منوعات

الإنسانية «كذبة كبيرة» و«القيم الغربية» ليست أخلاقية بالضرورة: اسألوا أطفال غزة!

بيدر ميديا.."

الإنسانية «كذبة كبيرة» و«القيم الغربية» ليست أخلاقية بالضرورة: اسألوا أطفال غزة!

مريم مشتاوي

 

لن نعرف ما هي أبعاد المعاناة، مهما كثّفنا معناها قبل أن نشهد آلام الأطفال في غزة. قبل أن نرى دموعهم ونحيبهم وصراخهم وانهياراتهم وخوفهم وجوعهم وعطشهم وقلقهم من الصواريخ والموت المتلاحق.
قبل أن نشاهد ونسمع عبر شاشات الهواتف والتلفزيون الأصوات المدوية للقصف والانفجارات، وهي تعصف بأرواحهم، تاركة آثارها العميقة على ووجوههم وفي أرواحهم. هم يعيشون حالة الهلع ولا يعرفون إن كانوا سيبقون على قيد الحياة بعد دقيقة واحدة من تلك التي يعيشونها.
إن غزة اليوم لا تشبه غزة، التي عرفناها في الماضي. لقد اختفت معظم معالمها وقتل الآلاف من سكانهم وأغلبهم من الأطفال والنساء. ومن بقي من أطفالها يردد بقناعة واستسلام: نحن هنا لا نكبر. نحن نبقى صغاراً.
غزة، هذا القطاع الصغير والمكتظ بالسكان في جنوب فلسطين، شهد أبشع المجازر وأعنفها عبر التاريخ. وكان أطفاله الأبرياء هم ذبائح الصراعات الدموية. هؤلاء الصغار قصفت أرواحهم وعقولهم ومستقبلهم قبل أن يبدأ.
نعم إننا نشهد اليوم إبادة جماعية لسكان غزة على مرأى من عالم وحشي، وظالم وشرس. عالم لا يعرف الرحمة.
إن أطفال غزة ليسوا «حيوانات بشرية»، كما وصفهم سليل الاحتلال المتحدث الرسمي باسم الجيش الإسرائيلي أفخاي أدرعي!
هؤلاء الأطفال هم نور الأرض وملحها وقرابينها وتاريخها.
أما الحيوانات البشرية فهم أولئك الذين يقتلون. أولئك الذين تحجرت قلوبهم وماتت ضمائرهم وتنجست أرواحهم. أولئك الذين يمتهنون الذبح وتستهويهم الدماء المتلاشية.
أولئك الذين يدافعون عن القتل ويبررونه ويشرعون القوانين لخدمة أجنداتهم السياسية ويجعلون منها دمى متحركة في أيدي الأقوياء.
هكذا خرجت مظاهرات عديدة في مدن مختلفة حول العالم تطالب بوقف إطلاق النار. لقد تجمعت الحشود لمساندة أطفال غزة، وكانت معظم شعاراتها: لا للقتل.. لا للتعذيب.. لا للتهجير.. لا للدمار. ولكن أغلبها ووجِهَ بالقمع والاعتقالات، خصوصاً في أوروبا «الديمقراطية»!
إن حرية الرأي تلك القيمة التي تغنى بها الغرب وصدرها للشعوب الأخرى ما هي إلا خدعة ماكرة أو كذبة شنيعة أو وهم مر. نعم لقد كذبوا علينا حين علّمونا أن الحرية كامنة في بلاد الآخرين.
أين الجريمة في المطالبة بإيقاف النار؟ أين الجريمة في مساندة حقوق الأطفال في غزة، كما في أوكرانيا وكل بلدان العالم؟ إن أطفال فلسطين لا يطالبون سوى بأدنى حقوقهم: حقهم في الطعام، والشراب، والنوم، والسلام. حقهم في أن يكبروا في أحضان أهاليهم. لقد يتمتهم الحروب المتتالية، وجاءت الحرب الأخيرة بضربة قاضية. هم اليوم يواجهون نقصًا حادًا في كل الخدمات الأساسية. لم تصلهم معظم المساعدات التي مرت من معبر رفح، ولا أحد يعرف أي «عفريت» سرقها. قد يكون نفس العفريت، الذي سرق الأرض منذ 75 سنة!
ولكني لا أرغب في الكتابة إلا عن الأطفال. ولا أعرف من أين أبدأ فكل قصة أشد إيلاماً من الأخرى.

