كيف كان هتلر يختار مساعديه
كيف يختار الديكتاتور رجاله …؟
بداهة لا يتقبل الديكتاتور رأياً يخالف رأيه بصفة جوهرية، أما إن كان يلمس فيه الإخلاص وفق قياسات معينة، فإن أقصى ما يمكن قبوله هي مقترحات تصاغ بدرجة عالية من المهارة اللغوية، وأن لا تنم للطاغية عن محاولة استصغار رأيه أو إظهار جانب ضعيف منه.
ويحاول رجال الصف الأول المقربين من الطاغية إسباغ صفات خيالية وحتى غير واقعية على شخص الديكتاتور، وأن سياساته هي عبقرية، ونادراً ما يضم هذا الصف رجال من ذوو المقدرة العلمية والقيادية، وإن حدث ذلك فبصورة استثنائية، والديكتاتور يقبل بوجود شخص حوله بشرط أن لا يمتلك ذلك الشخص أهليه بلوغ المركز الأول، أو أنه غير مقبول في إطار التوازنات الدقيقة التي تحيط بمنصبه، هذا المنصب الذي هو هاجس الدولة الأول، وليس أمن البلاد وسلامتها، ولا المصالح الحيوية، سلامة رئيس الدولة (الديكتاتور) وضمان استمراره في الحكم هب في قمة أولويات الدولة.
لذلك فإن اختيار رجال الحكم من الصف الأول هي عملية بالغة الأهمية والحساسية، وإذا كان توفر شروط مهمة كالكفاءة والتخصص، والخبرة في الإدارة، والذكاء والحنكة، لا تقع في المقام الأول، فهذه الصفات هي متوفرة بشدة في شخص الطاغية، والأفراد المساعدون مهمتهم الترويج لفكرة وحدانية القائد، وعظمته وعبقريته. وتشخيصه الصائب الدقيق للمشكلات، واكتشافه الرائع لعلاجها.
الطاغية يميل إلى تبديل الطاقم المحيط به، فالرعيل الأول هم مما رافقوا صعوده، وهم على دراية بخفايا نفسيته يوم كان في المراتب الثانوية، وقد عايشوه صغيراً يهتم بالصغائر، لذلك نادراً ما يستبقي منهم، بل هو يميل لاستبدالهم، وبعض هؤلاء القدامي يلقى مصيره بصورة مفاجئة في حوادث سير، أو عبر ترتيبات ملفقة ولا أحد يسأل عن نظافة أو قذارة أسلوب التصفية، فهذه من شؤون الأمن القومي.
وقد يستخدم الطاغية مثقفاً، أو ممن هو بدرجة أكاديمية رفيعة، ليظهر للناس أن حاشيته تضم خبراء وفنيين، في حين أن لهؤلاء وظيفة واحدة، هي منح التصرفات الطغيانية شرعية قانونية دستورية، وليحذر المثقفون من إبداء أراء عميقة قد تبدو غير مفهومة للطاغية الذي غالباً يكون على درجة متواضعة من الثقافة والعلم، فالطغاة مصابون بعقد وأمراض نفسية وبيلة من المثقفين والكوادر العلمية، ممن يعتمدون في صياغة آرائهم وفق النظريات العلمية والتجارب التاريخية، في حين يعتمد الطاغية على مزاجه وتقديره الشخصي للأمور، بل ومن غير المستبعد حتى على الأحلام والرؤى، والمصادفات.
نود أن نشير إلى مؤلف سابق لنا صدر عن دار ضفاف، يتناول بالضبط، تلك الحقبة المهمة والزاخرة بعبرها ودروسها من تاريخ ألمانيا المعاصر،” الاهداف السياسية في مرمى النيران ” القادة العسكريون والقرار السياسي، وفيه تحليل لدور ثلاثة من أبرز القادة الألمان: هاينز غودريان، فريدريش باولوس، وأروين رومل. وهذا التقرير يشير إلى دور المشير كايتل في أوساط هتلر من الضباط في القيادة العامة للقوات المسلحة.
