“يوري بونداريف” و الأدب العقائدي
تردد اسم “يوري بونداريف” في الصحافة الروسية أيام الاتحاد السوفيتي كثيراً و ناقش القراء نتاجاته فيما بينهم لأنها كانت تتناول المسائل المهمة في حياتهم وقضايا الأخلاق الإنسانية وعلاقة الإنسان بالمجتمع , و ارتبط اسمه بالعراق من خلال ترأسه لجمعية الصداقة مع العراق.
ولد يوري فاسيليفيتش بونداريف في 15 آذار عام 1924 في مقاطعة اورينبور غسكايا , و شارك في الحرب العالمية الثانية بصفة ضابط مدفعي , أكمل الدراسة في مدرسة المدفعية عام 1944، وفي معهد الأدب عام 1951 , وهو عضو في الحزب الشيوعي منذ عام 1944 , و انتخب عضواً في مجلس السوفيت الأعلى ونائباً لرئيس مجلس القوميات للمدة من عام 1984 – 1989.
نشر أولى قصصه القصيرة “في الطريق” في مجلة “البديل” عام 1949. اشتهر في الأوساط الأدبية والاجتماعية بعد نشر قصصه الطويلة : ” شباب القادة” (1956)، “البطريات تطلب النار” (1957)، و”الاطلاقات الأخيرة” وقد قوم النقاد والقراء هذه النتاجات بِعَدِّها ظاهرة لما سُمّي آنذاك بـ (نثر الملازمين) عن أيام الحرب، الذي عرض الحقيقة في خنادق الجبهة بما يتعارض مع ما تنشره الصحافة الرسمية لكن بونداريف فيما بعد صار يعرف بممثل “الأدب الرسمي” واحد أركان الواقعية الاشتراكية , وقد أُخرج الكثير من نتاجاته سينمائياً وأعماله مترجمة إلى الغالبية من اللغات العالمية بما في ذلك الإنكليزية والعربية والفرنسية . . الخ.
نال بونداريف العديد من الجوائز , ونتاجاته معروفة جيداً للقراء الروس والأجانب ولاسيما : “البطريات تطلب النار” (1957)، “الإطلاقاتالأخيرة” (1959)، “الهدوء” (1962)، “الأقارب” (1956)، “الثلج الحار” (1969)، “الساحل” (1975)، “اللحظة” (1978)، “الخيار” (1980)، ” اللعبة” (1958)، “الإغراء” (1992)، “الفرصة” (1995)، “اللاتضاد” (1996)، “مثلث برمودا” (2001)، و”الاقارب” (2006) وغيرها.
درس بونداريف حياة الإنسان وعالمه الروحي واستوعب الواقع الحياتي بعد الحرب (قصص “الهدوء” و”الأقارب”) وتوجه بعد ذلك إلى كتابة أهم أعماله الأدبية رواية “الثلج الحار” , وذكر الكاتب انه حاول من خلال هذه الرواية استعراض (جنون المعركة) , نلاحظ كيف يصمد البطل الرئيس في الرواية كوزنتسوف في معركة ضروس مع الفاشيين رغم حداثة سنه , فقد تعرضت وحدتهم العسكرية إلى هجوم القوات الألمانية بالقرب من ستالينغراد وتستلم وحدة المدفعية التي يخدم فيها كوزنتسوف أمراً بوقف تقدم الدبابات الألمانية.
يتمثل مشهد الذروة في الرواية عندما تهجم الدبابات على البطرية التي يقود احد مدافعها الملازم الشاب كوزنتسوف والثواني هنا تحسم كل شيء , تدخل الدبابات منطقة الحرام ولا يستطيع مدفع كوزنتسوفان يهزمهم بينهما مدفع الضابط الأخر , دافلاتيان صامت , يترك كوزنتسوف رئيس العرفاء مكانه ويتجه تحت نيران العدو إلى مدفع دافلاتيان , ويتمنى في تلك اللحظة ان لا يقتل حتى يصل المدفع ليعالج الدبابات المتقدمة . . ويتقدم كوزنتسوف بين جثث القتلى الى مكان المدفع ويجد شخصين من البطرية أحياء أحدهما جريح , ويتمكن في اللحظة الحاسمة من أطلاق النار ويوقف تقدم الدبابات . . وهكذا تتأكد في المواقف الحرجة أهمية القيم الأخلاقية , ان الطالب الأفضل في المدرسة العسكرية هو من لديه هيأة عسكرية جيدة اما هنا في الجبهة فيكون الحسم للصفات الشخصية للإنسان وقدرته على حماية الناس وعطاءه وتقديره للموقف.
