مقالات

الشيخ عبد الكريم الماشطة أحد رواد التنوير في العراق.

بيدر ميديا.."

الشيخ عبد الكريم الماشطة أحد رواد التنوير في العراق

محمد جواد فارس

من يريد الخبز والعمل والمدارس والمستشفيات والمصانع

بدلا من القنابل والمنشأت الحربية والقواعد العسكرية

فليصوت للشيخ عبد الكريم الماشطة”

انتخابات مجلس النواب العراقي 19

في كتابه عن الشيخ عبد الكريم الماشطة  يربط الاستاذ الكاتب الباحث أحمد الناجي جدلية المعرفة في تاريخ الشيخ الماشطة بين الماضي و الحاضر من أجل استشراف المستقبل للعراق. يتألف الكتاب من تسعة فصول ومقدّمة، إضافة إلى الملاحق و كذلك مصادر البحث (231 صفحة من القطع المتوسط).

في الفصل الاول يتحدث عن السيرة الذاتية للشيخ الماشطة وهو : عبد الكريم بن الحاج عبد الرضا بن الحاج حسين بن الحاج محسن الماشطة ، ولد سنة 1881 في أحد بيوتات محلة جبران في زقاق الجياييل بالحلة ، ومدينة الحلة كما معروف عنها مدينة العلم والعلماء والفكر والشعر ومن شعرائها صفي الدين الحلي . وتعرف الحلة أيضاً  بالتنوع القومي والديني و المذهبي و السياسي و الثقافي ، و قال عنه الدكتور علي جواد الطاهر : بأن مكانته – مع مكانة أسرته المحترمة في مدينة الحلة ، وكذلك جاء تقييم شاعر ثورة العشرين الدكتور محمد مهدي البصير إيجابياً جداً للمكانة الاجتماعية المرموقة لعائلة الماشطة ودورها في التعاضد مع المجتمع الحلي.

ويذكر الكاتب أن مدينة الحلة تعتبر من أكثر مدن العراق حافلة بالمجالس العامرة و الادبية الزاهرة حسب الشاعر البصير ، ومن تلك المجالس مجلس الشيخ الماشطة الذي تميز بكونه شعبياً مثلما تميز بدوره الفاعل في الحياة العامة و الحياة الثقافية و السياسية .

أقام الشيخ الماشطة علاقات واسعة و وشائج وطيدة مع ابناء المدينة ، وكان مجلسه حافلاً ببحث اهتماماتهم و شؤونهم المعيشية و قضاياهم الحياتية ، وتطلعاتهم نحو حياة حرة وكريمة ، وحسب الدكتور علي جواد الطاهر كان انشداد مثقفي الحلة الى الوطنية والافكار التقدمية من خلال التأثّر بكتابات سلامة موسى في بدايات القرن العشرين ، صارت كتبه من أروج الكتب، وتنبهت السلطة الى ذلك و شرعت تضيّق عليها وتحذر من رأي الماشطة.

سياسة متميزة

كان عقد الخمسينيات بالحلة حافلا بالنشاطات السياسية المتميزة ، وفي بدايته انضم الشيخ الماشطة الى حركة أنصار السلم ،ووظف أنشطته الاجتماعية و السياسية و الفكرية لتأسيسها في المدينة على وجه الخصوص ، وفي العراق عموماً كتيار تقدمي مناصر لقضية السلام في العالم ، وفي الوقت نفسه كان ظهيراً و مسانداً للقوى و الأحزاب الوطنية لتفعيل دور الجماهير في تحقيق أمالها و تطلعاتها في التحرر الوطني ، وبناء الحياة الديمقراطية و العدالة و المساواة .

قاد الشيخ الماشطة مظاهرة احتجاجية و كانت مسيرة غفيرة لم تستطيع الشرطة تفريقها عندما طلبوا منه تفريق التظاهرة رد الشيخ بتهكم بقوله ما معناه ( ما لكم قلقين من المسيرة اعتبروها زفة عريس ) وقد سلم الشيخ من الاعتقال ، ولكنه احيل الى القضاء، فتطوع “36”محاميا للدفاع عنه وعلى رأسهم :الأستاذ حسين جميل و الأستاذ مظهر العزاوي و الأستاذ توفيق منير ، وفي يومها لم ينظر الحاكم فريد فتيان الى اوراق الدفاع ، بل رد الدعوى و برأ الشيخ ، مستندا الى مادة قانونية عد فيها إجراءات الأجهزة الامنية بتفريق المظاهرة غير قانوني.