محضر محادثة
أكتشف في موسكو وجود بروتوكول (محضر لمحادثة) بين أدولف هتلر (ديكتاتور ألمانيا)، وبين الفيلد مارشال / المشير فيلهام كايتل رئيس الأركان العامة للجيش الألماني. حزمة من الأوراق الغير مثيرة للأهتمام، فيها هتلر يشتم هيئة أركانه.
وفي النظم الديكتاتورية، التقرب من الديكتاتور هو أمر محفوف بالمخاطر في كافة الأحوال، فالعمل بإخلاص معه قد لا يكفي للأخير، كما أن التناقض مع الطاغية بدوره خطير، أما في حالة سقوط النظام فإن كل شيئ سيضيع تماماً.
وفي محضر (البروتكول) الذي جرى تسجيله في أيلول / 1942 يظهر لماذا أحتفظ هتلر برئيس أركان الجيش الألماني الفيلد مارشال / المشير فيلهام كايتل حتى نهاية الحرب في نيسان / 1945، وحيث لم يكن ممكناً بعد ذلك التقدم بمقترحات. لهذا كان سائر الجنرالات يعتبرونه (كايتل) من المقربين والمخلصين لهتلر.
والوثيقة موضوعة التقرير التي كانت من موجودات الأرشيف المركزي للجيش ووزارة الدفاع السوفيتية (CAMO)في بلدة بودولسك بالقرب من موسكو، حيث ما يزال يوجد ما لا يقل عن 28,000 من ملفات الجيش الألماني تضم نحو 2,5 مليون صفحة. وكان جنود الجيش السوفيتي قد قاموا على الأرجح بمصادرة خلال الحرب العالمية الثانية وبعد نهاية دولة الرايخ الثالث الألمانية.
ولم تكن المشكلة لتكمن في قلة الوضوح في أوامر الديكتاتور هتلر، بل وأكثر من ذلك في افتقادها للواقعية وللتناقضات التي كانت تنطوي عليها تعليماته. وحتى شهر نيسان / 1945 (وهو الشهر الذي شهد سقوط الدولة)، كان هناك نحو 103,000 صفحة من محاضر هي عبارة عن كلمات (أوامر وتعليمات وتوجيهات وخطب) وقد ضاع معظمها في خضم الاضطرابات التي سادت سقوط الدولة في نهاية الحرب.. ولم يكن بالامكان إنقاذ سوى 50 من تلك محاضر المحادثات. وظهرت عام 1962 في طبعة صالحة عن معهد التاريخ المعاصر والتي اعتنى بها الخبير هيلموت هايبر.
وفيما يبدو، أن الكثير من المحاضر لا تدور في محاضر المقر العام (مقره الرئيسي) تلك التي كانت تحدث مرتان في اليوم الواحد وكل منها يستغرق بضعة ساعات. هذا عدا عن اجتماعات أخرى مهمة، ومن تلك على سبيل المثال الاجتماع المفصل الانفرادي بين هتلر ورئيس الأركان الفيلد الماريشال / المشير كايتل في 18 / أيلول / 1942 والذي أستغرق منذ الساعة 15.30 وحتى الساعة 16,55 في بلدة فينزيا (Wunniza)الاوكرانية.
والمبادرة في ذلك (المحادثة) كانت من طرف المشير كايتل والمحادثة كانت سرية (بتشديد) لدرجة أنها لم تسجل في سجلات مكتب القيادة العامة للقوات المسلحة الألمانية. وحتى الآن لا أحد يمتلك المعلومات عما دار في هذا الاجتماع. والمشير كايتل الذي بسبب دوره في الحرب العالمية الثانية حوكم في محاكمات نورمبيرغ الدولية وشنق في تشرين الأول / 1946، لم يفصح عن تلك المحادثة. التقارير الآن تشير عن سبب عدم افصاحه عنها.
