أخبار

من مسارات الحروف وكـواليس الكـتابة .الحلقة ٢٤.

بيدر ميديا.."

من مسارات الحروف وكـواليس الكـتابة .
د.خيرالله سعيد.
موسوعة بغـــــداد الثقافية في العصر العباسي في 20 مجلداً : ح 24 .

* الإهــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــداء :
1- الى بغــــــداد مدينتي ، التي أفـرزت كل هـذه الظـواهــر الثقـافية الخـالـدة .
2- الى عـلاّمـة العراق الراحـل د. مصطفى جــواد ،الذي زرع فينا حُـب التراث ونحـن أطفـال على مقـاعـد الـدراسـة الابتـدائيـة .
3- الى أسـتاذي الراحل هـــادي العـلوي ، الذي عـلّمني كيف أمسك القـلم وأكـتب في التراث
إليـهم جميعاً أُهـــدي هـــذه الموسـوعـة . د. خـيرالله سـعـيد

* * *
فهرست أجـزاء موسوعـة بغـداد الثـقافية في العصر العباسي :
1- مُقـدّمة الموسوعـة والمصادر المعتمـدة فيها .
2- صناعـة الـورق وأدوات الكتاب في بغـداد في العصر العبّـاسي .
3- أدبــاء بغـداد في العصر العبّـاسي .
4- شُـعراء بغـداد في العصر العبّـاسي .
– واجهة الشعراء في العصر العباسي . ( ج1 )
5- شعراء بغـداد في العصر العباسي . ( ج 2 ) .
6- شاعرات العراق في العصر العباسي . ( ج 3 ) .
7- بغـداد والشعـراء والقــدرُ ( ج 4 ) .
8- ورّاقــو في بغـداد في العصر العبّــاسي .
9- مُترجمو في بغـداد في العصر العبّـاسي .
10- مدرسـة بغــداد العبّـاسية في الخـط العـربي .
11- مجالس الغِـناء في بغـداد في العصر العبّـاسي .
12- مكتبات العِـراق في العصر العبّـاسي .
13- لصُـوص في بغـداد في العصر العبّـاسي .
14- أوراق بغـــداديـة مــن العصـر العبّـــاسي .
15- بغــداد في حُـلَّـتِهـا العبّـاسيّـة .
16- أحزاب المعارضة الشيعية في بغـداد في العصر العباسي – ج1
17- الحركات الفكرية والباطنية المعارضة في بغـداد في العصر العباسي – ج 2
18- إخـوان الصفاء في بغـداد وتأسيسهم لأوّل حزب سياسي منظّم في الثقافة العربية الإسلامية -ج3
19- المـوّال البغـــدادي، منذ ولادتهِ في العصر العبّـاسي وحتى الآن .
20- الأبـوذية البغـدادية، وشكل نظمها وغنائها .
المقـدمة:
أهمية العمل:
تعد الثقافة، لأي شعب من الشعوب، هي المقياس الحضاري، الذي يميز – كمّاً ونوعاً – هذا الشعب عن ذاك، وهذا البلد عن سواه، وتعد صناعة الكتاب والمدونات الأخرى، من أبرز تلك العلامات للمفاضلة، فالموشور الحضاري، إذا ما جرت المقارنة بين مختلف الحضارات، يكون “الثقافي” هو المقياس الأبرز في تلك المقارنات، ومن هذا “الثقافي” تشمخ الثقافة المكتوبة، أولاً، وتليها الثقافة الشفاهية، ثانياً: بمعنى أن الأبعاد المعرفية، لهذه الحضارة أو تلك، تنطلق أولاً من المخزون الثقافي بشقيه “الفلكلوري والعلمي المدون” وعلى هذا الأساس تميل بوصلة التنافس الحضاري في هذين البعدين، ومن هنا نفهم أهمية المكتشفات (الآركيولوجية) واهتمام غالبية الدول فيها، بل ويكاد يلحظ اشتراك أغلبية دول العالم في “نبش وتحقيق” تلك المكتشفات الأثرية، للعهود القديمة، ولا سيما تلك التي وجدت في بلاد ما بين النهرين “حضارة سومر” وبلاد وادي النيل “الحضارة الفرعونية” إذ أن هذه المكتشفات تـُظهر للعالم كيف كان “العالم القديم” يعيش حياته، ويسيـّر أمور معاشه، ويسجل تاريخ سلالاته، وتاريخ شعوبه، وعلى أيّ أرضية يستند في ذلك التاريخ، وما هي سبل حفظ تلك المآثر، وكيف ظهرت “المدونات” بتعاقب الأزمان. إلى أن تتكشّف للباحث سبل حفظ ذلك التراث، وآليات، وأشكال الممارسات العملية في ذلك، حتى يتم الكشف عن “سر” حياة تلك الشعوب، لا سيما تلك التي احتلت مكان الصدارة – تاريخياً – في النمو الحضاري، وأثـّرت على بقية الحضارات التي توالت بعدها، أو تفاعلت معها، ونقصد بذلك حضارة سومر العريقة. وبغية فهم جدلية “السابق يفسر اللاحق” فإن المتواليات الحضارية لبلاد الرافدين، تستوقف الباحث، الذي يروم البحث عن التواصل الثقافي، بين حضارة سومر (القديمة) وحضارة العراق ( الحديثة ) والتأثير المتبادل (ثقافياً) على الوسط الاجتماعي، باعتباره الوعاء الحامل لذلك التراث السومري، والمنطلق نحو الحضارة الإسلامية، حاملاً بطريقه، كل العلامات الدالة على النضج في المجال الثقافي، عبر كل الحقب التاريخية المتوالية، التي أنجبت ذلك الشعب، وأعطته هويته الثقافية، ومن ثم انطلق منها لاستكمال صيرورة البناء الحضاري، عندما استقرت الخلافة الإسلامية في العهد العباسي في بغداد، كعاصمة للخلافة، وكمركز ثقافي عالمي، يبدأ مرحلة جديدة من التطور والرقي في مختلف العلوم، الأمر الذي فرض قانونيته على ذلك الحامل الاجتماعي، لأن ينهض بالمسؤولية الثقافية، التي أنيطت به، بحكم التاريخ، وعليه أدرك هذا “الوسط” تلك المسؤولية، وراح يتفاعل مع حكم التاريخ، ليربط ثقافة تلك الفترة الذهبية بما سبقها من تواريخ، تمت لذات الحامل بصلة، وذلك من خلال إيجاد عملية “الوراقة” تلك المهنة الحضارية – الثقافية، والتي أوجدها -الوسط الاجتماعي – قبل أن يفرضها – الوسط الرسمي – ممثلاً بالخلافة العباسية، وهذا الأمر، يؤشر على مدى وعي “الحامل الاجتماعي” لمعنى الضرورة التاريخية في سياقها الحضاري، وبذا تكون هذه الالتفاتة بمثابة،، نقلة حضارية كبرى في تاريخ الثقافة العربية – الإسلامية، إذ سن هؤلاء الوراقين (سنة الثقافة) المكتوبة بكتاب جامع لكل فن من الفنون. ومن هنا ندرك أهمية هذا الإنجاز الثقافي، بشكل عام، على صعيده العالمي، وبشكل خاص على الثقافة العربية – الإسلامية.