جرت الانتخابات في التاسع من حزيران 1954 بيد ان قلق السلطة جعلها تبذل قصارى جهدها للحيلولة دون مرشحي الجبهة الوطنية ، فلجأت الى عمليات التزوير والترهيب و الرشاوي ، وقد أشار بيان الجبهة الوطنية بعد الانتخابات مذكرا بالتدخل الحكومي السافر في الحلة ، والتجاوزات التي حالت دون وصول الشيخ الماشطة الى قبة البرلمان.

وبعد قيام ثورة الرابع عشر من تموز 1958 والتي احدثت تغيرات جوهرية بطبيعة المجتمع العراقي ، وامتدت مكتسباتها الوطنية الى أدق مفاصل الحياة ، وقف الشيخ الماشطة بثقل مكانته الاجتماعية و ثرائه الفكري وأنشطته السياسية مدافعاً عن ثورة الفقراء ، مساهماً بنشاطات حركة أنصار السلم ، إذ كان من ضمن تشكيلة المجلس الوطني لأنصار السلم في العراق ، وشارك الشيخ حميد سعيد الغاوي بإعادة إصدار جريدة “صوت الفرات “يوميا بالحلة في 16 مارس 1959 وكان الشهيد حسن عوينة رئيس تحرير جريدة صوت الفرات ، فسعى الماشطة بالتعاون مع بعض علماء الدين الى تشكيل جماعة علماء الدين الاحرار التي ضمت : الشيخ عبد الكريم الماشطة و الشيخ علي كاشف الغطاء و الشيخ محمد الشبيبي و الشيخ عبد المهدي مطر و السيد هادي فياض و محمد حسين المحتصر والسيد الطالقاني و القائيني والسيد جابر أغائي والسيد عبد الحسن المستلكو والشيخ الحجامي و السيد سعيد الحكيم و الشيخ مجيد زايردهام واخرين وكانت خطوة وطنية لضرورات المرحلة للوقوف ضد المخططات الخارجية .

وفي العهد الملكي فكر الشيخ الماشطة في إصدار مجلة العدل وحصل على الامتياز في اذار من عام 1938 و قد قامت السلطة المحلية بمصادرة العدد اليتيم الذي تضمن سبع مقالات ،جميعها محرره بقلمه تضمنت عناوين مهمة منها :العدل ، الحرية ،الغزالي و زكي مبارك ، الدعوة الإسلامية ، فوائد العقوبات الشرعية على الجرائم ، ترجمة ياسين الهاشمي ، حول كتاب الأستاذ ساطع الحصري بين الوطنية و الأممية . ولم يخف الدكتور علي جواد الطاهر مشاعر الفرح والغبطة عندما سئل عنها ، فقال “الشيخ عبد الكريم الماشطة وجه و طني جرئ” ، وقد أصدر مجلة بإسم “العدل ” والاسم ذو دلالة ، فرحنا بها ، وأبهجنا ما وراء حروفها من حس انتقادي للأوضاع ، كان الشيخ ينفذ إلى غايته من عناوين بدايات لا تبدو لها علاقة بقصدها ، وكان طبيعيا أن يصادر العدد ويمنع الشيخ من إصدار عدد ثان ” تقييم جدير بالدراسة لأنه يضم في طياته معاني كثيرة عن المفاهيم التي كتب عنها الشيخ الماشطة والتي ارعبت السلطات .

