ثقافة

قصة قصيرة

ابو جواد .. سمع صوت أنين يشبه البكاء بالقرب منه  , شعر بشيء ذي طعم مالح على قدمه , شيء رطب . . تفاجأ كيف عرف طعمه بمجرد وجوده , أحس بثقل في جسده . . فتح عینیه بتثاقل وتباطأ جدا  , وجد حماره امامه  , نظر إلى عینیه وجدها باكية . . أراد أن يمسد على رأسه لكن هناك شيء يمنعه ومنعه من التحرك . . توقفت عجلة قريبه منه ونزل سائقها ورماه بعقب سيجارة  , شتمه لكن السائق لم يسمعه . . نظر إلى انعكاس صورته في نافذة السیارة وجد صورة مشوشة كليا لكنه غیر موجود .

ليس هناك أي شيء . . سوى حمار و شجرة هرمة  , هي نفسها التي كان یسقیها و ينظف مخلفات المارة منها وربط حماره حولها , حاول النظر جیدا فتح عینیه على حجمها الشجري , لم یجد سوى الشجرة نفسها عارية من الأوراق , مائلة الى الأمام تحدبت اغصانها كأنها مولودة في سحابة سوداء و سائرة الى جبل الموت تخاف منها الطيور التي هاجرت أعشاشها حزنا عليها  .

امعن النظر جيدا في مرآة السيارة , بحث  عن نفسه وسط عتمتها . . صرخ صرخة مدوية حركة أجنحة الملائكة صرخة صامتة لا تدركها حواسنا . . قد تحول الى شجرة , التائه صار شجرة  , مثل كافكا في التحول . . تحول إلى حشرة , أراد ان يتحرك فلم ينجح سوى بتحريك اضعف و اوهن  أغصانه.

مر بدقائق صعبة جدا احس بالفزع والرعب والوحدة , من شدة خوفه شعر بالانكماش . . شيء فشيء حتى تلاشى وجوده , جاء أحدهم ونظر الیه قائلا ( الله یرحمك ابو جواد شوف المطي مالتة شكد وفي اجة هنا
وكف لان ابو جواد جان متعود یربطة هنا ) سمعه جیدا تيقن انه شجرة . . یا الهي هل انا میت حقا ؟ ولماذا لم اوارى الثرى مع اقراني ؟ ایعقل اني دفنت هناك وروحي بقیت هنا ؟ لماذا تحولت الى شجرة ؟ كانت إحدى أمنیاتي ان أراقب الناس من فوق , طرأت اسئلة كثیرة في مخيلته ذلك الإنسان البسيط التعس الكئيب ذو الحياة البائسة تخرج منه استفهامات وجودیة . . من انا ؟

لستم بحاجة لمعرفتي ولكن سأخبركم في نهایة القصة التي تنتهي بموت الجمیع . . لم احرق شيء من الاحداث , استمروا معي و اضحكوا من كثرة البكاء , عودة وجودیة !

من رماد الأرواح المحترقة بنار الأساطیر ستولد هذه القصة , هل شعرتم بالعار كلما انهیتهم قراءة كتاب .؟ انا شعرت لا اقول لكم كیف , بالمناسبة انا انسان مریض نفسي توجد اثار لكل الخطایا في دمي , وها انا الان اتبول على ضميري امامكم . .كفى تكلمت الكثیر دعوا الرجل یكمل سرد قصته , تبا له ولكم حاول ابو جواد ان یقنع نفسه انه في حلم . . لكن لم یستطع الیقظة والهروب منه , ماذا افعل الان علي ان استیقظ , ارتفع نهیق حماره حتى تقرب منه الاطفال المتسولون حاملین معهم عصي لضربه .

اعتدوا علیه اشبعوه ضربا , صرخت الشجرة بعلو صوتها ابتعدوا ابتعدوا . . ولكن لم یسمعه احد هرب الحمار وركضوا خلفه , اصابه الملل من الصراخ بكى من شدة الالم , لا تتركني یا صدیقی انا احتاجك . . ولدي الذي لم انجبه , الذي احببته اكثر من روحي . . ارهقته الأفكار , اغمض عینیه غرق في وعيه , احس بالهواء يداعب وريقاته وعلى صوت تلاطم أمواج مياه دجلة القریبة منه غط في ذكرياته . . حتى مر شريطها بسرعة في رأسه , قبل أكثر من 50 عام ولدت في هذه المدينة القدیمة جدا التي تقع على ضفاف دجلة اسمها النعمانیة التي كانت تسميتها البغيلة او الاخیرة نسبة الى النعمان ابن المنذر , من عائلة فقيرة جدا ابي كان یعمل حمالا لاحد تجار المدینة وامي تقوم بحياكة العباءة الرجالية كما كان هذا عمل ابي لكن النظرة الدونية في ذلك الوقت الى صاحب
هذه الصنعة توقف عن العمل .