فمن المعلوم أن صناعة الكتابة والكتاب تعد من أهم وأنفع الصناعات البشرية، عبر مختلف العصور، حيث يعتبر زمن اختراع الكتابة، هو الحد الفاصل بين العصور التاريخية وعصور ما قبل التاريخ.
وليس اعتباطاً أن يجري ربط (التاريخ الثقافي) للأمم بنشوء الكتاب، بحيث جرى استعمال وجود الكتابة باعتباره خطاً فاصلاً بين ما قبل التاريخ، وضمن هذا التفاضل التاريخي، يمكن النظر إلى تاريخ العراق في هذه القضية المحورية “تاريخ الثقافة” إذ أنه يمتلك إرثاً كبيراً، حيث أنه مهد الحضارات الأولى، ومبدع أولى الصيغ المتطورة للكتابة، ابتداءً “بسومر” وانتهاءً بالخلافة الإسلامية، كما أوضحنا أعلاه، وبغض النظر عن الانقطاعات الثقافية، فيما بين نشوء الحضارة في العراق وصيرورة الكيان العربي – الإسلامي، إلا أننا نستطيع أن نعثر على استمرارية خفية لما يمكن دعوته بـ “روح الكتابة” في هذه المنطقة من العالم، وليس صدفة أن تنشأ أولى المدارس اللغوية والخطيّة العربية في الكوفة والبصرة، يمكن القول بصيغة أخرى، أنَّ تاريخ الكتابة في العراق يتميّز بخصوصية فريدة.
وقد وجدت هذه الخصوصية انعكاساتها الكبيرة في “المرحلة العبّاسية” وهذه المرحلة، هي ليست فقط وريثة الخلافة الراشدية والأموية، بل وكل تراث المنطقة، الفارسي ، الهندي ، اليوناني ، السرياني… الخ.
لقد شكلت المرحلة العباسية الانعطاف الأكبر في توليف مختلف الثقافات وصهرها في بوتقة العربية الثقافية، وهو الأمر الذي أعطى للكتابة دورها المتميز في ترسيخ الإنجازات العلمية والأدبية، وإعادة إنتاجها من خلال نشوء فئة متميزة في الثقافة هي فئة الوراقين، ثم ظهرت فئة الخطاطين والمترجمين والمبدعين الآخرين في المجالات الثقافية الأخرى.
إنَّ نشوء هذه الفئات، يعكس في آن واحد متطلبات الثقافة وإعادة إنتاجها، إذ أنه حدد بدوره قيمتها التاريخية والعلمية من جهة، وأهميتها الأدبية والروحية والجمالية، من جهة أخرى.
إنَّ قيمتها التاريخية والعلمية، تقوم في حفظها الإنجازات الثقافية وإيصالها لنا، ليس فقط إبداعات الحضارة العربية – الإسلامية، وإنما أيضاً كتابات الفلسفة الإغريقية، والأدب الهندي والفارسي.
أمّا قيمتها الروحية والأدبية والجمالية، فتقوم في استلهامها البعد الحقيقي للثقـافة العربية – الإسلامية، باعتبارها ثقافة كلمة، فكلمة “قرآن” لها علاقة بكلمة قراءة “والحديث” له علاقة بالكلام. واللاهوت الإسلامي ارتبط بمفهوم الكلمة “الكلام”، والأدب، سواء في الشعر أو النثر، تفنّن بصناعة الكلمة، وكذلك الرسم والنحت، وفن العمارة، مرتبط وثيق الارتباط بالكلمة العربية.
ومهنة “الوراقة” أوجدت الإحساس الفني عند الورّاق، لا سيما في مسألة “الخط العربي” وتجويده، حيث صار مفهوم (حسن الخط) من الركائز الأساسية في عمل الوراق، الأمر الذي أفرز أنواعاً جديدة من الخطوط العربية، رافقت الوراقين في مهنتهم، ومن ثمّ برز نمط متخصص من الوراقين، استقل بفن الخط، وأصبح “الخط العربي” فناً قائماً بذاته، برز فيه أعلام مشهورين.
إضافة لذلك، إن مسألة “الاستقلال الفكري” هي من أهم عوامل وجود مهنة الوراقة وبقية أصناف الثقافة، حيث أن أغلب هـؤلاء كانوا من رجالات الفكر والفلسفة والأدب والدين واللغة، الأمر الذي فرض عليهم أن لا يكونوا تحت “بطانة” أحد، لذلك مالوا إلى ابتداع هذه المهن، لحفظ كرامتهم، من ناحية، وعدم الاعتماد في المعاش على مؤسسة حكومية، إضافة إلى نشر أفكارهم بعيداً عن أي تأثير أيديولوجي، من أي طرف كان.
