هل انسحاب أمريكا من افغانستان استعادة لإنسانيتها؟
للمرة الثانية، منذ عشرة أعوام، يقوم رئيس أمريكي بتنفيذ قرار انسحاب القوات الأمريكية من بلد تم غزوه واحتلاله بقرار من رئيس أمريكي سابق له. كانت المرة الاولى حين أعلن الرئيس باراك أوباما الانسحاب من العراق عام 2011، وحلت الثانية حين أعلن الرئيس جو بايدن، في 14 نيسان/ أبريل، عن جدول زمني لانسحاب كل القوات الأمريكية من افغانستان، في موعد أقصاه 11 سبتمبر/ أيلول، الذكرى العشرين لهجوم القاعدة وما تلاه من غزو قادته الولايات المتحدة. في كلا الحالتين، كان الرئيس جورج بوش هو الذي اصدر قرار غزو البلدين، تحت شعار» محاربة الإرهاب». الشعار الذي بات، عمليا، الاستراتيجية الأمريكية التي تم تطبيقها في أرجاء العالم على مدى العشرين عاما الأخيرة. وكان من بين نتائجها الخسارة البشرية الهائلة والخراب على مستوى البنية التحتية ومد الحكومات المحلية بمغذي الفساد وقمع الانتفاضات الشعبية السلمية. وكان ابرز تلك النتائج تصفية انتفاضات الربيع العربي سواء بإختراقها وتجنيدها من الخارج في الصراع الدولي، أو باتهامها داخليا بالإرهاب واستغلال الإسلاموفوبيا، لتحييد النخب المدنية وعزلها عن الجماهير الكادحة والمهمشة.
أثار قرار بايدن حماس البعض الى حد القول بوجوب عدم التشكيك بخطوته بل ووصفها بأنها تقترب من الراديكالية. فما هي مصداقية هذا المنظور ؟ ليس بالامكان قراءة خطاب جو بايدن دون العودة الى خطاب أوباما. فنقاط التشابه كثيرة ومهمة لمعرفة ما تحقق وما سوف يتحقق حول الانسحاب، واقتراح البدائل، والرؤيا الأمريكية المستقبلية سياسيا وعسكريا. فمن ناحية التوقيت، أعلن الرئيسان قرار الانسحاب بعد الفوز بالانتخابات، كما يؤكد أوباما: « كما وعدت، ستعود بقية قواتنا في العراق إلى الوطن بحلول نهاية العام… ستنتهي حرب أمريكا في العراق». كما يفتخر الرئيسان بانجازات القوات الأمريكية واستحقاقهم العودة الى وطنهم. يقول أوباما « سوف يعبر آخر جندي أمريكي الحدود إلى خارج العراق ورؤوسهم مرفوعة، فخورون بنجاحهم». كما قال بايدن: «حان وقت عودة القوات الأمريكية إلى الوطن». «حان الوقت لإنهاء الحرب الأبدية».
وفي الوقت الذي تجاهل فيه أوباما سبب وجود القوات الأمريكية بالعراق، وما هي المهمة التي نفذتها هناك وجعلتهم فخورين بنجاحهم، ربما لمعرفته أن معظم المسؤولين عن الغزو، اعترفوا في فترات متفاوتة بأنهم كانوا « ضحية أكاذيب» اختار بايدن تكرار سبب الغزو وتحقيق النصر، اكثر من مرة، قائلا : « ذهبنا إلى أفغانستان لاجتثاث القاعدة، لمنع الهجمات الإرهابية المستقبلية ضد الولايات المتحدة المخطط لها من أفغانستان. كان هدفنا واضحا. كان السبب عادلاً. لقد فعلنا ذلك. لقد حققنا هذا الهدف».
ماذا عن العلاقة مستقبلا مع البلد المحتل بعد سحب القوات العسكرية؟ عن العراق أخبرنا أوباما: «ستكون هناك شراكة قوية ودائمة. بوجود دبلوماسيينا ومستشارينا المدنيين في المقدمة، سنساعد العراقيين على تقوية المؤسسات التي تكون عادلة وتمثيلية وخاضعة للمساءلة. سنبني روابط تجارية جديدة، وتجارة، وثقافة، وتعليم يحرر إمكانات الشعب العراقي. سوف نتشارك مع عراق يساهم في الأمن والسلام الإقليميين، تمامًا كما نصر على أن تحترم الدول الأخرى سيادة العراق». وهي صورة مشرقة، بإمكاننا القول، الآن، أن أيا من جوانبها لم يتحقق بل وشُرعت أبواب العراق لكل انواع الإرهاب، بضمنها الأمريكي. وبنفس الألوان يصبغ جو بايدن، حاليا، مستقبل العلاقة مع أفغانستان، مؤكدا: «سنواصل دعم حكومة أفغانستان. وسنواصل تقديم المساعدة لقوات الدفاع والأمن الوطنية الأفغانية».
