الجديدة؟ إن جذر المشكلة يكمن في العلاقة المختلة بين مستوى تطور قوى المنتجة ذات الطابع الاجتماعي من جهة، والطابع الخاص لملكية وسائل الإنتاج، وبالتالي ملكية الإنتاج السلعي. ويتجلى كل ذلك في حقيقتين مهمتين هما: 1) تفاقم عدم المساواة الاجتماعية على مستويين في داخل الدول الرأسمالية المتقدمة، وكذلك في الدول النامية بين الأغنياء والفقراء، و2) تفاقم فجوة عدم المساواة في التطور وتوزيع الثروة واستخدامها بين مجموعة الدول الرأسمالية المتقدمة ومجموعة الدول النامية، مجموعة المركز ومجموعة الأطراف. وكلاهما يقود إلى المزيد من التناقض والصراع ويتطلبان حلولاً عملية فعلية على صعيدي العالم وكل دولة من الدول. ويقف اقتصاديو العالم في ثلاثة مواقع متباينة: 1) من يرى إن هذا التوزيع أمر طبيعي ولا يخشى منه، وهم الكتاب البرجوازيون المدافعون عن الرأسمالية كأيديولوجيا والذين يتحدثون عن نظام الجدارة؛ و2) المدرسة الفرنسية الأمريكية التي تطالب بإجراءات تحد من غنى الأغنياء وتقلص مستوى الفقر عن طريق فرض ضرائب تصاعدية على الدخل والثروة والتي يرتبط بها بيرني ساندرز وپيكيتي؛ و3) المدرسة الاشتراكية التي ترى بأن الحل لا يكمن في الضرائب التصاعدية وحدها على أهميتها، بل وبالأساس في الموقف من ملكية وسائل الإنتاج وفي العلاقة التناغمية التي يفترض أن تسود بين التطور الهائل في الطابع الاجتماعي للقوى المنتجة وفي الطابع الاجتماعي لملكية وسائل الإنتاج، وبالتالي ملكية الإنتاج.         

في الكتاب الذي أصدره الاقتصادي الفرنسي توماس پیکيتی Thomas Piketty عام 2013 الرأسمالية والأيديولوجيا (رأس المال في القرن 21) يقدم لنا لوحة رائعة استثنائية من الإحصائيات والأرقام التي تشير إلى واقع الأرباح الهائلة التي تحققها الاحتكارات الرأسمالية على الصعيد العالمي خلال القرنين التاسع عشر والعشرين حتى أوائل القرن الحادي والعشرين وحجم الاستغلال وعدم المساواة الاجتماعية التي تتعرض لها المجتمعات في ظل الرأسمالية ويشير إلى حقيقة أن “عائد” راس المال أكبر من النمو الاقتصادي مما يقود إلى عدم المساواة. وأشار الاقتصادي الألماني يوحناس گريس إلى ذلك بقوله: 

“قد تفاجئ أطروحته الأساسية كل من يعرف “رأس المال في القرن الواحد والعشرين”. هناك، يظهر پیکيتی Piketty – باستخدامه بيانات واسعة بشكل مثير للإعجاب – على 800 صفحة أنه، من الناحية التاريخية، يمكن تلخيص التفاوتات الاقتصادية في صيغة: “r>g“، مما يعني: أن عائد الاستثمار دائماً أكبر من النمو الاقتصادي. بعبارة أخرى، تميل الرأسمالية بشكل جوهري إلى عدم المساواة.”

(Siehe: Johannes Gress, Thomas Piketty berührt die Folgen von Ungleichheit – nicht die Ursachen. Radikale Kompromisse, ND, 11.04.2020).