كل ذلك يكشف عمّا للكتابة والخط والفنون الأخرى من أثر هائل في فهم الثقافة العربية – الإسلامية، ومن هنا، فإن دراسة تاريخ الخط العربي وتاريخ الوراقين والمترجمين والشعراء وغيرهم من الأصناف الثقافية، باعتبارهم الفئات الحاملة للمخزون الثقافي، يمتلك ليس قيمة عالمية مجردة، بل وعملية أيضاً، انطلاقاً من أن اللغة والكتابة والفنون هما كيانات حية. وعلى هذا الأساس، كان التفاعل الثقافي – عند هؤلاء المبدعين ومهنهم، يأخذ طابعاً تفاعلياً، بين الحرفية والإبداع، من جهة، وبين الوعي الثقافي والمسؤولية الشخصية، من جهة أخرى.
ومن هنا، تنبع أهمية العمل، هذا الذي قمنا برصده وجمع مادته وتحليله، وتوثيق مصادره، لمدة زادت على 35 سنة، من البحث والتنقيب، والمتابعة والتقصي، وتحقيق الخبر في مضانّه ومراجعه، وليس المسألة مجرد نزهة، كما يتصور البعض، بل هي – مسؤولية الكلمة – التي نقولها، أو ننقلها، على اعتبار، أن تاريخ الكلمة، هو تاريخ ثقافي، يحدد مسؤولية كل شعب من الشعوب، وهو بنفس الوقت، الأمانة التاريخية في وعي الباحث، لتتبع مسار الكلمة الصحيحة، عبر كل المطبات والمنعطفات، في كل مرحلة. وعلى أساس من هذه الأمانة التاريخية. كان مشوارنا في هذا الحديث، والذي أخذ كل هذا الوقت، إذ أن ظاهرة الوراقة والوراقين والترجمة والمترجمين، والخط والخطّاطين ، والفن والمغنّيين والفلاسفة ورجالات الفكر في الحضارة العربية – الإسلامية، هي واحدة من أبرز المعالم في المدنية والتحضّر التي أفرزها العصر العباسي، وبدورها هي أفرزت تلك الفنون المتعددة، وأنبجست عن خواص ثقـافية أخرى، دلت عليها بالشاهدة والمكان، والأثر والعين، منها – المكتبات – وفن الزخرفة، والترجمة، والشعر والغناء وغير ذلك من أمور إبداعات الثقافة للكلمة المكتوبة.
ثم أن موضوع الدراسة الموسوعية هذه، يحمل بعنوانه (موسوعـة بغـداد الثقافية في العصر العباسي ) هو محاولة أولى وجادة في البحث الدقيق حول إيجاد دراسة متكاملة لبدء نشوء صناعة الكتابة وبقية فنون الأدب والفكر في الحضارة العربية – الإسلامية، وإثبات دليل معرفي، كمرجع تاريخي، يؤكد وجود هذه الظواهر، في التاريخ العربي – الإسلامي، يلم بكل الجوانب المعرفية وشواهدها، على أساس من البحث العلمي – الأكاديمي، وبنفس الوقت يشير إلى أناس كانوا هم صنّاع هذه الظواهر، باعتبارهم الأداة الأولى والأخيرة لوجودها، وبالتالي هم الشهود الحقيقيون على ذلك الوجود التاريخي في البعدين الزمني والثقافي، ناهيك عن فتح الآفاق لنظريات جمالية ومعرفية في فنون الخط والتجليد والتذهيب والترجمة والنقل، وأساليب الكتابة والتصنيف، ورسم المناهج في إعداد الكتب وطباعتها، على أسس دقيقة، لا تتغير في المعنى، بل تزيد التركيز على الفكرة المعرفية، رغم اختلاف الأساليب وتعدد الوسائل، فلقد أوجدت مهنة الوراقة – على سبيل المثال، عند الورّاق، الإحساس بالجمال معنى ورسماً وتدويناً، وخلقت له الألفة المحببة بين العين والحرف، حتى غدا التماثل بينهما شيء لا ينفصل، وكذلك الأمر عند المترجمين من اللغات الأخرى الى لغتهم العربية .
* هدف العمل:
تهدف هذه الدراسة الموسوعية إلى تسليط الضوء على ظاهرة الوراقة والوراقين، والترجمة والمترجمين، والشعراء والمغنين، والفلاسفة والمفكرين- رجالاً ونساءً – ودورهم في الحضارة العربية الإسلامية، والدور التاريخي الذي اضطلعوا به، باعتبارهم صانعي أسس الثقافة العربية – الإسلامية، على الصعيد المهني والثقافي والإنساني، وبنفس الوقت الإشارة إلى المراكز الحضارية الإسلامية التي تبرعمت بها هذه الظواهر الثقافية، بدءاً من بغداد كعاصمة للخلافة العباسية، وانتشارا الى دمشق والقاهرة واشبيلية وبلاد فارس وبقية أطراف الخلافة الإسلامية، الممتدة بين حدود الصين شرقاً وأقاصي الأطلسي غرباً، مارّة بتأثيراتها على كل الإثنيات والأعراق والثقافات المتواجدة في تلك الأماكن الجغرافية، لذلك هذه الدراسة – الموسوعية – تنطلق من بغداد إلى أن تصل إلى تلك البقاع أو الأمصار الإسلامية المذكورة، لتؤشر بشكل إيجابي على النهوض الحضاري، في تلك الأماكن، رافدة كل ثقافات تلك البلدان “الأمصار الإسلامية” بمنهج معرفي يعلمهم أسلوب “صناعة الكتابة والكتاب وفن الخط والتزويق، وإبداعية الترجمة، وتعليم المنطق الفلسفي” وفق شرائط مهنية وإبداعية يظهر فيها التأثير الإسلامي واضحاً، من الناحيتين العقائدية والحضارية، وبنفس الوقت يبين دور الإنسان المبدع في عملية الخلق الثقافي، في شروط زمنية واجتماعية محددة، رغم اختلاف ظرفي الزمان والمكان، من بلد لآخر، ومن شخص لسواه، ولكن يبقى القلق المعرفي هو الخيط الرابط بين كل هؤلاء المبدعين، مبدعي هذا العمل الحضاري، المؤثر والفاعل في ثقافة العرب والمسلمين في العصر الوسيط، وامتداد تلك المؤثرات على آننا الحالي، وحتى هذه اللحظة.
