ثقافة

ليلى العثمان: حكاية امرأة شجاعة.

بيدر ميديا.."

ليلى العثمان: حكاية امرأة شجاعة

بروين حبيب

 

ما كان يعد قبل ثلاثين عاما تجاوزا أخلاقيا وجرأة في الكتابة الروائية، يكاد أن يصبح الآن محافظة وحشمة في مواجهة التفلت الذي فرضته وسائل التواصل الاجتماعي، ومن يقرأ بعض المحاكمات الأخلاقية والفعلية التي تعرض لها روائيون مثل نجيب محفوظ في «أولاد حارتنا» وحيدر حيدر في «وليمة لأعشاب البحر» أو ليلى بعلبكي في «أنا أحيا» يبتسم مستغربا في موازاة ما ينشر الآن من كتابات تلامس حدود الإباحية، وتتفلت من أي قيود. خطرت على البال هذه الفكرة وأنا أسترجع معركة الروائية ليلى العثمان مع ذوي القراءة الأحادية، الذين رفعوا ضدها دعوة بسبب «عبارات تمس الذات الإلهيّة، ومنافية للأخلاق ومخلّة بالآداب» كما جاء في وصفها. انتهت المحاكمة بعد أربع سنوات بالحكم عليها بالسجن لشهرين أو دفع خمسين دينارا كويتيا غرامة، وقد علقت يومها ليلى العثمان بكل مرارة على هذا الحكم الذي رأته جائرا بقولها «حكَمَ عليّ القاضي بالسجن. خمسون دينارا لوقف التنفيذ كانت كفيلة لتمنحني الحرية! ماذا عن سجن الحياة؟ كم يمكن أن ندفع لنكسر قضبانه؟».

عرفت ليلى العثمان من خلال كتابتها قبل المعرفة الشخصية، فما زلت مدينةً لسنوات التكوين في جامعة البحرين – بما فيها من حراك ثقافي وتتبُّعٍ لثمرات المطابع إبداعا ونقدا وترجمة ـ لأنني خلالها تعرفت على أغلب الروائيين والكتاب من عرب وأجانب، وكانت ليلى العثمان من ضمنهم، فقد بدا شغفي بكتاباتها من خلال روايتها «وسمية تخرج من البحر» التي صنفت ضمن أهم مئة رواية عربية في القرن العشرين، وتحولت في ما بعد إلى عمل تلفزيوني ناجح واقتبست للمسرح أيضا. تلك الرواية التي سلطت الضوء على رعب الفتاة الكويتية من سطوة التقاليد، إلى حد أنها تختبئ في البحر خوفا من أن تُرى مع حبيبها فيخطف البحر روحها. من خلال هذا النص الموجع دخلتُ إلى عوالم ليلى العثمان، وكانت مفتاحي إلى الأدب النسوي الخليجي، الذي كافح كثيرا لينتزع اعتراف البطريركية الذكورية به، وما زال التشكيك به قائما إلى الآن، رغم الأصوات النسائية الخليجية التي قدمت سرديات متميزة استحقت عليها جوائز عالمية. رواية «وسمية تخرج من البحر» جذبتني لتتبع كتابات ليلى العثمان القصصية والروائية وأكثر ما جذبني فيها أمران يشكلان العمود الفقري لإبداعها، تركيزها على البيئة الكويتية القديمة، بحواريها وتقاليدها وأماكنها داخل السور كما تسميه، وهذا مشابه للوسط الذي نشأت فيه في المنامة، فالتقاليد بين البلدان الخليجية تتقاطع كثيرا فكنت أجد نفسي في الحيّز الذي يتحرك فيه أبطالها، بل وفي حكاياتهم المشابهة لما ألفته. ولا يزال هذا النمط من الكتابة يستهويني، أجده واضحا عند نجيب محفوظ ومحيطه القاهري الشعبي، وعند آخرين مثل غائب طعمة فرمان والمحلية العراقية في كتاباته.

أما الأمر الثاني الذي شدني إلى أدبها، فما صار علامتها المسجلة لها أي جرأتها في قول ما تعتقد به وتحيّزها اللامشروط لقضايا المرأة وهمومها في مجتمعات محافظة ومنغلقة أحيانا كثيرة. تناولتْ قضايا هي من التابوهات في مجتمعها الكويتي، بل جسّدتها في حياتها أيضا، فتزوجت مثلا وهي الكويتية بنت العائلة المعروفة بفلسطيني، ما كان يُعدُّ خروجا على الأعراف، ورغم ذلك تصف نفسها بأنها امرأة مذعورة تخاف من كل شيء، إلا أن كتاباتها تقول عكس ذلك، ومن يقرأ كتابها «المحاكمة.. مقطع من سيرة الواقع» الذي تعرّضتْ فيه لتفاصيل معركتها القضائية، وقد أهدته إلى من رفعوا ضدها القضية، لا يملك إلا أن يُعجب ويتعجّب من هذه الروح القتالية التي تمتلكها هذه المرأة الشجاعة، سواء اتفقنا مع أفكارها أو اختلفنا. ويكفي أن نذكر أن لديها ستة كتب ممنوعة في بلدها الكويت، لنرى عدم مهادنتها وإصرارها على ما تعتقده.