اما امي فكانت تحركهن بالسر وتذهب بهن الى جارتنا زوجة صاحب محل معروف بتجارتها لقاء مبلغ صغیر جدا یكفي الطعام و سد احتياجاتنا لم تكن في مدينتنا سوى مدرسة واحدة یذهب إلیها أولاد الأغنیاء فقط , اما ما تعلمته من القراءة والكتابة تعلمتها من شیخ الجامع الوحید في المدینة في عمر الثامنة توفي والدي نتيجة إصابته بمرض غريب , كنا نسكن في غرفة في أحد الخانات في المدینة لقاء ايجار بسيط . . بعد عام على رحیله لحقته إلى قبره امي . . بقیت وحیدا متنقلا بین بیوت الجيران جار یطعم وجارة تلبسني ملابس اولادها المستعملة .

أبيت یوم في غرفة وفراش مع حمام دافئ ویوم بالقرب من احد الإسطبلات . . كل شيء كان یسیر طبیعي نموي ونشأتي حتى حدثت انعطافة نبذتني مجتمعيا , كنت عائدا من دجلة التي أصبحت أمي فیما بعد . . سمعت صوت غريب يشبه مواء القطة قرب احد الخرائب تتبعت الصوت لأعرف مصدره حتى تقربت فوجدت محمود ابن ام عباس التي كانت تطعمني وتخاف علي كثیرا بمنظر غریب یشبه وضع الكلب . . وخلفه الملا عباس . . فانتبهوا لي حینها هربت وتبعني ملا محمود , لم اجد غیر دجلة لألوذ واحتمي بها ؟

عرفوا مكاني الذي تعودت المجيء الیه ابكي واندب حظي تقربوا مني ملا عباس ومحمود ورموني في النهر لشدة خوفي لم أستطع المقاومة والصراخ وايضا انا لم اعرف السباحة ابدا ؟

عندما كان أبي على قید الحیاة كان یمنعني من المجيء الى هنا لألعب مع أقراني خوفا علي . . كان یقول لي دوما (دجلة ما عدها صاحب ولا صدیج ) وهي التي ابتلعت اخویه سابقا , سقطت في الماء هناك حاولت التنفس لكن لم استطع اصبت بالاختناق لا يوجد شيء أتمسك به ملأ الماء رئتي . . هنا فقدت الوعي تماما لأغرق في رحم دجلة , وها انا اقف وسط صحراء بلا بدایة او نهایة رمال فقط . . احس بذرات الرمال بین قدمي وبدأت أغوص رویدا رویدا , الى باطنها شيء يقترب من بعید . . أحاول ان اصرخ ليأتي لإنقاذي لكن صوتي لم یخرج ابدا كان الماء يتساقط من انفي وفمي وعيني , بدأت ملامحه تتضح انها امرأة مدت لي ید االله لتنقذني . . عاد لي الوعي مجددا أحسست بشيء یشبه الوحش أمامي . . أظنه شبح البحر الذي سرق من أبي أخویه , لا هذا
يشبه شبیه یشبه !

ابتعد عني ابتعد . . فقدت الوعي مجددا , حتى استيقظت لأتقيأ المیاه التي اختنقت بها لأجده أمامي انه هو . . یا الهي انه حمار . . أنقذني حمار ! حاولت ان اهرب منه ولكنه تركني ورحل مبتعدا , ذهبت مسرعا الى بیت ام محمود لأخبرها ما حدث ضربتني وعنفتني بشدة , ذهبت الى مقاهي المدينة و أبلغتهم بفعلة ملا عباس , لم يصدقني احد . . بعدها نبذوني الناس وابعدوني عنهم واخبروا أطفالهم بالابتعاد عني .