ومن أجل بلورة الغاية والهدف المعلن أعلاه، وضعنا المهمات التالية نصب أعيننا، بغية إضفاء الصدق والشرعية التاريخية للعمل.
1- تحليل ماهيّة العمق الحضاري – السومري – البابلي، وامتداداته التاريخية في الوعي والصيرورة الاجتماعية على مناطق العراق وشبه الجزيرة العربية، وبلاد الشام، وكيف بدأت تلك الحضارة الرافدية، بوضع الخطوات الأولى لصناعة الكتاب والكتابة، كمؤشر حضاري لإنسان البيئة تلك ، بـدأ بوضع أفكاره الأولى على الطين، وأهمية وجود الإبداع في عقله، في المسالة الثقافية، كي يوصل حضارته إلينا، مشفوعة بتراث هائل من المكتبات والرقيمات الطينية في مختلف العلوم الإنسانية، وليعطي بنفس الوقت المعنى الجوهري للإنسان، باعتباره سيد الخليقة، وعقله المميز على سائر المخلوقات، وعليه إثبات تلك الميزة، من خلال عمله الإنساني في كل مرحلة من مراحل التاريخ.
2- تحليل ماهية تلك الظواهر الإبـداعية، وأثرها في تطوير صناعة الكتاب وتطور فنون الخط العربي والتجليد والتذهيب، وبروز فن الزخرفة “الأرابسك” كمرافق لفن الخط والتزويق في بناء العمارة، ضمن الطراز الإسلامي العام، وضمن خصوصيته المحلية (خاص) في هذه البيئة أو تلك، وإعطاء نماذج معرفية لمختلف فنون الإبداع الفكري ، التي أغنـت كامل الحضارة العربية – الإسلامية حتى اليوم .
3- تقديم صورة جامعة عن الوراقين والمترجمين والخطاطين والمغنين والشعراء والأدباء ورجالات الفكر، ودور المرأة المبدعة، وأخلاقهم ومعاناتهم، وسلوكهم الاجتماعي والسياسي في تلك الفترة الزمنية، من عمر الخلافة الإسلامية في عصرها الذهبي – العصر العباسي.
4- دراسة الكيفية التي منهجوا على ضوؤها صناعة الكتاب العربي، وأسس الخط، والمعارف الموسيقية، والمنطق الفلسفي في الجدل، وتأثير الوعي الديني – الإسلامي في أخلاقية العمل الإبداعي، دون الإقـلال من الشرط المعرفي في الاستقلال الفكري .
5- الكشف عن دور وأهمية (سوق الوراقين) و ( بيت الحكمة ) في هذا البلد ، انطلاقاً من سوق الوراقين ببغداد، وموقع هذا السوق في الحياة الثقافية العامة. وما أثّـرت فيه ( مؤسسة بيت الحكمة ) عندما أصبحت مؤسسة عباسية – حكومية ترعى الإبـداع وتكافئ المبدعين على إبـداعهم .
6- البرهنة على ثقافة المبدعين الواسعة، وحسهم المعرفي العالي، وكيفية بناءهم الفكري، ودورهم في رفع الوعي الثقافي لدى جمهور الناس، ومن مختلف المشارب والملل.
7- إثبات الدور الحضاري لمهنة الوراقة والخط والترجمة والموسيقى والفلسفة والغناء في الثقافة العربية – الإسلامية، كإبداع أفرزه الوسط الاجتماعي، الحامل لتلك الثقافة.
8- إيجاد الدليل والبرهان القاطع على سعة الثقافة العربية، وتلاقحها مع بقية الثقافات العالمية (هندية ، فارسية ، يونانية) وذلك من خلال ” توريق وترجمة” كتب تلك الثقافات إلى الثقافة العربية – الإسلامية.

المرحلة المتناولة في الدراسة:
يؤرخ موضوع الدراسة الموسوعية إلى فترة ظهور مدينة بغداد كعاصمة للخلافة العباسية سنة 145هـ / 757م، إلى سنة سقوطها على يد المغول – التتار سنة 656هـ / 1258م، كمفصل رئيسي وأساسي، إلا أن مديات البحث امتدت إلى نهايات القرن 14هـ / 20م، حيث ظهرت هناك – في بعض الأمصار الإسلامية، (الأندلس ، مصر ، فارس)، استمرار للتعاطي مع هـذه الاختصاصات الثقافية، رغم سقوط الدولة العباسية، وبداية النكوص الحضاري للثقافة العربية – الإسلامية .
وهذه الفترة – لا سيما الأولى منها – شهدت أوج الازدهار الحضاري، على يد الخلفاء الأكفاء من بني العباس، من أمثال (أبو جعفر المنصور 138 – 158هـ / 750 – 790م)، وهو باني مدينة بغداد، و(هارون الرشيد 170 – 193هـ / 782 – 805م) ثم ابنه (عبد الله المأمون 198 – 218هـ / 810 – 830م)، وهؤلاء الخلفاء، كانوا ميالين للثقافة والعلوم، الأمر الذي أعطى دافعاً قوياً لتطور مختلف العلوم والفنون، إذ تطورت الوراقة وصناعة الورق في بغداد ودمشق والقاهرة المعزية – أيام الفاطميين – لا سيما الخليفة المشهور (المعز لدين الله الفاطمي) وكذلك تجاوبت الأندلس الأموية، مع هذا الإيقاع المتصاعد، حتى غدت إشبيلية المنافس الأرأس لبغداد في الوراقة والتوريق، حيث لعب الخلاف السياسي بين الدولتين (الأموية والعباسية) دوراً أساسياً في تطوير صناعة الكتاب، وثقافة الكلمة، إذ كانت إشبيلية تستقطب كل وافد إليها من أهل المشرق، لا سيما أصحاب الإبداع في الفن والكتابة.