و قد شرح كاتبنا الاستاذ الناجي تلك المفاهيم بالتفصيل في كتابه ، وقد تعمق الشيخ في دراسته للصوفية ، وخاصة الاغتراب عند الصوفية ، بصفته دافعاً و محركاً مهما للمعرفة البشرية ، وتناول المنهج الإشراقي ، دراسة و تمحيصا في خمس مقالات بعنوان مبادئ الصوفية و حكمة الإشراق نشرها متسلسلة في أعداد مجلة ” الحكمة” التي أصدرها الشيخ رؤوف الجبوري بالحلة أواخر سنة 1930 وهذه المجلة بنظر الشيخ يوسف كركوش كانت تنشر مختلف المقالات في شتى المواضيع ، وبعضها يعتبر متطرفاً في نظر بعض الحكام، ومع ذلك لم يبد الأستاذ أحمد زكي الخياط متصرف “محافظ “الحلة أي استياء أو ضيق صدر، بل على العكس كان يشجع الأستاذ الجبوري على الاستمرار في عمله الصحافي ، ذلك أن الاستاذ الخياط كان يؤمن بحرية الفكر ، وأن للإنسان حرية الكتابة ضمن الــقوانين والأنظمة ” .

يذكر المؤلف الاستاذ الناجي أن الشيخ الماشطة قدم دراسة مستفيضة في سلسلة مقالات عن الصوفية ، متطرقا إلى عناصرها و أفكارها و مفاهيمها و موروثها ، وتأثيرها على المفكرين المسلمين ، فكشف بذلك عن ثراء معرفي وعمق فكري ، مكتنزاً سنوات مضنية قضاها في البحث و التقصي عن ينابيع معرفية ، نقلت الفكر إلى الواقع من خلال الانفتاح العقلي ، والانطلاق بعيدا عن متاهات الجدل الدائر لسنين طوال بين الجبر والاختيار ، و الأشعرية و المعتزلة .

 و نقل الشيخ الماشطة عبارة وردت في كتاب “المنقذ من الضلال ” للغزالي هي : إن الفلاسفة اخذوا علومهم الأخلاقية عن الصوفية و مزجوها بكلامهم للتجميل بها ” ويشير الماشطة في تقصيه عن جذور الصوفية إلى القول: مما لا ينبغي أن يرتاب فيه أن مصدر الفلسفة الصوفية في الإسلام هو الافلاطونية الحديثة وهي حكمة الإشراق أخذوها عن الفرس فلاسفة النصارى بالعراق ومصر وسوريا. ويقول الكاتب : وأقترن عرض الشيخ الماشطة لأفكاره ورؤاه بالغوص في بطون كتب الصوفية وعناوينها لتبيان واحدة من الدلالات على غزارة علم الشيخ الماشطة و اطلاعه في هذا الجانب المعرفي ، فاقتطف في مواضيع عديدة شذرات من كتب الغزالي :” إحياء علوم الدين ” والمنقذ من الضلال ” و” كسر الشهوتين ” و “ذم الجاه و الرياء “، و”الشكر ” ، و” أسرار الصلاة ” ، و”آداب تلاوة القرآن ” و “ترتيب الأوراد وإحياء الليل ” ، و” آداب السفر ” ، و”عجائب القلب ” .

ونلحظ أن الشيخ الماشطة تناول الصوفية من الحقل الفلسفي ، فهو لم يكن منطويا انعزاليا ، يعيش عوالم الزهد و التأمل ، بل اقتحم الحياة بكل تفاصيلها ، عنصرً فاعلا له متبنياته الفكرية ، وصاغ بالاستناد الى تلك المتبنيات مواقفاً و أراء و وجهات نظر تحليلية ونقدية ، لا يمكن تجاهل اثر الانتفاع من اشياء كثيرة من الصوفية في مسيرته الفكرية ، فهي بالتأكيد منحته القدرة على تلمس مقتضيات الحاضر بصيغة فاعلة باتجاه التطوير والتجديد بما يتوافق مع تحديات الزمن .

