ثقافة

السارد… من الاختفاء إلى الزوال.

بيدر ميديا.."

السارد… من الاختفاء إلى الزوال

 نادية هناوي
 

 

شهد التنظير السردي تطورات مختلفة في مسألة بناء السارد من ناحية بيان أنواعه وتحديد وظائفه وطبيعة الدور الذي يؤديه كعنصر تسند إليه مهمة السرد/ الكلام. وقد حقق المنظرون البنيويون في هذا المجال تقدماً كبيراً ثم أضاف المنظرون ما بعد البنيويين إليهم مزيداً من التقدم، حين وسعوا مجال الاهتمام من بنية السارد إلى بنيتي المسرود والمسرود له، وطبيعة العلاقات التي تربط بينهما، فاهتموا بالغاية أو الفائدة التي يقتضيها وجود السارد أو عدم وجوده داخل الخطاب السردي، منتقلين بموضوع السارد من بُعده الداخلي المحايث إلى بُعد ثقافي، فتحدثوا عن سارد غير موثوق فيه وسارد غير كفء وآخر واهم ومجنون تماما، إلخ.
ومنذ أن نشر المنظر الألماني وولفغانغ آيزر طروحاته حول القراءة الظاهراتية وتحديداً مقاله (القراءة بوصفها مقترباً ظاهراتياً) 1954، حتى تغيرت كثير من التنظيرات ما بعد البنيوية، فلم يعد السارد بنية مركزية، وصار في الإمكان انتهاك أحاديته واختراق مواضعات هيمنته، وفي الشكل الذي يحيل الخطاب السردي إلى بناء مجزأ، أو شبه متماسك أو غير شفاف. والأساس في هذا الانتهاك أو الخرق، أن السارد موضوعياً كان أم ذاتياً ليس هو الشخص الذي يتكلم حاملاً اسماً وله جنس وهوية، ويمارس ما يمارسه الإنسان وبكل إمكانياته وقيوده، بل هو مجرد كيان لفظي قد يكون له شكل وقد لا يكون، ومن الممكن إماتته وإماتة الشخصية معه أيضا.
ومن المنظرين القائلين بموت الشخصية شلوميت ريمون كنعان، التي رأت في كتابها (التخييل القصصي: الشعرية المعاصرة) أن الشخصية نمط وظاهرة لفظية، أو كيان من كلمات، وهي ميتة حين نقوم بتجريدها من بعض المفاهيم الكلاسيكية، وهو ما يقتضي تبئير من يراها وليس من يتكلم عنها. وأفادت مما صرح به كتاب ومنظرون معاصرون في هذا الصدد، داقين مسامير في نعش الشخصية، منهم رولان بارت القائل: (إن ما هو آيل إلى الزوال في رواية اليوم ليس الروائية، وإنما الشخصية فما لا يمكن كتابته بعد الآن هو اسم العلم) 1970، واستندت أيضا إلى ما تحفل به الرواية الفرنسية الجديدة من إنكار للشخصية التقليدية؛ فالروائي آلان روب غرييه رفض منذ عام 1963 الاعتماد على العمق السايكولوجي للشخصية في حين ركزت الروائية ناتالي ساروت على المرحلة ما قبل ـ الإنسانية في الشخصية. صحيح أن شلوميت لم تقل بموت السارد، لكنها قالت باختفائه في صورتين: صورة السارد داخل الحكاية وصورة السارد خارجها. وتكون درجة الاختفاء أعلى مع السارد كلي العلم، لكنها أكدت أن الاختفاء لا يعني الغياب إلى حد التواري أو الزوال مما يسميه تشاتمان (قصة لا مروية) ومثالها على ذلك قصة القتلة (The Killers) لهمنغواي، وقد أثنى النقاد عليها، بفعل إخفاء ساردها في الحوار وليس غيابه، مدللة على الاختفاء بما سمته (علامات صغرى) بها نستدل على وجود السارد المختفي منها قيامه بـ1) تحديد هوية المتكلمين. 2) وصف المكان. 3) المظهر الخارجي للشخصيات. 4) التلخيص الزمني. 5) نقل ما تفكر فيه أو ما لم تقله. 6) دوره في التعليق وإطلاق الأحكام.. وتساءلت باستفهام استنكاري: إذا لم يكن هذا الشخص هو السارد فمن يكون إذن؟ ثم إن غياب السارد في فيلم أو عرض مسرحي ممكن، لكنه في التخييل القصصي غير ممكن، لأن العرض يتم بواسطة اللغة وهذه اللغة هي للسارد (كتابها).
ولم تكن شلوميت وحدها قد فككت مركزية السارد بإماتة الشخصية، بل جوناثان كلر شاركها التفكيك أيضا، حين قال بفكرة أن السارد كلي العلم غير جدير بالثقة، والسبب محدودية وجهة نظره في فهم الأحداث، فالسرد يكون من خلال وعيه، لكن إذا كان السارد ذاتياً، فإن الأمر مختلف، لأن السرد يكون من خلال وعي الشخصية فتكون هي بؤرة السرد. وباعتبار السارد مختفيا ثم غير جدير بالثقة تكون الطريق ممهَدة لمنظري السرديات ما بعد الكلاسيكية، لأن تأخذ رؤاهم المنتهكة والخارقة مجالها نحو الاتساع، من قبيل القول بإحياء المؤلف ومركزة القارئ داخل السرد، التي بها تبطل دعاوى موت الرواية، كما تتقلص فكرة اتجاهها صوب اللارواية ومنها القول بموت السارد ( death of the narrator) التي طرحها أحد منظري السرد ما بعد الكلاسيكي وهو براين ريتشاردسون brian richardson في دراسته الموسومة (مقدمة: تجاوز الذات والصوت في الرواية المعاصرة وموت السارد introduction: trangressing self and voice contemporary fiction and the death of the narrator,) 2006 ضمن كتابه (أصوات غير طبيعية: السرد المتطرف في المتخيل القصصي الحديث والمعاصر narration in modren and contemparary unnatural voices ,extreme fiction ,the ohiostate university press,2006.).