مستوى دراسة البحث:
إنَّ موضوعاً حضارياً – ثقافياً، كموضوعات هـذه الموسوعة ، هو موضوع عالمي، يخص كل شعب من الشعوب أو أمة من الأمم، وهو بنفس الوقت، موضوع يخص الحضارات العالمية المختلفة.
والمتتبع للحضارات القديمة، (كالسومرية والبابلية والأكادية والفرعونية والإغريقية والصينية) يتلمس تلك الكتابات، التي كانت تكتب على الطين والرقم، أو أوراق البردي والخشب، وعلى الصخور، والرقوق ولحاء الأشجار، وغيرها، بغية حفظ تراث تلك الحضارات، وهو ما وصل إلينا عبر الدراسات الآركيولوجية.
وتعد الحضارة الفرعونية (الألف الرابع قبل الميلاد) أقدم الحضارات التي اكتشفت ورق الكتابة من قصب البردي، والتي ما تزال آثارها قائمة حتى اليوم في مصر، وتجدر الإشارة هنا، إلى أن الفينيقيين (الألف الثالث قبل الميلاد) والذين سكنوا الساحل الشرقي للبحر المتوسط، قد توصلوا إلى إيجاد “أول أبجدية” للغتهم، ونشروها في كل بلدان حوض المتوسط، وحفظوها بسجلاتهم، وأودعوها في مدينتهم الخالدة (قرطاجة ).
وعندما انبثق الإسلام من الجزيرة العربية، كانت مؤثرات بيزنطة وبلاد فارس، واضحة على تلك المنطقة العربية، ناهيك عن وجود الديانات السماوية فيها من “يهودية ومسيحية” وهذه المسألة تفرض على العرب والمسلمين تحدٍ حضاري وعقائدي، يفرض وجوده بين تلك الثقافات، باعتباره ديناً جديداً، خاطب العرب بلغتهم، فقد كان “القرآن” كتاب العرب والمسلمين الأول، لذلك ارتبطت به اللغة العربية أيما ارتباط، بحيث أصبح هذا الترابط، يشكل وحدة عضوية متكاملة لا تعرف الانفصال ولا التجزؤ، لذلك نص اهتمام المسلمين الأوائل على جمع القرآن وتدوينه، وشكلت عظام الجمال وأوراق سعف النخيل وجلود الحيوانات والرقوق، المواد الأساسية الأولى للتدوين.
عندما أمر الخليفة الراشدي الثالث عثمان بن عفان (23 – 31هـ / 648 – 655م) بأن يجمع القرآن من صدور الرجال “الحُفّـاظ” وأوكل تلك المهمة الجليلة والخطيرة إلى (زيد بن ثابت) وهو صحابي، من الرعيل الأول للمسلمين، وأول كاتب للوحي عند الرسول محمد (ص) وبذا يكون هذا الصحابي هو أول ورّاق في الإسلام، يقوم بهذه المهمة، حيث قام بوضع منهج خاص لوراقة القرآن، اعتمد الأمانة العلمية مبدأ أساسياً، ثم الوضوح في الخط، والتوقف عند الفواصل الواجب التوقف عندها، ولذلك سار كل من جاء بعده على نفس المنوال، من الصحابة المسلمين، الذين تفرغوا لنسخ المصاحف القرآنية.
وعندما تطور المجتمع العربي – الإسلامي، إبان الخلافة العباسية، أصبح من الضروري فهم الفلسفة اليونانية الوافدة على المجتمع العربي – الإسلامي، الأمر الذي أبرز الحاجة إلى وجود تراجمة يحولون اللغة اليونانية إلى اللغة العربية، وما رافق ذلك من تطور ثقافي، فرض وجود الوراقين، لنسخ الكتب المترجمة، وإيجاد المتخصصين بذلك الفن. ويعد ابن النديم، وهو من أشهر الوراقين في العصر العباسي، أول من صنف كتاباً يتطرق لسيرة هؤلاء العلماء والأدباء والفلاسفة والمترجمين والوراقين، بكتابه الهام “الفهرست” وهذا الكتاب – الفهرست – يعد أول التفاتة ذكية في وضع المعاجم لتراجم الرجال في الثقافة العربية – الإسلامية، ثم جاء بعده وراقاً ثانياً اسمه “ياقوت الحموي” ليضع موسوعة أكبر وأضخم من “الفهرست” لحياة هؤلاء العلماء اسمها “معجم الأدباء” أو “إرشاد الأريب لمعرفة الأديب” وهذه الموسوعة تقع في عشرين مجلداً، ضمـّنها الكثير من تراجم الوراقين والعلماء والأدباء والفلاسفة وغيرهم.
وعلى الصعيد المهني لحرفة الوراقة، كممارسة وإنتاج للإبداع، تصدى الفقيه (الشيخ عبدالباسط بن موسى بن محمد العلموي / توفي سنة 981هـ / 1593م) لموضوعة منهجية الوراقة، ضمن الرؤية الإسلامية، وذلك في كتابه المعروف بـ “المعيد في أدب المفيد والمستفيد” وتحديداً في الباب السادس من الكتاب، وظلت هذه المقالة من أقدم وابرز ما كتب في الموضوع الوراقي، في الثقافة العربية – الإسلامية. ثم جاءت مقالة الباحث (حبيب زيّات)، والتي حملت عنوان “الوراقة والوراقون في الإسلام” والمنشورة في مجلة “المشرق” البيروتية، الصادرة عام 1947م، وهي واحدة من أمتع الدراسات في هذا الموضوع، إلا أنها قصيرة لا تتجاوز 16 صفحة، إذ كانت بمثابة عرض مقتضب لبعض سيرة حياة الوراقين المعروفين، وبعض ما يعانوه في مهنة الوراقة.
أما على صعيد الكتـّاب الأجانب – غير العرب – والذين كتبوا حول صناعة الكتب والورق والمكتبات، بشكل عام، في حضارة العرب وثقافتهم، دون التوقف الدقيق لمعرفة أسرار مهنة الوراقة في الحضارة العربية – الإسلامية، فيمكن ذكر الأسماء التالية من الباحثين:
1. R.S. Mackensen:
“Four Great Libraries of Medieval.