في هذه المحادثة أفتتح الفيلدمارشال الحديث ” يا زعيمي، أود الحديث عن قضايا العاملين (الموظفين)، والتي تتعلق جميعها بالأحداث التي جرت في الأسابيع القليلة الماضية ” . ثم ابتدأ بأقرب مساعديه الفريق الفريد يودل، رئيس هيئة عمليات الجيش الذي كان يندفع دائماً صوب الصدارة. (1)
أسهب المشير كايتل في الحديث عن الفريق يودل بغرض إبعاده عن مقر القيادة العامة. والسبب في طلبه وحديثه هو في الافتقار إلى الولاء قائلاً ” إنه لمن أقدس الالتزامات، لكل من يحوز على ثقتكم وعمل بالقرب منكم وبمعيتكم، عليه أن يعمل على إبقاء أي شيئ من هذا (الشك أو الافتقار إلى الولاء التام) بعيداً عنه “.
تلقى هتلر هذا العرض من المشير كايتل بأمتنان، وقال ” ينبغي أن أطالب الرجال العاملين حولي بالولاء مئة في المئة، وإذ فقد هذا الولاء فلا ينبغي أن نتوقع العمل والتعاون المشترك “. ومن الواضح أن محاولات كايتل في التقرب لهتلر قد ادت إلى طرد وإهانة الجنرالات الآخرين.
” هالدر ليس بوسعه أن يقرر شن الهجوم ب 200 رجل أو 100، أو بستة أفواج أو فرقتان “. كما قال المشير كايتل على سبيل المثال عن رئيس الأركان المخلوع تواً المشير فيلهم ليست، قائد مجموعة الجيوش (A) في جنوب الجبهة الشرقية، أنه قد لاحظ مؤشرات سيئة في قيادته، وكذلك كان المشير فيدور فون بوك قائد جيوش (B) طالب المشير كايتل برحيلهم وأضاف ” هناك رجل آخر يجب أن يمضي وهو الفريق ريتشارد روف ” . (2 /3 / 4)
وشملت مرحمة هتلر بغضبه، عدد قليل آخر من الجنرالات (من رتبة لواء ــ فريق ــ فريق أول ــ مشير) على سبيل المثال : الفريق أول فالتر مودل (المشير 1944) هو الرجل الوحيد الإيجابي الذي يبحث في الظروف الحرجة عن الحلول الممكنة. وكذلك الفريق أول (فيما بعد المشير) فريدريش باولوس قائد الجيش السادس الذي كان يقاتل في ذلك الوقت في ستالينغراد. وفيه كان هتلر يعتقد أنه الخلف الأفضل للمشير هالدر. وعن بلفريق أول باولوس بقول هتلر ” في نظري لا يحل سوى رجل واحد فقط، وأنا أثق بهذا الرجل والذي جمع بعناية تجاربه وهو الفريق أول باولوس “.(5 / 6)
هكذا كان هتلر معجباً بباولوس لدرجة أنه عبر تفصيلاً عن تعاطفه معه ” باولوس كان من طراز القمة من القادة والأول بينهم، ممن أعجبت بهم من ضباط الجيش الألماني. لقد كان في ذلك التمرين (تمرين نقل)، في منطقة أوبرفالتز. وفي نفس الوقت تأكدت ولكن بعد سقوط ستالينغراد، خيب باولوس ظنون هتلر فيه أبان محنة الجيش السادس، حين أختار باولوس الأستسلام على الانتحار في 31 / كانون الثاني / 1943.
وليست الكمية الهائلة من الملفات الألمانية لدى الأرشيف المركزي لوزارة الدفاع السوفيتية، ليست سوى جزء صغير منها يستحق مواصلة البحث فيه كهذا الذي بين أيدينا، وتقارير أخرى في التفتيش عنها ستنطوي على مفاجأت. (7)
ووجود هذا الجناح من الأرشيف لم يكن معروفاً إلا قبل سنوات فقط، ولم يتم الاستفادة إلا من عدد قليل من المجلدات. (المحافظ) ، وحالياً فقد قام معهد التاريخ الروسي (CAMO) , ومعهد التاريخ الألماني (DHI) في موسكو بتحويل الوثائق إلى رقمية (Digitalisation) والتي كان العمل في وثائق الحرب العالمية تدور ببطء شديد، وستطرحها على الأنترنيت ولكن من غير المؤمل أن ينتهي ذلك قبل عام 2018.