ومن المنظرين القائلين بموت الشخصية شلوميت ريمون كنعان، التي رأت في كتابها (التخييل القصصي: الشعرية المعاصرة) أن الشخصية نمط وظاهرة لفظية، أو كيان من كلمات، وهي ميتة حين نقوم بتجريدها من بعض المفاهيم الكلاسيكية، وهو ما يقتضي تبئير من يراها وليس من يتكلم عنها.

وفيه تتبع بنظرة ورائية ما في الروايات الكلاسيكية منذ دانييل ديفو من طرق في استعمال السارد، فوجدها في شكلين: الأول هو استكشاف الذات، الذي طورته جين أوستن باستعمالها للخطاب الحر غير المباشر، والآخر هو صعود السارد الذي لا يعول عليه أو غير الموثوق فيه، والذي بدأ مع السرد الرسائلي واكتسب شهرة مع رواية (رسائل من العالم السفلي Notes from Underground ) 1864 لدستويفيسكي ـ وكانت أول ترجمة لها إلى الإنكليزية عام 1913 ـ وما كان قد بدأه أيضا لورنس ستيرن في روايته (تريسترام شاندي) 1767 وفيها ابتعد عن استعمال السارد الرومانسي، الذي عرف عند بايرون في روايته (دون جوان) 1842 وهايرنيش هاينه في روايته (بوخ لو جراند) 1827وبوشكين في (إيفجيني أونجين) 1833. ومع بزوغ تيار الوعي الذي شاع على يد جويس وفرجينيا وولف وفلكنر، صار للسارد بضمير المتكلم اسم وهوية جندرية ثم مرّ ـ حسب ريشاردسون ـ بمرحلتين: الأولى تمثلها الجملة التي بها تفتتح رواية (موبي ديك) لهيرمان ملفل، وفيها يقول السارد إسماعيل (call me Ishmeal نادني إسماعيل). والمرحلة الثانية يمثلها السارد في رواية (يوليسيس) لجيمس جويس.. وبعد ذلك أخذت مركزية السارد بضمير المتكلم بالتضعضع مع بيكيت الذي جعله مجرد صوت بلا جسد وبلا اسم، ثم بلغ الأمر الذروة مع تعدد السراد المشكوك فيهم، وتنوع الضمائر التي يستعلمونها.
ومما أكده ريتشاردسون، أن تراجع صورة السارد الواقعي الذكوري والسارد الذاتي الذي هو إما مذكر أو مؤنث كانت مع رواية (حواء الجديدة) لأنغيلا كارتر 1977 ورواية (ببغاء فلوبير) لجوليان بارنز عام 1984 اللتين انتهكتا استراتيجية تحديد جنوسة السارد، وجعلتاه تركيبا لفظيا، وليس شخصا فعليا يمكن تسميته أو تحديد الضمير هو أو هي، الذي فيه يظهر صوته.. فكيف يمكن للكتاب التجريبيين أن يمضوا قدما من ضمير المتكلم والغائب إلى ضمير «نحن» الذي يجمعهم، أو ضمير «أنت» أو ضمير الجماعة «هم» ؟ وهل يأتي صوت بلا ضمير بصيغة المبني للمجهول، بمعنى أن هناك ضمائر جديدة ومبتكرة يمكن التعليق على وظائفها؟