– Baghdad the library quarterly – 2/1930N° 3-p 279 – 292
2. F. Milku – j-: “Handbuch der bibliothek, swissensch aft 1955.
3. J. Gerny: peper and books in Ancien Egypt. London 1952.
4- ويعد كتاب “يوهانس بيدرسون” المسمّى (الكتاب العربي – منذ نشأته حتى عصر الطباعة) ترجم وطبع بدمشق 1989م، واحداً من أهم الدراسات التي استعرضت بعض أدوات الكتابة والطباعة، إلا أنه لم يتوقف مع ظاهرة الوراقة والوراقين، بشكل دقيق، من حيث المنهج والأسلوب، وهو معذور بذلك، فربما أشكل عليه بعض خوافي وأسرار اللغة العربية.
5- ثم يأتي د. الكسندر ستيبتشيفݘ، أستاذ علم المكتبات والكتب في جامعة زغرب في يوغسلافيا، بكتابه الهام (تاريخ الكتاب) والمترجم إلى العربية في عام 1993م، حيث ذكر في الفصل السادس من الجزء الأول بعض مراحل الكتابة العربية، لا سيما في الأندلس، بعد فتحها في عام 711م من قبل عبد الرحمن الداخل، أول خليفة أموي فيها، إذ سلط الضوء على ازدهار المكتبات، ومعرجاً بنفس الوقت على (بغداد) في القرن 9م / 3هـ، مشيراً إلى تطور صناعة الكتاب العربي على القوالب الخشبية، لا سيما في مصر، ولو أنه اطلع على كتابي: ابن النديم وياقوت الحموي، المذكورين أعلاه، لكان توسع كثيراً في موضوعة “الكتاب العربي” ولكنه على ما أعتقد، ووفق ما أخبرني – مترجم كتابه أعلاه – د. محمد الأرناؤوط – وهو خريج يوغسلافيا، بأنه لم يعرف اللغة العربية! وهذا الإشكال يصعب على الكثيرين إنجاز مهمتهم المعرفية بصدد صناعة الكتاب العربي.

* مناقشة علمية مع ستيبتشفيݘ وبعض المستشرقين:
ينطلق البروفيسور “الكسندر ستيبتشفيݘ” مؤلف كتاب “تاريخ الكتاب”(1) من أن تاريخ الكتابة يبدأ من السومريين(2) حيث أن الشواهد على الكتابة السومرية تظهر على الرقم الطينية الصغيرة التي نقشت عليها “الكتابة التصويرية” والتي تعود إلى منتصف الألف الرابعة قبل الميلاد، ويضيف: “وربما يكون السومريون قد بدأوا الكتابة قبل هذا التاريخ، على مواد أخرى ذات تركيبة عضوية، وأن تكون هذه المواد قد تحللت وتلاشت للأبد” لكنه يضيف عبارة أخرى، يخضعها إلى “الشك المنهجي” الذي يحكم تصوره، باعتباره أستاذ علم تاريخ الكتاب والمكتبات في جامعة زغرب في يوغسلافيا(3) حيث يورد هذا الشك في العبارة التالية: “ومن المحتمل أن لا يكون السومريون هم أول من توصل إلى تطوير الكتابة، كوسيلة جديدة للتواصل، أي أن يكونوا قد أخذوها عن شعب آخر غير معروف، كان يعيش قبلهم في الجزء الجنوبي من بلاد الرافدين” ويضيف أيضاً: “وربما تجدر الإشارة إلى الفرضية الجديدة التي تقول أن السومريين قد تعلموا الكتابة من أحد الشعوب التي كانت على ضفاف نهر الدانوب” وقد أصبحت هذه الفرضية مقبولة أكثر منذ أن تم العثور في عام 1961م على الرقم الطينية التي تعود إلى العصر الحجري في منطقة تاتاريا برومانيا، فالتشابه بين الإشارات الواردة في هذه الألواح وبين أقدم الكتابات التي خلفها السومريون واضح للغاية”..
ويضيف: “ولذلك فلقد استخلص علماء الآثار أن هذه الإشارات بالإضافة إلى الكثيرين من أمثالها، التي تم اكتشافها قبل وبعد 1961م في ضفاف الدانوب، قد نشأت تحت تأثير الحضارات الكبيرة للشرق الأوسط، إلا أن نتائج التحاليل (الراديو كربونية) قد فاجأت وحيرت الخبراء، لأنها أوضحت أن تلك الإشارات من ضفاف الدانوب أقدم بمئات السنين من أقدم الرقم السومرية”(4) .
ونحن نرى أن “الشك المنهجي” من حق كل دارس أن يأخذ به، لا سيما إذا كان قد اعتمد على نتائج خبراء مختصين من الآركيولوجيا أو غيرها، لكن مسارات تطور تاريخ بلاد سومر، أيضاً يشير إلى مدى التأثير العالمي، الذي أحدثه السومريون على باقي شعوب الأرض – في تلك الحقب الغابرة – هذا أولاً، وثانياً، أن مركز العالم الحضاري كان في بابل، وهذا يعني أن انتقال لغة الكتابة السومرية، بحروفها المسمارية وارد جداً، فلربما نقلها سومري أو غيره من بابل إلى تلك البقاع النائية عبر البحر المتوسط، ولربما وقع أسير بابلي بيد أحد الأعداء، وهناك علّم أهل الدانوب أو غيرهم تلك الكتابة، وتاريخ المكتشفات الأثرية، منذ بدء عمليات التنقيب الآركيولوجية، كلها تشير إلى “أن التاريخ يبدأ بسومر” وعلى هذا الأساس، كان شك الخبراء الذين حللوا تلك الإشارات بواسطة “التحاليل الراديو كاربونية” ولو كانت للدانوب حضارة سابقة على بلاد سومر لما خفيت على علماء الآثار، وعلى أساس صحة التاريخ وقدمه، يعترف ستيبتشييفݘ في نهاية مقالته “بأن السومريين هم أول من ابتدع الكتابة التصويرية، ثم طوروها إلى نظام كتابي تضفي عليه السمات الصوتية”(5) .