تجربة صوفية

وكان تعبير الصوفي عن نفسه في مقولة (أنا أريد أنا موجود ) في حين تكون التجربة الصوفية لدى الفلاسفة حال العقل ، كون العقل جوهر الانسان لديهم ، فيكون تعبير الفيلسوف عن نفسه ، وفق المبدأ الديكارتي ( أنا أفكر إذن فأنا موجود ) وهذا ما وضحه الكاتب الناجي مصيباً عين الحقيقة في سرده . ويتحدث كاتبنا عن دور الشيخ الماشطة ، عندما انتهت الحرب العالمية الثانية عام 1945 في التاسع من ايار ، وقدمت البشرية ملاين من البشر ، أصبحت هناك ضرورة لتشكيل منظمة تدعو للنضال من اجل السلام العالمي ، فقد تداعت شخصيات عالمية من عدد من كبار المثقفين ففي آب عام 1948 عقد مؤتمر في مدينة فروتسواف في “بولونيا “حضر هذا المؤتمر كبار المثقفين في العالم مثل الفيلسوف البريطاني جوليان هكسلي و عالمة الفيزياء الفرنسية أيرينا كوري والرسام العالمي بيكاسو و الشاعر الفرنسي بول ايلول و الكاتب السوفيتي أيليا اهرنبرك والارجنتيني جورج اماندو ، وكان العربي الوحيد الذي حضره هو شاعر العرب الاكبر محمد مهدي الجواهري ، وجرى في المؤتمر الحديث عن ضرورة تنظيم حركة للدفاع عن السلام و تحريم السلاح النووي ، و عقد الاجتماع التأسيسي لحركة السلم العالمية في براغ ” جيكوسلوفكيا ” سنة 1949  وحضره من العراق كل من : يوسف إسماعيل البستاني ، و خالد السلام ،وتوالت بعد ذلك المؤتمرات .

وفي بغداد تشكلت لجنة تحضيرية لأنصار السلام في شهر حزيران 1950 برئاسة محمد مهدي الجواهري ، وكان أغلب أعضائها من اليسارين المستقلين المعروفين ، وقد برز في واجهة قيادتها بعد حين كل من :عبد الوهاب محمود ،وأمين زكي ، والشيخ عبد الكريم الماشطة ، وكانت بدابة نشاطها جمع التواقيع لتأييد نداء ستوكهولم .

وجاءت استجابة الشيخ الماشطة سريعة لذلك النداء لأنه وجد فيه انعكاسا لأفكاره ، وتطابقا مع مفاهيمه وإنسانيته في نبذ الحروب ،وخفض التسلح ، وتحويل ثروات الشعوب نحو البناء ، ومعالجة الفقر والجهل و الأمية ، وتوفير الخدمات الاجتماعية للمواطن العراقي بصورة خاصة و للإنسانية بصورة عامة، ولم تكن أنشطته في دعم حركة أنصار السلام مقصورة بحدود تلك الاستجابة ، بل سعى مع الكثير من الوطنيين العراقيين لكسب الأصوات المناصرة الى (نداء ستوكهولم ) .

 وبعد ذلك اتسعت حركة أنصار السلم و زاد مؤيدوها ، و ضمت شخصيات وطنية من أعضاء الحزب الوطني الديمقراطي و حزب الاستقلال بعد ان كانت مقتصرة على الشيوعيين وأصدقائهم فقط ، فقد قلد عدد من انصار السلام بشعار حمامة السلام ( حمامة بيكاسو ) علقها توفيق منير على صدور عدد من النشطاء ، تقديرا لدورهم الهام والنشيط في الحركة و هم كل من الشيخ عبد الكريم الماشطة ، والشاعر الكردي عبد الله كوران ، وعطشان ضيول الأزيرجاوي ، والقى الشيخ الماشطة القى كلمة بعد التكريم في المؤتمر ، حث فيها الحاضرون على القيام بمهماتهم من أجل تحقيق الأهداف ، بالدعوة إلى أفكار السلام ، والكفاح من أجل الاستقلال الوطني ، و الغاء المعاهدة و طرد القوات البريطانية ، والانسحاب من الكتلة الاسترلينية ، وندّد بانضمام العراق إلى الأحلاف العسكرية و دعا إلى خلق جبهة عربية ضد الصهيونية و النضال من أجل التحرر الوطني والقومي ، وعلى الصعيد العالمي من أجل نبذ الحروب ، وتحريم استخدام القنبلة الذرية ، والوقوف بوجه الأحلاف و التكتلات العسكرية التي تهدد السلم العالمي و أمن الشعوب ، وتبقي سطوة الهيمنة الإمبريالية .