عدت الى دجلة لأعاتبها عما حدث , ولماذا حاولت قتلي ؟ حتى وجدته بالقرب مني نظر لي نظرة طویلة وكأنه
یأمرني ان اتبعه . . وها انا أساق معه حتى وصلنا مكان لا یبعد قلیلا عن النهر , بین أشجار النخیل ونباتات أخرى وجدت خیمة صغیرة تشبه خیمة البدو بنیت من شعر الحیوانات كانت فارغة ومهملة أحسست حینها بأن مملكتي ستنشأ هنا نظفتها ورممتها كان بقربها یوجد مكان ترمى بها النفایات فأسست عرشي من بقایا مخلفات الناس من أثاث مستعمل , أوعية لطعام , كرسي مكسور , فراش مع أغطية قمت بغسلها وأعلنت تسلم السلطة فأصبحت حاكم لهذه الأرض . . بعدها اصبح الحمار الذي أمسيت أنادیه ابي صدیقي لـ 20 عام خلالها عملنا في توصیل الماء لناس ولكن لم یشتر مني احد الا القلیل , و ربطته في الساقیة وكنا ندفعها معا
في ارض زراعية قريبة لنقل المیاه الیها . . كنت دائما ادخل في مشاجرات وصدامات اخرج منها مكسورا الخاطر مشوه الوجه , لم يكن لي صدیق فقط حماري , حتى استطعت ان اروضه وان اضع علیه الاحمال لقاء مبالغ تكفي لسد رمقینا كنا نأكل ونلعب معا . . وننام بالقرب من دجلة احكي له ما تعلمت من حكايات ابي , مضت الأيام مرض الحمار وكبر سنه مرت الحروب والكوارث ودخل العمران والكهرباء والاعداء في مدینتنا التي لم تكن مدینتنا یوما . . حتى ذات صباح استيقظت لكنه لم يستيقظ ابدا . . مات الحمار مات ابي الروحي . . الذي كان یأنس لحكایاتي يبكي لبكائي مات , اصبت ببرودة في كل انحاء جسدي في تموز .

اظلمت الدنیا في وسط نهارها , اكاد اسمع بكاء الرب من فوق السماء , اسمع نحیب الملائكة یجول في الأرض سقطت النجوم من سمائها . . أصبح الكون خاو من ضياءه , بكیت ثم بكیت حتى تحدب ظهري في عز شبابي حماري الذي لم اعرف حبیب غیره . . او اب مات , أهلت علیه التراب . . مضیت كمجنون لیلى في أسواق مدینتي  , هجرت مملكتي لم یكن لي صاحب او صدیق , مر عام على فراقه جمعت بعض المال من عملي  كعامل بناء واشتریت حمار ثان لكنه لم یكن یستمع لي ابدا , كنت حینها اتخذ علوة بیع الخضار كمسكن لي , عملنا معا كموزعين للنفط و الطحين على بیوت المدینة , حتى عرف الحمار كل البیوت ولم یكن لي الحاجة لسوقه الیها.

لم أؤمن بالقدر او الصدفة طول حياتي لكن أحیانا أظن إني صدفة . . كان مكاني الاعتیادي الذي اقف فیه بالقرب من مصرف الرشید الذي یحوي بداخله على ملایین الدنانیر , حتى حدثت المعجزة في هذا الیوم . . جاءت من بعید وافترشت الأرض لتنادي الله یا محسنین من مال الله . . كان صوتها كموسیقى بداخلي , ناي یعزف كل معزوفات البشر , صاحبة العیون الخضراء المتسولة التي تبیع الوان الحیاة لوحات رسمت في وجهها , اعتقد ان الخالق أعطاها امر ان تخلق نفسها . . انسیة انست قلبي ولوعاتي . . احسست بأني شهریار سلطان على هذه المدینة وأهلها , تقربت منها . . نظرت الیها , قلت لها : تزوجيني ؟ ابتسمت وقالت :  ( اني فكر بت فكر وانت عندك مطي . . هو هذا حظي ) ابتعدت عنها , ونظرت لها قائلا ( اروحلج فدوة اني والمطي ) حلقنا انا وحماري في الفضاء حاملین معنا ابتسامة الحظ لنا اورقت الاشجار وتفتحت الازهار نمت الاعشاب في الصحاري , قبلت حماري كثیرا , أحسست ببلل على وجهي . .حتى استيقظت لاجده فوقي بقبح منظره , فابتعدت عن الحمار , الذي فعل فعلته لينقذني من حلمي . . حتى هطل المطر بغزارة , وحده المطر من یكشف اسرارنا وحدها رائحة الطین التي تتلذذ بطعم الجسد .

بقیت نظراتي تلاحق المتسولة ام لیناس , هكذا كانوا یسموها لانها یتیمة مثلي مقطوعة من شجرة الانساب المزیفة , عندما یرفض احد ان یعطیها مال من توسلها تقول له لن انكسر لي ناس . . كانت متزوجة قریب لها واستشهد في الحرب تاركا لها طفل صغیر هزیل البنیة والحجم مات بعد ایام من رحیل زوجها لتتحول حیاتها من حالكة السواد الى قاتمة الظلمة , بنى لها الخیرون من الناس غرفة
صغیرة بالقرب من ملعب المدینة , كانت كالمملكة لها منتظرة ملكها وفارسها . . ومن حظها كنت انا والحمار , الفارس والملك , بعد محاولات عدیدة لقبول لزواج مني . . وافقت و تزوجنا وكان مهرها شجرة صغیرة وهي السدرة التي كتب علیها اقدرانا واعمالنا تلك التي وقف عندها الانسان وعرف نهایة الزمان واحداثه زرعناها بالقرب من قبر حماري , ولكن لذة الحب لا تستمر . . حتى حان الرحیل , كنت متوقفا بالقرب من المصرف بثوبي الصیفي الوحید الذي رتق جرحه اكثر من مرة بواسطة رقع من قبل الخیاط . . كالعادة بعث لي صاحب وكالة بیع الطحین خبر بقدوم شحنة الطحین لاقوم بتوزیعها على ناس .