إحالات مصدرية :
1- صدر الكتاب بترجمة د. محمد الأرناؤوط – ضمن سلسلة عالم المعرفة الكويتية، تحت رقم 169 و 170 في رجب 1413هـ / يناير – كانون الثاني / 1993م.
2- المصدر أعلاه / ص12.
3- أنظر مقدمة المترجم للمصدر أعلاه.
4- تاريخ الكتاب / ص12.
5- المصدر نفسه / ص13.
* * *
أما المستشرقين الروس، والذين انتبهوا إلى صناعة الكتاب العربي والورق في الحضارة العربية – الإسلامية، فيسجل السبق في هذا الميدان إلى المستشرق الروسي الكبير ” آ . غ كراتشكوفسكي” وهو مخضرم من العهدين – القيصري والسوفيتي – حيث كان أول من ترجم القرآن إلى اللغة الروسية، واهتم بالأدب العربي أيما اهتمام، وهو بهذا يكون قد فتح الباب أمام المستشرقين الروس للدخول إلى الثقافة العربية – الإسلامية. أما أهم باحث روسي من المستشرقين كتب عن الخط والمخطوطات العربية، والذي لامس بشكل قريب موضوع الوراقة فهو (البروفسور الراحل خاليدوف (A. B Халидов باللـّفظ الروسي- من معهد الاستشراق في سان بطرسبورغ، بمقالتيه – باللغة الروسية، الأولى بعنوان “الثقافة الكتبية” والمنشورة بكتاب “دراسات في تاريخ الثقافة العربية” والمطبوع بموسكو عام 1982م. ومقالته تحت عنوان “المخطوطات والكتب في الثقافة العربية.
والمنشورة في كتاب “مخطوطات الكتب في ثقافة الشعوب” الصادر من معهد الاستشراق في موسكو عام 1987م، ثم تليه المستشرقة الروسية “ي. ن ميشيرسكايا”. بمقالتها “مخطوطات الكتب السورية” والمنشورة بنفس الكتاب السابق أعلاه والصادر من معهد الاستشراق في موسكو، وقد يسَّر لي الوقت للالتقاء بها في إحدى الندوات العالمية حول الثقافة العربية، إذ كانت من المشاركات، ثم تأتي – ثالثاً – المستشرقة الروسية “ل . ف ديمتريفا” بمقالتها “المخطوطات من الكتب – التركية والعربية” والمنشور بنفس المصدر أعلاه. ومن الجدير التأكيد عليه (هنا) أن مقالتي خاليدوف، هـما من أكثر الدراسات عمقاً وتحرياً في بعض جوانب صناعة الكتاب العربي (كمخطوط) وكان حري به أن يطور تلك الدراسات في كتب مستقلة لا دراسات منفردة ضمن كتاب مشترك، وكان قادراً على ذلك، إلا أن – رداءة الأحوال الثقافية في روسيا – بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، كان عائقاً كبيراً لنشر أي ثقافة عربية – إسلامية في روسيا الاتحادية.

الجديد في البحث:
إن متابعاتنا الدقيقة والحثيثة لموضوعة صناعة الكتاب العربي والخط والترجمة وبقية الآداب والفنون، أو ما في الحضارة العربية الإسلامية، ومقارنة بكافة دراسات المستشرقين والمختصين في الثقافة العربية، حول هذا الموضوع نقول بثقة عالية: إنَّ دراستنا هي أول دراسة في العالم العربي والإسلامي تتصدى لموضوع (صناعة الكتاب العربي) بكل جوانبه، التاريخية والعلمية والفنية والمهنية، بدءاً من التبرعمات الأولى في المساجد وبيوت العبادة، إلى تطور الظاهرة الوراقية إلى أن تتخذ لها أسواقاً خاصة في المدن العراقية أولاً، مثل بغداد والبصرة والكوفة وواسط، ثم انتقالها إلى بقية الأمصار الإسلامية، على نفس الإيقاع والوتيرة. وقد قمنا برصدٍ دقيق لهذه الحركة الثقافية، ومتابعة الوراقين في كل صغيرة وكبيرة، في حياتهم المهنية والشخصية، ومن ثم استطعنا أن نكشف ونثبّت في البحث، مسار (تطور الخط العربي)، على يد هؤلاء، وإبداعاتهم في توليد خطوط أخرى، تساعدهم في عملية فن الوراقة، لا سيما ابتداعهم خطاً يسمى الخط الوراقي حيث كان هذا هو السائد في نسخ الكتب، وهو أقرب شكلاً من الناحية الفنية، إلى خط النسخ المتداول – آنذاك. مع التوقّـف الهام لمسألة ( النقل والترجمة ) وما أضافته للفكر العربي – الإسلامي ، وتطوراته بتلك الفترة، مع تسليط الضوء على بقية النشاطات الثقافية الأخرى الموجودة في بنية العمل في هـذه الموسوعة.
ثم أننا كشفنا لأول مرة عن “المنهج المعرفي” لفن الوراقة في الثقافة العربية – الإسلامية، حيث لم يهتد إليه أحد قبلنا، لا من العرب ولا من المستعربين، وقد أوضحنا بجلاء المراحل الزمنية لتطور هذا المنهج الدقيق في ظاهرة الوراقة، إذ أن هذا المنهج، مر بثلاث مراحل تاريخية، يتوجب الإشارة إليها، وهي: أولاً ظهرت الوراقة على شكل “مجالس إملاء” حيث كان الشيخ أو الأستاذ، يلقي محاضرته، ويبدأ “الوراقون – النساخ” بكتابتها مباشرة عنه، وكان هؤلاء يسمون “المستملون” ومفردها مستملي، والناتج يسمى “أمالي” كما هو معروف عن “أمالي القالي” وغيره.