في مواجهة هذا الواقع يشير پیکيتی إلى إجرائيين بارزين لتخفيف التمايز المتفاقم في عدم المساواة الاجتماعية فيما أطلق عليه بـ “اشتراكية التشارك”، والتي تعني ممارسة سياسة الضرائب التصاعدية وإشراك العمال في الأرباح المتحققة، ولكنه لا يتطرق لحلول أخرى، بالرغم من الاستنتاجات التي يمكنه استخلاصها اعتماداً على قوة الإحصائيات التي جهد لتهيئتها لبحثه القيم عن الزيادة المستمرة في ثروة الأغنياء ومالكي وسائل الإنتاج، وبين التراجع في مدخولات المنتجين الفعليين للثروة في المجتمع، فمقص الفجوة في اتساع وتباعد مستمر بعكس النظريات السابقة التي كانت تؤكد تقلص هذه الفجوة. (Siehe: Thomas Piketty, Das Kapital im 21. Jahrhundert, C. H. Beck Verlag, München, 2020).  لقد توصل توماس پیکيتی من خلال تحليله للأرقام على مدى ثلاثة قرون تقريباً، إلى تشخيص ما يلي: “إن عدم المساواة الاجتماعية ليست ظاهرة تكنولوجية ولا اقتصادية، بل هي ظاهرة سياسية وأيديولوجية.” ومن هنا برز الحديث عن “نظام الجدارة meritocratic order ” لدى أيديولوجيو الرأسمالية، الذي يحق للرأسماليين التمتع به، أي الدفاع عن التمايز وعدم المساواة الاجتماعية لصالح الرأسماليين، وتبريرها ايديولوجياً وسياساً وليس اقتصادياً وتقنياً. لقد عجز توماس پیکيتی عن تجاوز ظله! والذي يتجلى بوضوح في كتابه الجديد رأس المال وأيديولوجيا الصادر في عام 2020. إن هذا التشخيص فيه نقص بارز. إذ يمكن الاتفاق معه بأن هذه المسألة ليست تنقية ولكنها اقتصادية وسياسية وأيديولوجية في آن واحد. وكونها اقتصادية ناتجة عن العملية الاقتصادية التي نبحث فيها، وهي عملية اقتصادية، إنه نظام اقتصادي-اجتماعي سياسي رأسمالي. إن الادعاء بأنها ليست اقتصادية جعلته لا يرى العيب في النظام الرأسمالي العالمي بل في ضرورة إجراء تعديلات عليه من خلال فرض الضرائب على الدخل والثروة. وليس في ملكية رأس المال أو ملكية وسائل الإنتاج. 

ثانياً: الراسمالية العالمية بعد كورونا 

تشير كثير من الدلائل فيما يخص الاقتصاد العالمي الراهن إلى أن وباء كورونا سوف لن ينتهي بالسرعة التي يتمناها الإنسان. ويكمن السبب في الوقت الذي يستغرقه اكتشاف وصنع لقاح مضاد لهذا الفيروس الدولي القاتل الذي انتشر بسرعة استثنائية عدد المصابين حتى يوم 25.04ز2020 صباحاً أكثر من 2،9 مليون شخصاً وعدد المتوفين 203،6 ألف شخصاً وعدد الشافين 828،6 شخصاً، وأن هذا الفيروس لم يصل إلى القمة التي يمكن بعدها ان ينحدر ويتقلص عدد المصابين والموتى، وينتظر اكتشاف مثل هذا اللقاح نهاية هذا العام أو العام القادم.

من المتوقع بروز جملة من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية الحادة على صعيد جميع دول العالم، ولكن وبشكل خاص في الدول الرأسمالية المتقدمة، وما يطلق عليها بدول المراكز الرأسمالية الثلاث: الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي واليابان، وكذلك في روسيا والصين وأبرز الدول في مجموعة العشرين، ولكنها ستنعكس بقوة منهكة على اقتصاد ومعيشة الدول النامية، لاسيما الفقيرة منها. ويمكن الإشارة هنا إلى أبرز تلك المشكلات:

١. تفاقم اشكاليات الأزمة البنيوية في هيكل الاقتصاد الرأسمالي العالمي وفي الدول الرأسمالية المتقدمة والتحري عن حلول غير جذرية لها: وستتسبب بعض تلك الحلول إلى 2. تنامي البطالة بشكل واسع جدا وسيكون هناك جيش كبير من العاطلين عن العمل، بسبب التغيرات المتوقعة في العلاقة بين الرأسمال المتحرك والرأسمال الثابت لصالح الأخير واستخدام أحدث التقنيات في الإنتاج والخدمات؛ 3. وستكون هناك شحة في رؤوس الأموال المطلوبة لتحقيق التحولات الضرورية في هيكل أو بنية الاقتصاد العالمي، مما يؤثر سلباً على معدلات النمو الاقتصادي، 4. كما ستعاني دول العالم عموماً من نقص كبير في السيولة النقدية لدى الأوساط الشعبية والمنتجين وصغار الموظفين، إذ ستتجه نسبة عالية من الدخل القومي كفوائض إلى جيوب كبار الاحتكارات الرأسمالية، كما ستلعب البورصة والرأسمال المضارب دوراً كبيراً في مجمل العمليات الجارية. وإذا ما توجهت هذ الدول إلى إصدار عملة دون غطاء من الذهب أو من الإنتاج، فأنه سيقود إلى انخفاض شديد في سعر تلك العملة وإلى تراجع شديد في القدرة الشرائية للغالبية العظمى من السكان؛ 5. وستقود هذه الحالة إلى إعلان المزيد من حالات الإفلاس لأصحاب المشاريع الصغيرة والمتوسطة والعديد من المشاريع الكبيرة أيضاً في ظل المنافسة التي ستتفاقم حول توجيه توزيع الفوائض (الأرباح) وتدويرها؛ 6. وستظهر حالة من العجز الكبير عن تسديد الديون بسبب القروض التي بذمة المزيد من الدول الأوروبية وغيرها المتراكمة قبل وأثناء وباء كورونا، 7. وستدفع بالكثير من الدول إلى التقشف، لاسيما في الاستهلاك الاجتماعي، مما سيزيد من مصاعب عيش الفئات الفقيرة والكادحة وضعيفة الدخل السنوي؛ 7. وسيواجه العالم ركوداً تضخمياً يقود بدوره إلى ثلاث عواقب جوهرية على صعيد الدول الرأسمالية المتقدمة خصوصًا والدول الأخرى في العالم عموماً والعالم، منها:

أ. تفاقم تدريجي للتناقضات الاجتماعية بين الغالبية العظمى من المجتمع والفئات والشركات المالكة لوسائل الإنتاج، التي ستتجلى بصراعات ونزاعات سياسية طويلة الأمد بين منتجي الثروة وأصحاب رؤوس الأموال ومالكي وسائل الإنتاج نتيجة عجز الدولة عن إيجاد حلول سريعة ومناسبة لها.

ب. سيدفع هذا الوضع باتجاهين: أما التراجع لصالح المجتمع وإجراء تغييرات عميقة في نهج الدولة وسياساتها الاقتصادية والاجتماعية والموقف من الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج في عدد مهم من مشاريع القطاعات الاقتصادية الأساسية والتخلي عن سياسة التقشف المرهقة للغالبية العظمى من المجتمع وإجراء تعديلات كبيرة في السياسة المالية والنقدية، ومنها السياسة الضريبية وساعات العمل والأجور … إلخ، أو السير صوب مشروع خطر يزيد الأمر سوءاً، وأعني به انتهاج سياسة تقليص الحياة والحريات الديمقراطية والتوجه نحو القرارات الفردية والحكم الشمولي وضرب الإضرابات والتظاهرات والاحتجاجات المطالبة بالتغيير.

ج. تفاقم الصراع بين الدول الرأسمالية المتطورة والدول النامية، الذي تعطل نسبياً ولعدة عقود بسبب احتدام الصراع بين الدول الرأسمالية المتقدمة والدول الاشتراكية. وهنا يمكن أن ينشأ نوع من التحالف الموضوعي بين قوى الشغيلة في الدول الرأسمالية المتقدمة وشعوب الدول النامية التي تتعرض لمزيد من الاستغلال وتعاني من رمي عواقب الأزمات وثقل المشكلات الاقتصادية العالمية على كاهلها.    

إن هذه الأوضاع وتداعياتها قبل وباء كورونا وعدم ممارسة سياسات واتخاذ إجراءات لمواجهة مثل هذه الاحتمالات، كما في وباء كورونا بسبب جشع الرأسماليين ورغبتهم في حقيق أقصى الرباح على حساب الإنسان، بمن فيها احتكارات صناعة وإنتاج العقاقير والأجهزة الطبية والوقائية، وما بعد كورونا تؤكد من جديد لمزيد من الشعوب إن النظم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الحالية في العالم الرأسمالي المتقدم عاجزة حقاً بسياساتها اللبرالية الجديدة وسبل ممارستها للعولمة على حل تلك المعضلات لصالح الغالبية العظمى من المجتمع البشري، بل ستتفاقم الأوضاع، إذ أن النخب الحاكمة ستتحرى عن حلول لصالح الطبقة الرأسمالية وشركاتها الاحتكارية الدولية وعلى حساب المجتمع ودافعي الضرائب ومصالحهم الأساسية. وسنرى ذلك في اجتماعات السبع الكبار أو اجتماعات مجموعة العشرين أو في إجراءات المؤسسات المالية والتجارية الدولية. (راجع: نعوم تشومسكي: ما بعد كورونا أخطر من الوضع الراهن، المفكر الاميركي التسعيني في عزلته… يندد بتأخر رد فعل الدول حيال الوباء وباستبداد شركات الادوية، سامية عيسى، الاثنين 13 أبريل 2020).

إن هذا الواقع سيضع على عاتق القوى الطليعية الواعية من مختلف شرائح شغيلة اليد والفكر طرح معالجاتها وحلولها للمعضلة المركزية التي تواجه البشرية جمعاء وبقية المعضلات. إن التحولات الكبيرة في المجتمعات البشرية لا تتم بحتمية اقتصادية ولا تترك للزمن، بل تستوجب عملاً فكرياً وسياسياً واجتماعياً كبيراً بهدف رفع الوعي الفردي والجمعي للمجتمعات، والتعريف بالدور الذي يفترض ويجب أن يلعبه الإنسان الفرد والمجتمع لتحقيق التحولات المطلوبة، أي تلاقي وتفاعل واستكمال فعل الجانب الموضوعي مع الجانب الذاتي لتحقيق التحولات المنشودة. إنها عملية سيرورة وصيرورة طويلة ومعقدة وصعبة ولكنها ضرورية ولا مناص منها.  

برلين في 26/04/2020

 

 

 

 

 

 

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com