وقد نشرت من قبل الاختصاصيان في شؤون الحرب العالمية يوهانس هورتر، و ماتياس أوهل، من معهد (DHI) موسكو، في العدد الجديد من الفصلية (كل ثلاث شهور)، التاريخ المعاصر وثيقة خاصة على شكل تعليق. والأمر يدور حول الملف رقم 137 من الإضبارةة رقم 12450، والتي تضم غنائم القيادة العامة للقوات المسلحة الألمانية، والتي فيها وثيقة روسية سميكة وهذا الملف يتألف من 58 صفحة فقط، وصفت من جانب واحد وبعض التصويبات بخط اليد .
ولكن حزمة من الورق تبدو أحياناً تفتقر للوضوح، ويدور محتواها عن محضر محادثة هتلر مع المشير كايتل، بعد ما سمي في حينه ” أنهيار الطقس في فينيزا،”. هكذا يطلق المؤرخ العسكري بيرند فيغنر، بالمشاجرة الصعبة التي جرت في القيادة الألمانية بتاريخ 7 / 8 / سبتمبر ــ أيلول / 1942، ، حيث شعر هتلر بأنه مخدوع من جنرلاته، على سبيل المثال رئيس هيئة اركان الجيش فرانز هالدر.
وكان هناك رد فعل آخر، حيال الموظفين الموجودين في الخدمة منذ عام 1933 كموظفي اختزال، في البرلمان الأمبراطوري، أو في الرايخستاغ (Reistag)، أو في المقر العام لهتلر، قد تلقوا الأمر أن عليهم ، وتحديداً في هذا الوقت، أن يكونوا في أوكرانيا في المقر المسمى (وكر الذئب) في فينيزا. وعليهم ضبط محاضر أحاديث هتلر بحرفيتها، وبدقة تامة. وعلى هذا النحو كان الديكتاتور هتلر، الذي كان منذ زمن بعيد قد فقد ثقته في معظم جنرلاته، وأن يجعل أي محاولة للتحايل على محاضر الجلسات أمرً مستحيلاً.
ن يكونوا موجودين في أوكرانيا في مقر هتلر المسمى ()
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش
- كان لقب هتلر الرسمي (Führer) الزعيم.
- فيلهام ليست : فيلد مرشال (مشير) استلم قيادة عدة جيوش في الحرب، حوكم في المحاكمات الدولية وأدين بالسجن، وأطلق سراحه بعد عدة سنوات لمرضه..
- فون بوك : فيلد مارشال (مشير) أستلم قيادة عدة جيوش خلال الحرب، قتل أواخر أيام الحرب نتيجة قصف جوي.
- ريتشار روف (الفريق) قائد فيلق مدرع، أصيب بجرح بليغ في 1943، لم يعد بعدها للخدمة.
- الفريق أول فالتر مودل (المشير 1944)، قائد عدة فيالق في الحرب، لفترة قصيرة قائد الجبهة الغربية، أعتبره السوفيت مطلوبا بجرائم حرب، أنتحر ليتفادى الأسر.
- فريدريش باولوس: فريق أول، قائد الجيش السادس الذي أسر في ستالينغراد، رقي لرتبة المشير قبل أسره بأيام..
- مع معرفة كمية الوثائق التي أستولى عليها الحلفاء بعد أحتلال العاصمة برلين وهي لا تقل عن عشرات الأطنان من الوثائق، وقد صادر الحلفاء (السوفيت، الولايات المتحدة الامريكية، بريطانيا، فرنسا) هذه الكميات من الوثائق، كل بحسب ما توصل إليها، وقد استولى الأمريكان على كم غير قليل منها، ويشير مؤلف أمريكي (وليم شراير) أنه أطلع على أطنان من الوثائق الهامة التي تم الاستيلاء عليها.
تحرير : سفين فيليكس كيلرهوف : Sven Felix Kellerhoff