ثقافة

«سُوسْطارَة»… الحَفْر في عوالم الظلّ المنسيّة.

بيدر ميديا.."

«سُوسْطارَة»… الحَفْر في عوالم الظلّ المنسيّة

واسيني الأعرج

 

صدرت رواية «سوسطارة» في سنة 2019 عن دار خيال للنشر، للروائية حنان بوخلالة، الإعلامية والأستاذة. 132 صفحة مركزة جداً، بلغة حادة كالشفر وناعمة كالريشة.
للأسف، الظروف ظلمت هذه الرواية؛ فقد صدرت مع بداية كوفيد 19، وفي سنة غنية بالإصدارات الروائية، أكثر من 300 رواية، مما جعل رؤيتها صعبة وسط هذا الكم الهائل. مع أني أعتبر نفسي متابعاً بـ «حب وشغف» لما يصدر جزائرياً وعربياً، متحسساً الهسيس الصامت الذي تعيشه الرواية العربية في السنوات الأخيرة والتي قدمت أسماء شابة كثيرة ومهمة للمشهد الروائي العربي. كنت سعيداً باكتشاف هذه الرواية، أوّلاً لأنها من امرأة مبدعة (حتى ولو كانت حنان لا تحب كلمة الأدب النسوي)، لأن كل امرأة تكتب هي حظ كبير للأدب في مجتمع عربي يمتص طاقتها وينهك موهبتها. إن «كلمات أي امرأة تكتب تقاس بميزان الذهب» كما قال كاتب ياسين في تقديمه للروائية «يامنة مشاكرة». ثانياً، إن «سوسطارة» تشدّ بلغتها وصراحتها حيث تتماهى القسوة بالنعومة.
«يقول الناشر موصفاً الرواية، إن الكاتبة «عازمة على إعادة النظر في العادي، وترتيب الحقائق مجدداً وفق منطقها الذي لا يتسامح مع الكذب الاجتماعي، الزيف، العادات البالية… فهي تقارب ما يوصف بالتابوهات من زواياها الخاصة».
توحي هذه الكلمة بسلسلة من المسبقات عن الرواية، وتوسع من أفق انتظارنا، اختراق المجتمع الجزائري والعاصمي على وجه التحديد في جانبه الأكثر شعبية في علاقته بيومياته الصعبة، موقعة الروائية نصها في مكان محدد بكل فضاءاته المتناقضة: «سوسطارة»، في الجزائر العاصمة. فاختارت أكثر العلاقات حساسية في المجتمعات الخلفية أو مجتمعات الظل التي تعيش حياة داخل انغلاق ثقافي وفكري كلي على الرغم من النوايا الطيبة. قصة الحب ثم الزواج التي عاشتها زينب الشابة المتمردة انهارت بانهيار داخلها الهش، المشكلة ليست في يوسف وحده، لكن أيضاً في أزماتها الداخلية، عقدتها من إعاقتها، من الوالد مات ولم يمت في العشرية السوداء بعد أن سحبه صديقه الإسلامي صويلح ولم يظهر له أثر. وحدها السلسلة التي أهداها لها الشاهد على استمراره فيها. على العكس من أم تشك في كل شيء، حتى كونها ابنتها حقيقة، لا بد أن يكون قد حصل تبديلها في المستشفى، يوم ولادتها. عليلو ابن «الزغارة» الذي يدير وقته في السيبركافي لم يكن أكثر حظاً منها؛ تجمعهما في البداية علاقة افتراضية أخفت كل عيوب العلاقات الإنسانية. عليلو، يائس من كل ما يحيط به، حتى من نفسه، لا أمل له. خسر الحاضر والمستقبل معاً. يحاول، كما كل الشباب، ترميم عاطفته الفاشلة مع ياسمين، لكن الإخفاقات المتتالية جعلته يفقد أي أمل في حياة طبيعية. زينب وعليلو يعانيان من نفس الأزمة التي تتخطى الجانب الفردي لتصبح أزمة مجتمع بلا وجهة حيث لا شيء ينجو من هذه الانهيارات، ولا حتى العلاقات الجنسية أو الاجتماعية، ولا كرة القدم التي تصنع يوميات الشباب في الأحياء الشعبية. كلها غير قادرة على امتصاص الطاقة السلبية المحيطة بهما، ولا الميراث الحضاري للمدينة، جامع كتشاوة، أو مقهى ملاكوف الذي ما تزال علامات أحداث أكتوبر الدامية مرتسمة على حيطانه.
