منوعات

مدينة خلف الطواحين .. وثمة ذاكرة  3 .

بيدر ميديا.."

مدينة خلف الطواحين .. وثمة ذاكرة  3

شهادة وليست رواية .. مطالب أهالي الضحايا

عبد الحسين شعبان

يجب أن تذهب إلى الحقيقة بكلّ روحك

أفلاطون

هذه شهادة وليست رواية أحاول أن أدوّن فيها ما علق في ذاكرتي واستقرّ فيها بشأن ما حصل في بشتاشان مقترنةً بمحاولة التحليل والاستنتاج، ومبتعدًا قدر الإمكان عن الانفعال والمبالغة والتبجّح والانحيازات المسبقة أو الممالآت المقصودة. ويبقى الحكم على صدقيتها واقترابها من الحقيقة هو للقارئ أساسًا، الذي حاولت أن أصارحه بما أفكر به وما أعتقده صالحًا في المراجعة التاريخية من جهة أو في الأفق المستقبلي من جهة أخرى لعلاقات سويّة بين الأطراف السياسية.

سياق تاريخي

وفي هذه الشهادة ستتداخل الأحداث والأزمنة والأمكنة من خلال سرديات ومقاربات وتقديرات لما حصل في إطار سياقه التاريخي، دون إسقاط الحاضر على الماضي أو التمترس في الماضي دون رؤية المستجدّات والتطوّرات، خصوصًا وقد تغيّرت الظروف، وبات من الضروري كشف الحقيقة لتجاوز آثار تلك المرحلة العصيبة التي عاشتها القوى الأنصارية – البيشمركية.

 ثم إذا كنت قد جئتُ على مجزرة بشتاشان في أكثر من مناسبة وقائعًا وتحليلًا واستنتاجًا، فيما كتبت أو ما أدليت به من تصريحات ومقابلات تلفزيونية وصحافية، إلّا أنني شعرت أن ذلك ليس كافيًا حسبما يبدو، لكثرة ما يصلني من استفسارات وتساؤلات عن بعض التفاصيل التي عشتها وعن حقيقة ما حصل، ناهيك عن مطالبات مشروعة من أهالي الضحايا ومن الناجين، الأمر الذي دفعني لوضع مشروع برنامج وثائقي وحوارات مع عدد من الناجين لتقديمه في محطة البغدادية الفضائية التي كنت مديرًا عامًا لها في العام 2008. واليوم حين أُدوّن شهادتي الكاملة فإن هدفي الأول والأخير هو إنصاف الضحايا بعد أن زال غبار المعارك،  وأصبح من الضرورة تقديم مراجعة تخترق جدار الصمت والتزييف.

لقد جرت مياه كثيرة تحت الجسور كما يُقال، ولم تعُد المواقع ذاتها، لاسيّما ومرّت البلاد بظروف معقدة للغاية، لا تخلو من تغيير الكثير من القناعات والمواقف، بل والمواقع، وانتقل البعض من موقع الضحيّة إلى الموقع الآخر في ظل إغراءات وتحت عناوين مختلفة، ولم يعد يهمه سوى مداراة وضعه الجديد والحفاظ عليه خشية من غضب الطرف الآخر. وهكذا تصبح  مسألة المطالبة بالعدالة وإحقاق الحق وكشف الحقيقة والمساءلة عن الذي حصل، فضلًا عن معالجة الآثار المترتّبة على ما جرى، بما فيها تنقية الأجواء، ضربًا من المناكفة وإثارة الحساسيات ونكئ الجراح وبعث الضغائن وتشجيع على الكراهية والانتقام والثأر والكيدية، وفي أحسن الأحوال نوع من الشغب والبحث في دفاتر الماضي، بل محاولة نبش وقائعه.