الحبر والدماء

«الحبر والدماء»، ليس عنوان فيلم تراجيدي اجتاح مؤخراً صالات السينما ولا مسرحية بائسة ولا رواية بائسة لكاتب سوداويّ نكد. إنه عنوان حرفيّ للحياة التي يعيشها أطفال غزة. لقد قرر أهالي الأطفال، كتابة أسماء صغارهم في أماكن مختلفة على أجسادهم. وذلك كي يتعرفوا عليهم إن ضاعت أشلاؤهم. فهم يرغبون بالتأكد من أن ذلك الطفل هو صاحب هذه الرجل، وتلك الطفلة هي صاحبة هذا الذراع. وبعدها يجمعون الأطراف ويدفنون أشلاء أبنائهم، وهم على يقين من أنهم ليسوا أمام بقايا جثة غريبة.
هل هناك وجع أكبر من ذلك الوجع؟!
نعم هناك. وذلك في كل مرة يمد الطفل يده وهو يدرك بأن اسمه يكتب حتى لا يضيع من أهله في لحظة الموت. لقد فتحوا أياديهم الصغيرة وهم مبتسمون وكأنهم صادقوا الموت وألفوه.
وكيف لا يألفوه وهم يرونه يرفرف حولهم، بسخرية وشماتة، في كل لحظة ومع كل نفس يأخذوه. يرونه يرتسم على كل وجه وفوق كل بيت، وكنيسة، وجامع، ومستشفى.
لقد انتشر مؤخراً على مواقع التواصل الاجتماعي فيديو لطفلة صغيرة وهي تصرخ بعد أن تفحصت جثة: إنها أمي أنا أعرفها من شعرها. أمي لماذا ترحلين. أنا لا أعرف كيف أعيش من دونك!
وفيديو طفل صغير لا يزيد عمره عن الثلاث سنوات، هو الناجي الوحيد في عائلته، كان وجهه ملطخاً بالغبار. راح يرتجف من رأسه حتى أخمص قدميه. وعندما حاول الطبيب طمأنته، انفجر بالبكاء. وكأن دموعه شلالات تتدفق بقوة بعد احتباسها لزمن طويل. صورته هزت كل من يحمل في قلبه ولو ذرة واحدة من الإحساس.
إن أصوات الأطفال في غزة هي وحدها قادرة على أن تهزّ الليل، هي وحدها تصدح الآن في الظلام وتحاول أن تتوسد الأمل على الأرض المحروقة. إنها أصوات الصمود والإرادة. فبالرغم من كل الآلام والدموع، إلا أن الأطفال هناك يصرّون على الحياة يضحكون ويلعبون ويرقصون فوق الركام بين صاروخ وآخر.
فكيف نتجاهل أصواتهم؟ وكيف نمتنع عن مساندتهم، والتحدث باسمهم رغم كل المضايقات؟ إنهم ليسوا مجرد أرقام إحصائية أو أخبار عابرة. إنهم أرواح تنتظر الفرصة للعيش بكرامة وأمان.
لنحمل قلوبنا معهم، ولنقف جميعًا كشعوب وأفراد مع الأطفال في غزة، ليس فقط بكلماتنا وصلواتنا وتدويناتنا، بل بالعمل الفعلي والمساهمة في توفير الدعم والمساعدة التي يحتاجونها.
فلنكن صوت الحق، ولنضىء الأمل في النفق المظلم، ولنشجع على السلام والتفاهم بدلاً من العنف والصراع.
يمكننا أن نكون جميعنا جزءًا من هذا التغيير، لأن «الحبر والدماء» يجب أن يتحولا إلى أمل وعمل من أجل السلام وتحقيق العدالة.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com