 ومنح مجلس السلم العالمي الوسام الذهبي للشيخ الجليل عبد الكريم الماشطة ، في الذكرى العاشرة لتأسيسه تقديرا لجهوده المتميزة وخدماته الجليلة في سبيل السلم العالمي ، و بعد وفاة الشيخ الماشطة و في احتفالية جرت في بغداد قام الدكتور سليمان بن سليمان عضو مجلس السلم العالمي و عضو حركة السلم التونسية بتسليم وسامي مجلس السلم العالمي المخصصين ، أحدهما للأستاذ عزيز شريف بو صفه السكرتير العام لحركة السلم في العراق ، والثاني للمناضل البارز الشيخ عبد الكريم الماشطة تقديرا لنضاله ضد الاستعمار ومن أجل السلم ، وقد قلد و سام الراحل الماشطة رفيق دربه الحاج عبد اللطيف مطلب ممثل حركة السلم في الحلة ، وسلمه بدوره الى عائلة الشيخ عبد الكريم الماشطة . ضج مشروع الشيخ الماشطة مع توالي الايام و السنين و الاحداث متبلورا في رسالة تنويرية  واضحة المعالم سواء في الابعاد الفكرية أو السياسية أو الاجتماعية ، وجسدت انتمائه للإنسانية بأبعاد اوسع من الايديولوجية ، وأكبر من رقعة جغرافية تحدها ، أو تكون رهينة لأصول عرقية ، أو محاطة بمذهب طائفي ، و كل ما نادى به هي قيم إسلامية متوافقة بدرجات متفاوتة مع قيم إنسانية وفلسفات اجتماعية أخرى ، كانت ومازالت مثار تطلع  من الديمقراطيين و الإصلاحيين واليساريين والشيوعيين والقوميين وكل من يؤمن بالعدالة والسلام .

 اقترب الشيخ فكرياً لا انتماءً مع الحزب الشيوعي وبعض القوى اليسارية التي وجدها صادقة وواضحة و عقلانية.

و لهذه الاسباب اتهم من قبل اجهزة السلطة والقوى الرجعية بالشيوعية ، وكانت توجيه تهمة الشيوعية أو موالاتها سوطا جاهزا بيد الحكومات الرجعية و أعوانها و القوى المتحالفة معها ، يرفع بين الحين و الاخر بوجه عناصر الحركة الوطنية ، وقد جلد الشيخ بهذا السوط الجائر على يد السلطة و أعوانها و حتى بعد وفـــــــاته.

و كان لمقالات الشيخ الماشطة المنشورة يومئذ في الصحافة البغدادية و التي أحـــــــدثت صدى مؤثراً بين أوساط المثقـــــــفين و رجال الدين على حد سواء ، هي التي استحثت اشتداد الهجمات عليه من مخالفيه على صفحات الجرائد ، وكان لكتاب أصدره الشيخ الماشطة في عام 1959 بعنوان ( الشيوعية لا تتصادم مع الاسلام و لا مع القومية ) دوراً في ذلك ، و بهذا المقالات ودفاعه عن ثورة الرابع عشر من تموز المجيدة يميط اللثام و يكشف اللبس عن تاريخ رجل دين مؤمن وقف بجانب قضايا الشعب ، نصيراً للسلم و مخلصاً لمبادئه ، سعى على امتداد حياته مجاهدا في سبيل مرضاة الله و حرية الوطن و سعادة الإنسان ، وخط بكفاحه ونضاله و تضحياته سفراً وطنيا خالصا لن يغيب عن ذاكرة العراقيين بل تخطى بثرائه الفكري كل الأطواق التي فرضتها شريعة الأقوياء للانفراد في منحى كتابة التاريخ .