والمرحلة الثانية، هي مرحلة “النسخ والمقابلة” حيث أصبحت مهنة الوراقة تتطلب المطابقة الحقيقية على أصل المخطوط، وبمصادقة المؤلف والقراءة عليه، فصلاً فصلاً، وعند الانتهاء من ذلك، تؤخذ موافقته العلنية وأمام الناس وداخل المسجد، ويكلف شخص أو أشخاص محددين، يسميهم المؤلف ويعطيهم “الإجازة” ويشهد الناس عليه بذلك.
أما المرحلة الثالثة، في مسار حركة تطور صناعة الكتاب، فإن مهنة الوراقة أوجدت في مسارها ما يعرف بـ “منهج التخصص بالوراقة” وهي المرحلة الأكثر نضجاً، في العملية الإبداعية للوراقين، حيث صار الوراق الناسخ، يتخصص بفن من الفنون، وينسخ به فقط، كالشعر أو النثر أو اللغة أو الحديث النبوي، أو التاريخ أو الفولكلور، أو الفلسفة، أو غيرها من بقية فنون الإبداع، وقد أضيف إلى هذه المرحلة تقيدات كثيرة على الوراقين، حيث توجب على الوراق أن يكون “عالماً” بتخصصه، أي أن يكون – ناقداً – وهنا ظهر مبدأ “الحاشية” في التوريق، لتوضيح ما يقع فيه – المؤلف – من أخطاء نحوية أو لغوية أو عروضية وصححها الوراق بيده، وهذا إبداع ثقافي، أضفى حالة من الرقي المعرفي على تقاليد الكتابة العربية الإسلامية. إذ بهذه العملية حافظ الوراقون على الأمانة العلمية، في عملية النقل من الأصل – المخطوط.
موضوعات العمل:
كأي عمل موسوعي، لا بد لموضوعاته أن تكون بارزة وواضحة، لأن الباحث يهتدي بسير عمله، أثناء البحث، وهذا يعني، أن “مخطط الموضوعات” قد أعد سلفاً، ضمن الرؤية المنهجية للعمل، ولكن هذا “المخطط” يخضع إلى الحذف والإضافة، والنقصان والزيادة، بحكم طبيعة العمل المبحوث فيه، لأن سير العملية يؤكد أفكاراً جديدة، تستوقف الباحث لأن يدرجها في عمله، ومن ثم يخصص لها أبواباً وفصولاً، وهو الأمر الذي (حدث) معنا أثناء بحث هذه الموسوعة، هذا من جهة ومن جهة ثانية، أملت علينا “الثقافات المتعددة”، ونحن ننتقل من بلد لآخر، أن نجد مسوغ المقارنات النقدية، في ذات الموضوع، مع تلك الثقافات، حيث واجهتنا عدة أسئلة حول الموضوع، لا سيما ونحن – ندافع عن تلك الأطروحة – في روسيا الاتحادية، وبالتالي أصبحت الزيادة المفروضة على العمل من صلب الموضوع، فشغلت الحيز الخاص بها، في جسم الموسوعة، ناهيك عن التقاط بعض المضان، التي كانت غائبة عنا، أو صعوبة الحصول عليها، هنا وهناك، لا سيما في البلدان الأوروبية، وهذا أيضاً فرض قانونية وجوده على العمل، وأمور معرفية أخرى، ومن هنا يلاحظ المتتبع ضخامة العمل، من حيث الحجم وكثرة العناوين الرئيسية والفرعية، حتى اكتمل هذا البناء المعرفي بعد 35 عام من الجهد والمتابعة والتحقق والتدقيق والقلق النفسي الرهيب، والذي كثيراً ما أقض مضاجعي – في أكثر من بلد – ولا زال هذا القلق كامن في الروح إلى أن ييسر الله له، فيطبع، واستريح من عناه، ولو أن الأمل ضعيف جداً، بأن يخرج إلى النور، ولكن الأمل باق.
وعلى العموم، تمركزت الموضوعات الرئيسية في هذه الموسوعة على عدة أجزاء، حيث بلغت (20 جزأً) كلها موضوعات تخصّصية ، وكل جزء يتمم الآخر، وهي موزعة على النحو التالي:
1- الجزء الأول: حمل عنوان : المقـدمة ، و المصادر والمراجع – فقط ، وهما نقطتان هامتان بالنسبة الى البحث الأكاديمي، حيث أننا في المقدمة، أشرنا الى البُعـد التاريخي والمعرفي في مسالة تطور الظواهر الثقافية التي حصلت في مسار التاريخ الثقافي للعراق، بـدأً من تراث سومر، ووصولاً الى العصر العباسي، وما تلاه من تـداعيات بعد سقوط بغـداد على يـد المغول والتتار عام 656هـ / 1258م ، واستمرار الحالة الثقافية عند مبدعي العراق بمختلف الفنون والآداب والمعارف .
أمـّا فيما يخص المصادر والمراجع ، المعتمدة في عمل هـذه الموسوعة ، فقـد تعمـدنا أن نضع مجموعة المصادر التراثية التي اعتمدنا عليها بشكل رئيسي ، بحيث أردنا من ذلك هـو إيقاف القارئ العادي والمختص والأكاديمي ، للوقوف على مقـدار الجُهـد المبذول ، ومعنى العودة الى مثل هـذه المصادر، من ناحية، ومن ناحية اخرى ، أردنا أن يطّلع القارئ على هـذا الكم الهائل من الكتب والموسوعات المعتمدة في انجاز العمل، حتى يعرف مسؤولية الكلمة المنقولة أولاً ، ولا يمر مرور الكرام على ( المتن ونصوصه فقط) كما يفعل الكثير من القرّاء ، بمعنى أردنا أن نلفت الانتباه الى مسألة التأصيل في بحوث التراث، وكيفية التعامل معها، من الناحية الأكاديمية، والتوقّـف قليلاً معها، كي نعطي تقييماً إيجابياً على ما نقرأ في مثل هـذه البحوث، وبالتالي كان التقسيم – في هـذا الجزء الأول – فقط على هاتين النقطتين .
* * * يتبع

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com