استمعت الى اغنیة یاس خضر الریل وحمد الخارجة بألم السنین من داخل احد المقاهي بدأت بترتیل الاغنیة وانا اسوق الحمار والعربة , أدیت التحیة على أهل المدینة التي . . كنت اظن یوما ما اني سأروي لاحفادي تاریخ عالمها السفلي الذي املك مفاتیحه ولكن لم یحدث شيء من هذا، هؤلاء الناس الذین تغیروا جمعیهم الاطفال الذي كانوا یتسابقون لصعود على عربة الحمار ویقدمون الطعام له وادعهم یعتلون ظهري عندها تنهرهم امهاتهم ولكن ادعهم ولانتشي بصوت ضحكاتهم , كبروا واصبحوا رجال والكبار الذین اعرفهم عندما كنت صغیرا , ماتوا بینما كنت سائرا في ازقة واحیاء مدینتي رأیت المدینة وقد هرمت وكبرت وتغیرت ملامح وجهها . . واصبحت مرعبة تخوف ساكنیها الذین اصبحوا يحتفظون بأسرارهم لبيوتهم ولى زمن الجار الذي یحمي جاره ویفدیه بنفسه . . اصبح الان یخاف منه على اهله.

المدینة اصبحت مثل الربیع الذي قدم خلف شتاء بلا مطر …لا خضرة خرجت ولا ارض ارتوت , هنالك الم الم في قلبي , بینما قمت بحمل اكیاس الطحین احسست بتعب وارهاق عظیم , هرب مني الحمار بدأت ألاحقه واركض خلفه متوسلا بالناس ان یقوموا بإیقافه الذین ضحكوا على حالتي , حتى اختفى وبقیت ابكي تذكرت حماري
الاول والبقیة . . كیف كانوا اوفیاء معي كأبناء لي , حتى ذهبت عند الشجرة . . وبقيت اندب حظي عندها
یا شجرة قد تركني ولدي . . قد عاق اباه .

انا من اطعمته وسهرت على راحته ومرضه قد عقني ولم تبق الا انتي معي معي , حتى اظلمت الدنیا واتت ریح عاصفة عاتیة واحسست بتثاقل جسدي فأخذني التعب حتى فقدت الاحساس والشعور بما یحدث حولي ولكني لم استیقظ ابدا , حتى وجدت نفسي في هذه الحال شجرة یابسة مهملة وتدور الحیاة حولي كأنها تدور في حلقة مفرغة مثل طفل ولد وكبر ومات ولم یعرف ما الذي حدث معه كنت أظن إننا أحباب الله لكن الفقراء امراض المجتمع الذي اقصانا رغما عنا وصنف حیاتنا ووضعنا في مكان قرب النفایات . . نحن لم نولد ابریاء مطلقا بل ولدنا مقصیین مجرمین ! (جرمنا اننا اردنا ان نحلم بالحریة فقط ان نملك غرفة صغیرة جدا تحتوي على طعام وصوت اطفال كنا حالمین ولكن الفقراء لا یملكون أحلام فقتلونا بأقصاءنا لم تكن حیاتي تحتوي على احداث مهمة ابد هذه طریقة العیش بالنسبة لنا )

جاءت المتسولة بقربي . . و رأت الحمار وقالت (خطیة ابو جواد جان یتمنى یزوجني تالیتة مات هنا یم المطي مالتة ودفنو یمة) عرفت حینها اني مدفون هنا , لذلك ارتحت لاني لم املك حتى قبر , انتظروا لا ترحلوا انا لم أتزوجها في الحقیقة كانت زوجتي في أحلامي . . قلت لكم لا نمتلك حتى الأحلام , نزل من عجلته . . نظر الیه طویلا , قال له صدیقي المیت سأقتلك مجددا . . قام بتشغیل المنشار الكهربائي و قطع الشجرة , هذا انا وعدتكم ان افصح عن هویتي .

بقلم الكاتب

محمد عادل

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com