 والشيخ الماشطة معروف في الوسط العراقي بالشجاعة الادبية النادرة ، وقد تحدى في كتاباته بشجاعته الأدبية أساطين الرجعية ذات الوزن الثقيل ، كما كتب عنه تلميذه النجيب الشيخ يوسف كركوش ، وهو صاحب كتاب ( تاريخ الحلة )، وهي دلالة تشير إلى عمق تأثير الشيخ الماشطة على الحياة السياسية ، وتؤشر في الان نفسه الى أن بصمات يراعه في فضاء الكلمة قد مست تفاصيل الواقع و لم تكن أدخنة في الهواء أو آثاراً على الرمال ، ولو كانت كذلك لكان بمقدور الرياح مسحها العلمانية في فكر الماشطة .

روائي مصلح

يصنّف أحمد الناجي بعض  رواد النهضة العربية المعاصرة بصفة عامة تحت خيمة الفكر الاصلاحي ، والاصلاح هو موضوعة فكرية – فلسفية ، فهناك شاعر مصلح وهناك روائي مصلح وهناك رجل دين مصلح وهكذا ، و انذاك كان فكر رواد النهضة ينقسم الى ثلاثة تيارات هي : التيار الليبرالي بزعامة رفاعة رافع الطهطاوي و اعقبه بعد ذلك أحمد لطفي السيد وطه حسين والتيار العلمي الذي أسسه شبلي شميل وفرح انطوان و يعقوب صروف وسلامة موسى ، والتيار التوفيقي الذي أسسه جمال الدين الافغاني وتلاميذه محمد عبده و رشيد رضا ، وهذه التيارات الثلاث شاركت في رسم ملامح العقلانية في الفكر العربي ، و من خلال تفحص ما كتبه الشيخ عبد الكريم الماشطة في كتاباته ومروياته الشفــــــــاهية ، بوصفه رجل دين و مفكر و مناضل تقدمي سعى إلى فتح البصائر و هدم الحواجز التي تمنع تدفق النور الى أعماقنا ، وهنا تجدر الاشارة الى انه قد وقف على تخوم عقلانية التيارات الفكرية الثلاثة ، ناهلاً من منابــــــــــعها فيما يشبه البحث عن الاكـــــــــتمال ، ففكره لم يخرج من العدم أو الفراغ ، بل أفاد من المفكـــــــــرين الذين كانوا قبله ممن تبنوا الفكر الاصلاحي ، و أسسوا جذور العقلانية و مرتكزات التنوير في الفكر العربي و الإسلامي الحديث ،أولئك الذين استطاعوا أن يقيموا بناء معرفيا ، بصرف النظر عن الاختلاف في تقيم لحظتها أو محصلتها النهائية .

  • شدد الماشطة على الحريّات المدنية و مبادئ الديمقراطية و حقوق المواطنة والعدل والمساواة ، باعتبار أن ذلك كله من أساسيات التحريض على النهوض بالمجتمع لكي يساير المجتمعات الغربية المتقدمة ، وعاش حياته مغامراً في رحلة مضنية سار فيها على جمر التحديات ، لا أحد ينكر دوره في تعزيز دائرة العقلانية و التنوير في محيطة الاجتماعي ، وقد كان مدركا لأهوال المعاناة ، ومستعدا للتضحية في سبيل موقفه التقدمي ، ولكنه في الاخير مضى وبقي أسمه رائداً ، مثلما بقي عداء الرجعين له مستمراً.
  • الشيخ الجليل عبد الكريم الماشطة في الثالث من أيلول 1959 في إجدى مستشفيات بغـــــــــداد بعد عودته من الاتحاد الســــــــوفيتي لغرض العلاج هناك و لكن المرض لم يمهله طويلا . إن كتاب أحــــــــمد الناجي الذي تناول حياة أحد رواد التنوير في العراق هو إضــــــاءة مهمة ورصـــــــــــينة لمرحلة دسمة في تاريخ العراق، وأرى في حجم المعلومات والتوثيقات ما هو مفيد للباحثين والدارسين والمهتمين بقضــــــــــايا الدين والثقافة والسياسة وحركة السلم والتقدم وهو يقدّم مادّةً  ليطلع الجيل الجديد عن ما كان يفكر به الاجداد ، من اجل التنوير الفكري وربطه بقضايا الشعب والوطن والامة العربية والاسلامية.

{ طبيب وكاتب

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com