الوقائع التي أثّثت بها حنان بوخلالة روايتها حولتها إلى مرآة لمجتمع الظلّ بكل طيبته وقسوته. بمجرد نزع قشرة المساحيق، يتبدى وجه المجتمع الذكوري البشع الذي يبني كل مشاريعه على العنف، مخلفاً وراءه ندوباً شديدة القسوة. ليست «سوسطارة» حياً اعتيادياً فقط، ولكنه الجزائر كلها وهي تبحث عن حلول لمشاكلها الصعبة. باب الوادي، والقصبة، وسوسطارة، أمكنة يشتعل فيها الحاضرة والذاكرة معاً بشكل غير سكوني. أحياء في عمق العاصمة ولكنها تقع خارجها حياتياً ونظامياً. كل شيء يحمل جزءاً من شطط المكان. الحياة تضع كل شيء أمام امتحان صعب ينتهي إلى تهديم ما ليس مؤسساً ومتيناً. الحب، المهرب الجميل، لا يقاوم هذا النظام القاسي ليصبح مجرد تمثيل. المأساة هي أن كل شيء يصطدم بالجدار الإسمنتي الذي لا يمكن تخطيه بسهولة. تخطيه لا يعني النجاة، تتخفى وراءه هوة سحيقة حيث يتعالى الذكوري على الأنثوي بالقوة والعنف وليس ثقافة، ويتعالى الأنثوي على الذكوري بقدراته المقاومة وبذكائه حيث تتبدى زينب كقوة رافضة للتراتبية التي فرضها عليها المجتمع والحي والمدينة. في غياب كلي للحوار والحديث، يصبح الصمت لغة أخرى لاستمرار الحياة. حتى حكي زينب وهي تروي قصتها يمر عبر بياضات تحاول من خلالها أن تفتك حقها في التعبير عن شجنها وصمتها الداخلي حيث لا يصلنا نحن القراء إلا هسيس اللغة المشحونة (Barthes) .
زينب مثل اللغة، سيدة نفسها، وسيدة حكيها عن الجسد الذي يرفض الاستباحة، من خلال لغة حية ودينامية خارج الكتل التعبيرية التي تعطل السردية، لهذا يتماهى العامي باللغوي العالم، بل يخترقه، لتنشأ شبكة تعبيرية تمس القارئ بسهولة.
تحاول زينب داخل هذا النظام الذكوري المتهالك أن تخرج بأقل الخسارات. حريتها الوحيدة هي عندما تجلس في السيبركافي وراء الحاسوب، فتصنع العالم الذي يرضيها، حتى ولو كان افتراضياً وتعيد تشكيله. الحياة ليست خطاً مستقيماً، لكنها سلسلة من الانتكاسات والأشياء الجميلة. قلبها لموازين العلاقة بينها وبين يوسف لم تأت هكذا ولكنها ثمرة لهذه الرؤية المقاومة. لم تعد زينب متلقية لسلطة يوسف ولكنها فاعلة فيها، بعد أن هزت بعنف منطق تغييب الحقيقة في «سوسطارة». هناك شخصيات كثيرة، بعضها أهدت لها الكاتبة روايتها، لكن لا بطل إلا المكان: «سوسطارة». الحي هو النقطة المركزية التي تتجمع فيها حركة الرواية بقوة. وهو ما يجعلها رواية مكان بامتياز.
بجرأتها وقوتها الداخلية وسرديتها المتنوعة، تستحق «سوسطارة» إعادة القراءة والاهتمام النقديين.

 

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com