يتناول الكاتب في هذه الرواية مشاعر الشخصيات العسكرية بمختلف رتبها , من السائق حتى القائد الأعلى , ويعرض لنا إحساس القائد وهو يتحمل المسؤولية عن حياة عشرات الآلاف من البشر أثناء المعركة.
يصور بونداريف في “الثلج الحار” شخصية القائد العسكري الجنرال بسونوف , وهو قائد محنك يفهم ان نجاح المعركة مرتبط قبل كل شيء بالناس فيسعى للحفاظ على أرواحهم , انه شخص له معاناته الخاصة ومأساته لأنه فقد في الجبهة ابنه الوحيد , ان إبطال نتاجات بونداريف حابسون لشعورهم متجهمون , فالجنود لا يتحدثون عن مشاعرهم وعلاقتهم بالوطن إنما يقاتلون من أجله حتى الموت ولا يفكرون بالمأثرة الشخصية في الوقت الذي يحققونها كل يوم وكل ساعة وكل دقيقة , يصور بونداريف الناس في المواقف الحرجة لأنه يفهم جيداً ان معدن الإنسان يظهر جلياً في الأوضاع غير الاعتيادية.
نشر بونداريف في عام 1975 رواية “الساحل” , يحتوي مضمون هذه الرواية على عدة (طبقات) زمنية , يسافر بطل الرواية الكاتب نيكيتين وصديقه وزميله في الجبهة سامسو نوفالى مدينة هامبورغ في ألمانيا بعد عشرين عام من انتهاء الحرب العالمية الثانية ويلتقي هناك بالسيدة هيربرت , ويكتشف ان هذه المرأة هي بعينها التي كانت في يوم ما اعز الناس عليه، اذ يعرف أنها الفتاة “إمّا” من مدينة كينيهسدروف الصغيرة، التي التقى بها وأحبها في أواخر أيام الحرب بعد احتلال برلين , وتجري أمام عيني نيكتين أحداث شهر مايس عام 1945. حيث الفرح بالسلام وبالسعادة القادمة آنذاك يتحول بالنسبة إلى أبطال الرواية إلى دم جديد وخسائر جديدة ويتألمون لأنها الأيام الأخيرة للحرب.
ها هو بونداريف من جديد يضع أبطاله بمواجهة ظروف غير اعتيادية تتطلب صلابة أخلاقية , يتعرض جميع أبطال الرواية إلى اختبارات صعبة : نيكيتين وصديقه الملازم كيناجكو، العريف ميجينين وقائد البطرية غراناتوروف , وتتشابك الأحداث المتطورة بعنف مع تأملات المؤلف حول الإنسان والتاريخ وقدر الإنسانية الذي قسمها إلى معسكرين وحول الدروس المستخلصة من تجارب سنين الحرب المنصرمة.
تطرح الرواية تساؤلاً : فيمَ يكمن مغزى حياة إنسان القرن العشرين المعاصر وماهو المطلوب منه ؟ يخوض نيكيتينوسامسونوف جدالاً مع الناشر الألماني ديتسمان حول القيم الرئيسة للحياة والعالم , ويُظهر لنا النقاش وجهتي نظر مختلفتين تعكسان عقائد الناس التابعين لأنظمة اجتماعية مختلفة.
يجري النقاش حول الإرث الإنساني للثقافة الروسية والثقافة الإنسانية بصورة عامة , ويصر نيكيتين على رفض محاولة ديتسمان استعمال تقاليد الأدب الكلاسيكي الروسي بتدعيم الفلسفة غير الروحية وغير الأخلاقية.
نشر بونداريف في عام 1980 رواية “الاختيار” , أبطالها الفنان فاسيليف وصديقه أيام الدراسة رامزين , يذكر الكاتب انه أراد من خلال هذه الرواية إكمال ما بدأه في رواية “الساحل” : التأملات حول الحياة والحرب والسلام والحداثة.
الكاتب مهتم بمصير الإنسانية ومؤمن بضرورة النضال بصورة فعالة من اجل المستقبل السلمي والسعيد.
بقلم الكاتب
الدكتور تحسين رزاق عزيز