أول لقاءاتي الشخصية بالروائية ليلى العثمان كان في منتديات مهرجان القرين الثقافي في الكويت، وأصبحت زيارة هذا البلد لا تكتمل عندي إلا بالتعريج على صالونها الثقافي، الذي تحول إلى محطة لا بد منها لكل من يتعاطى الشأن الثقافي بمعناه الواسع، فلم يكن هذا الصالون وقد حضرته مرارا مقتصرا على النقاشات الأدبية، بل تتداخل فيه الفنون جميعها من فن تشكيلي وشعر وموسيقى، حيث تكون عادة فرقة للفن الشعبي السامري الكويتي حاضرة. وفي هذا الصالون الذي يتحول إلى جامعة عربية ثقافية تلتقي فيه بالمغربي محمد برادة والجزائري واسيني لعرج والسعودي سعد البازعي. ويحسب لليلى العثمان أنها من الرائدات اللواتي أنشأن صالونا أدبيا في بيئة نشاطاتها الثقافية العلنية، تكاد تكون حكرا على الرجال. ومن هذا الصالون خرجت إلى العلن فكرة إنشاء جائزة ليلى العثمان لإبداع الشباب في القصة والرواية، وهي مقصورة على الروائيين الكويتيين وقد فاز بها شباب مبدعون أصبحوا في ما بعد أقلاما معروفة أثبتت وجودها على الساحة الثقافية العربية مثل سعود السنعوسي الفائز بالبوكر العربية سنة 2013، وقد بررت ليلى العثمان مرارا خيارها بتخصيص الجائزة للشباب الكويتي فقط، بأن الجوائز العربية وأغلبها خليجية تذهب إلى مبدعين عرب، وترى أن العرب غير الخليجيين مقصّرون في الالتفات إلى الإبداع الخليجي فلعنة النفط تلاحق مبدعي المنطقة حتى في المجال الثقافي، فأرادت من خلال جائزتها إنصاف الروائيين الشباب من بلدها.

رغم معرفتي التي امتدت لسنوات بليلى العثمان، لم تتسنّ لي استضافتها سوى في سنة 2008 في برنامجي «نلتقي مع بروين» وأعددت للحلقة عدتها وشاكستها، غير أن ليلى العثمان المتصالحة مع نفسها كانت تجيب على جميع أسئلتي بأريحية وبصراحة متناهية، وقد لاحظ متابعو البرنامج ذلك جليّا فكتبت الشاعرة التونسية فاطمة بن محمود «لأول مرة استمتعت بامرأة تنفتح على الأسئلة بكل ثقة، وتدافع عن رؤاها وتشرح اختياراتها الأدبية فتقنع مستمعيها». تحدثتْ يومها عن القسوة التي لاقتها من عائلتها حيث شبّهت نفسها بالفأرة المذعورة، التي لا يلتفت إليها أحد في عائلة كبيرة تعاني من طلاق الأم وزوجات الأب، هذا الأب الذي «كان يرفض أن أحضر منتداه الأدبي، بل رفض أن أنشر مقالات باسمي، كي لا يعرف الناس أنّ فلانة بنت فلان تكتب في الصحف». كما صرّحتْ مرة، وخلق في نفسها الرغبة في الثورة على التقاليد التي تحُدّ من حرية المرأة ومن طموحها، رغم أنها مُنعتْ من أن تكمل تعليمها فكانت مكتبة والدها مدرستها البديلة. ومن هذه الثورة نفورها الشديد من المظاهر المادية، وهي ابنة العائلة الثرية فقد قالت في لقائنا، إنها تكره الذهب والفرو ولا تلبسهما إلى الآن. لاحظت في اللقاء أنها امرأة تحب البوح، ولا تتهيب أي إحراج فقد سألتها عن الجنس في رواياتها، وعن موقفها من الدين وعن غزو الكويت وموقفها من الشعب العراقي فلم تتردد في الإجابة. واصفة نفسها بأنها امرأة حرة حطمت كل القيود، ولا تخضع للتهديد ولا التخويف، فقد فرضت على مجتمعها أن يتقبلها، بل جعلت مناوئيها ومن رفعوا قضايا ضدها يعترفون بحضورها الأدبي وتأثيرها، وشكّلت مع الروائي إسماعيل فهد إسماعيل ظاهرة أدبية يلتفّ حولها الأدباء الكويتيون، وكانت مصدر إلهام لكثير من الكاتبات الخليجيات.

كانت ليلى العثمان سعيدة باللقاء، وما أن أنهينا الحوار حتى قالت لي «تعالي نحتفل بلقائنا» وعلى طاولة العشاء اكتشفت وجها آخر لها متمثلا في روح الأمومة الطاغية عندها، وهي التي عانت من غياب الأم نتيجة الطلاق، وقسوة الأقربين فعوّضتْ ذلك بفيض غامر من العواطف يتجلى في علاقتها بأبنائها وفيهم من يخالفها في أفكارها، وقد عاملتني بهذه الأمومة في جلستنا التي امتدت حتى ساعات الفجر الأولى حين التفتت إليّ بحنان الأم و بعاطفة امرأة قوية قائلة: «تزوجي بروين، الأمومة تغيّر الكثير في شخصيتك وعلاقتك بالكتابة». بقي لقائي مع ليلى العثمان منقوشا على جدران القلب فساهمت في اختيار روايتها «صمت الفراشات» ضمن الأربعين رواية في مشروع «حياكة الرواية» الذي أطلقته السيّدة أسماء الصدّيق والقائم على تصميم أربعين ثوبا مستوحى من عناوين أربعين رواية قدّمته عارضات في معرض أبوظبي للكتاب، وكانت تجربة رائدة ومتعة بصرية زاوجت بين الرواية وعرض الأزياء.

ورغم أنها كتبت قبل سنوات قسما كبيرا من سيرتها الذاتية في كتاب «أنفض عني الغبار» لا زلنا بانتظار كثير من البوح منها ولو في قالب روائي كما قالت في اللقاء فلديها الكثير لتقوله عن حياتها وعن إبداعها، فهي كما كتب عنها بلديّها طالب الرفاعي يوما «كتاباتها وحياتها الخاصة والعامة وجهان لعُملة واحدة. فليلى تكتب ما تؤمن به وتؤمن بما تكتُب».

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com