ومما بينه ريتشاردسون وشدد عليه قوله، إن السارد لم يعد كيانا يشبه الإنسان في أفعاله وتصرفاته، وإنما هناك أنواع جديدة من الساردين ليست من البشر، وتشبه تلك التي عرفها السرد في الماضي، حيث السارد معتوه أو طفل أو جثث أو حيوانات أو أشباح. وهذا الذي يطرحه هذا الناقد هو بمثابة تحد لنظرية السرد الكلاسيكية، التي بموجبها تتغير العلاقات بين المؤلف والسارد تارة، بوجود المؤلف الضمني والقارئ الضمني، وتارة ثانية بتغير مفهوم «وجهة نظر» عما كان قد طرحه هنري جيمس وفيكتور شكلوفسكي وجيرار جينيت، حيث القصة تُروى، إما من قبل إحدى شخصياتها، أو أن يرويها سارد موضوعي خارج القصة، وتارة ثالثة بتغير المسافة بين السارد الموضوعي والمسرود، فلم تعد هي المسافة بين المؤلف والقارئ الفعلي، كما أن اللامسافة بين السارد الذاتي والشخصية، مما نجده في سرد المذكرات والسير الذاتية هي الأخرى صارت متغيرة وعائمة.
وأحال ريتشاردسون على ما صرح به فيليب لوجون، من أن الأعمال الخيالية من منظور الشخص الأول هي غيرها من منظور الشخص الثالث الغائب، إذ لا يستطيع السارد بضمير المتكلم أن يعرف ما يدور في أذهان الآخرين، بينما يمكن للسارد بضمير الغائب ذلك، فهو وحده الذي يعرف حل اللغز. ومحصلة ما يقدمه ريتشاردسون، أن السارد ميت، وهو كأي شخصية أخرى في النص شكل كارتوني يمثل بشكل غير كامل إنسانا، سرده مليء بالتناقضات والتكرار والاختلافات في تصوير الشخصيات، وهو بلا هوية حقيقية، كما في قصة «شكل السيف» لبورخيس 1944 بينما مثّل بقصته (الأطلال الدائرية) على الخلط الذي وقع فيه ميشيل بوتور في التمييز بين الضمائر النحوية الثلاثة، واجدا فيه صرامة ليس لها ما يماثلها في الحياة اليومية، متسائلا: ماذا عن الصوت حين تكون الشخصية صامتة من الذي يخبرنا بأنها تحلم؟ وهل هناك وعي قائم في وعي آخر يدون نفسه في عقله؟ أليست هذه التداخلات متضادة مع المحاكاة؟
كل هذه التساؤلات والاستشهادات التي عرضها براين ريشاردسون، جاءت لتؤكد موت السارد في الرواية ما بعد الحداثية، ليكون التأرجح قائما بين الضمائر السردية، وتحديدا ضميري الشخص الأول والثالث، وهو ما يجعل الإنتاج النظري الذي حققته السرديات الكلاسيكية على مدى نصف قرن وأكثر على أعتاب مرحلة جديدة توصف بأنها انفجارية في دراسة السرد ومحاكاة النماذج البشرية وغير البشرية.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com