وبقدر محاولة تعميم حالة الصمت المريب خلال الفترة المنصرمة، فإن ما يقابلها اتساع سؤال العدالة، علمًا بأن الجرائم المرتكبة لا تسقط بالتقادم. وسؤال العدالة هنا طابعه إنساني وأخلاقي وتاريخي، وليس قضائيًا حسب، والمهم الإقرار بما حصل والاعتراف بما جرى وتقديم الاعتذار السياسي والشخصي، فذلك سيكون المقدّمة الضرورية والأولى لفتح صفحة جديدة، لمعالجة ما حصل في تلك القرية النائية على الحدود العراقية – الإيرانية. مهما كانت التبريرات فليس هناك ما يعادل قيمة الإنسان، فالقسوة والعنف والتسلّط وفائض القوّة والمراكز الحزبية والإدارية والأكاذيب السياسية لا تمنح المرتكب شهادة حسن سلوك، خصوصًا وإن عشرات القتلى – الشهداء بلا قبور، ولعلّ من البديهي أن تعرف عوائلهم ومن يهمّه البحث عن العدالة حقيقة ما حصل ولماذا حصل؟ وأين هي مسؤولية “المسؤولين”؟ بما فيها من يتحدّث باسم الضحايا، فبعض من يضطّر أن يتناول هذه القضية يأتي عليها بخجل أحيانًا أو بحيرة في أحيان أخرى، وكأنه هو المرتكب والجاني، وليس الضحيّة التي عانت من الاستلاب والغدر في لحظة من لحظات التاريخ المجنونة والقاتمة.

سيكون واجبًا على الباحث عن الحقيقة فهم طبيعة الظروف السياسية والاجتماعية والتاريخية التي حصلت فيها مجزرة بشتاشان، والتوقّف عند تداخلات كثيرة ومهمة فيها ومفاصل معقّدة ومؤثّرة منها: الحرب العراقية – الإيرانية التي كانت قائمة منذ العام 1980 واحتمالات تطوّرها في ظلّ انسحاب القوات العراقية من الأراضي الإيرانية بعد معركة المحمّرة (خرمشهر) 1982 والعزلة السياسية والاجتماعية للبيشمركة والأنصار وبُعدهم عن المدن ومراكز الحضارة والمدنية، وانقسام الحركة الكردية بين “مرجعيتين تاريخيتين” منذ انشطارها في العام 1964 بين الحزب الديمقراطي الكردستاني (البارتي – التاريخي) والمكتب السياسي بقيادة ابراهيم أحمد، ثم (الاتحاد الوطني الكردستاني بقيادة – جلال الطالباني) والذي تأسس في دمشق العام 1976 بعد اتفاقية شاه إيران محمد رضا بهلوي، ونائب الرئيس العراقي صدام حسين التي أُبرمت في الجزائر (6  آذار / مارس 1975) والتي أدّت إلى تخلّي إيران عن دعم الحركة الكردية، التي سرعان ما انهارت عُقب ذلك، وغادر الزعيم الكردي الكبير الملّا مصطفى البارزاني إلى إيران بعد إعلانه إيقاف القتال والانسحاب.

مجاميع كردية

كما شهدت تلك الفترة انتعاش مجاميع كردية موالية للحكومة باسم “فرسان صلاح الدين” أو كما هي التسمية المعروفة عنهم (الجحوش) الذين منحتهم الحكومة امتيازات كثيرة مالية وإدارية منها إعفاء الكرد من الجندية (الخدمة الإلزامية) مقابل تولّيهم محاربة القوى الكردية، ولاسيّما البيشمركية، وكذلك القوى الأنصارية الشيوعية التي التحقت بالمنطقة بعد انفضاض الجبهة الوطنية مع حزب البعث العربي الاشتراكي العام 1979  وكانت قد تأسست في العام 1973.

وبالطبع فللقوى الإقليمية دور في ذلك، سواء إيران أم سوريا أم تركيا، حيث تتداخل بعض المهمات بين الجوانب الأمنية والسياسية، ناهيك عن خلافاتها مع بعضها، وكلّ دولة من هذه الدول تدعم معارضة خصمها من الدول الأخرى، فضلًا عن تداخلات مع الأجهزة الأمنية العراقية التي كانت ترسل العديد من منتسبيها إلى المنطقة لاختراق الحركة الأنصارية والبيشمركية، والإيقاع بعناصرها التي كانت تتوجّه إلى الداخل لمهمات حزبية. وكثيرة هي الحوادث، بل الكوارث التي حصلت دون يقظة وإدراك من جانب الإدارات الحزبية التي ظلّت بعيدة عن نبض الشارع وهمومه، خصوصًا في فترة الحرب العراقية – الإيرانية وما تلاها من حصار.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com