قرار الانسحاب من العراق كان بوش قد شرع بهندسته قبل أوباما، ونتيجة اتفاق في «لجنة بيكر» التي جمعت الحزبين لاسترجاع التوافق في السياسة الخارجية من المحافظين الجدد و»مشروع القرن الأمريكي الجديد»
إذا كان قرار جو بايدن قد استقبل بالترحيب، باعتباره خطوة نحو انهاء عنصرية اليمين الترامبي فان علينا أن نتذكر ان قرار أوباما لقي ذات الترحيب، سابقا، وكانت النتيجة ابقاء المطلوب من القواعد العسكرية مع زيادة مستخدمي الشركات الأمنية والمرتزقة والعمليات الخاصة بالاضافة الى استخدام الطائرات بلا طيار عشرة اضعاف ما كان مستخدما قبله. وتضاعف الاستخدام خلال رئاسة ترامب بالاضافة الى اصداره قرارا ألغى فيه التصريح بعدد الاستخدامات ايضا. مما منح الجيش والسي آي أيه الحرية المطلقة في عمليات القتل والاغتيالات. كما نُذكر بأن قرار الانسحاب من العراق كان بوش قد شرع بهندسته قبل أوباما، ونتيجة اتفاق في « لجنة بيكر» التي جمعت الحزبين لاسترجاع التوافق في السياسة الخارجية من المحافظين الجدد و«مشروع القرن الأمريكي الجديد» الذي أفشلته المقاومة العراقية. كما أن قرار بايدن، استمرار لقرار كان ترامب قد اعلنه. باعتبار ان استخدام القوات العسكرية، يشكل استنزافا اقتصاديا لأمريكا، وليس من مصلحة أمريكا التضحية بجنودها، مجانا، لصالح دول اخرى، وضرورة اعادة هيكلة الجيش الأمريكي.
هذه الحقائق، اشار اليها بايدن في خطابه ولكن بشكل ناعم مغلف بمفردات «نبيلة» حول وجوب إعادة الجنود الى الوطن بعد أدائهم « مهمتهم الإنسانية» بعيدا عن اهلهم. وبعنصرية تليق بالغزاة وصف كيف انه يحمل منذ 12 عاما «بطاقة تذكرني بالعدد الدقيق للجنود الأمريكيين الذين قتلوا في العراق وأفغانستان. هذا الرقم الدقيق، وليس رقمًا تقريبيًا أو تقريبًا – لأن كل شخص من القتلى هم بشر مقدسون تركوا وراءهم عائلات بأكملها». متعاميا عن حقيقة أن القوات الأمريكية بالعراق رفضت بشكل مطلق ان تسجل عدد الضحايا العراقيين، وأن سبب غزو أفغانستان كان مقتل 2977 أمريكيا، بعملية ارهابية نفذها 19 قتلوا اثناء تنفيذ العملية، بينما قدرت أبحاث جامعة براون الأمريكية، في عام 2019، عدد الضحايا بين الجيش الوطني والشرطة في أفغانستان بأكثر من 64100 منذ أكتوبر 2001. ووفقًا لبعثة الأمم المتحدة للمساعدة في أفغانستان (أوناما)، فقد قُتل أو جُرح ما يقرب من 111000 مدني منذ أن بدأت في تسجيل الخسائر المدنية في عام 2009.
تثير هذه الأرقام المخيفة تساؤلات مشحونة بالغضب: لماذا تقتصر «القدسية» على حياة الأمريكي؟ ولم يعاقب بلد، تخريبا وقتلا، كعقاب جماعي جراء عمل إرهابي ارتكبه 19 شخصا فقط؟ أليس الغزو واستمراره، لهذا السبب، عملا إرهابيا، يجب محاكمة المسؤولين عنه وفق القانون الدولي ؟
وما الذي سيجلبه المستقبل من تغيير في العلاقة بين أمريكا وافغانستان بعد الانسحاب ؟ يقول بايدن في ختام خطابه بأن فريقه العسكري يعمل على « تنقيح الاستراتيجية الوطنية لمحاربة الإرهاب الذي يستهدف أمريكا واعادة تنظيم القدرات في مكافحة الإرهاب في المنطقة لرصد التهديدات الإرهابية الكبيرة وانهائها ليس فقط في أفغانستان، ولكن في أي مكان قد تظهر فيه. الإرهابيون موجودون في إفريقيا وأوروبا والشرق الأوسط وأماكن أخرى». مما يعني أن سياسة « محاربة الإرهاب» ستبقى كاستراتيجية بعيدة المدى لتطويع الشعوب والدول، اذا ما فكرت برفع رأسها للتنفس بعيدا عن بسطال الشرطي الامريكي. الا انه يعني، أيضا، ان أمريكا لن تتمتع بالامان الذي تنشده لنفسها ما لم، سواء في العراق أو أفغانستان، تعتذر عما ارتكبته بحق الشعوب، وتعويضها والعمل على بناء علاقة مشتركة على قدم المساواة، ووضع حد لدعمها الأنظمة الاستبدادية الفاسدة التي جعلت من بلدانها سوقا للسلاح.
كاتبة من العراق