أبحاث

مسارات الحروف وكواليس الكتابة / الحلقة السادسة .

بيدر ميديا.."خاص.

مسارات الحروف وكواليس الكتابة / الحلقة السادسة .

* العــــــــــــودة إلى دمـشق : ح 6

* كنتُ في الطائرة البلغارية ” بولكـان تورست ” حين أقلعت من مطار صوفيا، قـد قـرّرت بوصلة تـوجّـهي القادم،، وأين أضع خطواتي الأولى، وما هي المهـام التي يتوجّـب عليّ أن أنجزهـا في هـذه المرحلة، ، ونقطة الإرتـكاز هي ” تحقيق الـذات ” ثقافيـاً ووجوديّـاً وإبـداعيّـاً .
عُـدنا صباحـاً إلى دمشق، وكان وصولنـا في الحادية عشر صباحاً، على مـا أذكر، وبعد حوالي الساعة، كان الوفد الخاص بنـا قد غادر أرض المطار، حيث حضرت ” ميكرو باص كبيرة ” فاستقلت الرفـاق بالأسماء، دون أن يكون إسمي بينهـم! كان الرفيق د. عبد الحسين شعبان هـو الذي إستقبل الوفـد، ولم يكن يعرفني جيداً وقتـهـا، غادر الرفاق في الباص، فيما توجهـت أنـا إلى موقف ” باص النقل العـام ” والذي ينقل الركاب الوافدين ، من المطار إلى ساحة البحصة، في مركز مدينة دمشق .
* حين وصلت إلى ساحة البحصة، إستقليت الباص الآخر، المتّـجه نحو منطقة ” ركن الدين ” حيث وضعت حقائبي في بيت أحـد الأصدقاء السوريين، وذهبت للبحث عـن ” غـرفةٍ للإيجـار ” أسكنُ فيهـا . وما أن حـلّ المساء، حتى وجدت غرفة مع بعض الأصدقاء في ” السيدة زينب ” كسكـنٍ مؤقّـت، ومكثت هـناك حـوالي إسبوع، ثم انتقلت إلى مركز المدينة ، في ساحة السبع بحرات، حيث سكنت مع الصديق ” أبو فيروز ، وأخيه أبو عمّـار، مع صديقٍ آخر كان معهم، في شقـّة ، عبارة عـن ” قـبو في غرفتـان ومجاز ضيّق وحمّـام، ثم بـدأت مرحلة ” البحث عـن العمل ، فكان الصديق أبو الفـوز – فيصل الحـلاّوي، والذي يشتغل بصفة ” مقاول ” يـأخذ صبغ المحلات والبيوت، وتـأسيسهـا كهربائيّـاً، فوجدتُ عـنده موضع قـدمٍ لي، بوصفي أحد عمّـال الكهرباء، فاشتغلنـا في ” مشروع دُمّـر السـكني ” وسارت الأمور على ما يرام .
* عـند العـودة من العمل، كنتُ منهـك القوى، فالعمل في هـذا المشروع ، يتطلّـب الحفرَ في السطوح ، لغرض مـد أنابيب البلاستك، وإدخال الأسلاك الكهـربائية فيهـا، وأحينـاً نضطر إلى حفر قنواتٍ صغيرة في ” الإسمنت المسلّـح ” لغرض تثبيت تلك الأنابيب البلاستيكية، في أسقف الأبنية أو في الجدران .
وحينما أعود وأجلس على الطاولة لتناول الطعام، كان النعاسُ يغـالبني على الأريكة الصغيرة، ولم أستطع أن أقرأ صفحة واحدة من أيِّ كتاب أو مقالة في جريدة، ولكن ما في اليد حيلة .
* ذات مرّة ، طلب الصديق أبو فيروز أن أجلب ” ورقة تـأييد ” من منظمة الحزب في دمشق، لغرض تقديمهـا إلى ” مخفر شرطـة عرنوس ” لتسجيلي كساكن معهم في الشقّـة، فذهبت إلى ” مقر المنظمة الحزبية ” الكائن في شارع الملك العـادل، ومقابل لجـامع الكويتي، صعدتُ للطابق الثاني في البناية التي يوجد فيهـا مقر الحزب الشيوعي العراقي، فوجدت الرفيق الراحل د. مـاجد عبد الرضا، فسلمت عليه، وقدمت له الطلب، بغية الحصول على تـأييد منهـم، فقـال : لحظة سـأذهب إلى الرفيق أبو نبيل – فخري كريم” بوصفهِ المسؤول الأول في منظمة الحزب بدمشق، وهـو الذي يوقّـع مثل هذه الطلبات، وبعـد لحظاتٍ خرج السيد أبو نبيل، وبيده طلبي وقال : تفضل هـذا طلبك، ونحن لا نعرفـك، وليست لك صلةٌ بنـا، ولا تـأتِ مرّة أخرى إلى هـذا المكان ! ، قلتُ : شكراً لك، ولم أزد حرفـاً واحـداً على هذه الكلمة ، وخرجت .
* لم أتفـاجأ بمثلِ هـذا الموقف من فخري كريم وجماعـته، فمواقفهم المخزية تحدّث عـنها الكثيرون، لا سيما مـا أورده الرفيق ” آرا خـاجادور ” عضو المكتب السياسي للحزب في كتـابه ” نبض السنين ” فقـد فضح فيه كل سلوكيّـات فخري كريم وجماعته .
* عـدتُ أسحب أدراجي من ذلك المكان، ثم توجهـت إلى ” مقهـى شارع العـابد ” حيث يقيم ” مختار العراقيين – أبو حـالوب ” وبعض الأصدقاء العراقيين يحيطون بـهِ ، ومن بينهـم كان الصديق الجميل والأديب المتّـزن ” جـبار نعيـم ” وشرحت للأصدقاء ما جرى معي هذا اليوم مع السيد فخري كريم، فقـال جبار نعيم : عـندك صور، قلت نعم، وأعطيته صورتين وعـنواني الحـالي، وإسمي الثلاثي، فأخذهـا وقال لي : عـند المساء سـأزورك في بيت أبو فيروز، وفعلاً جـاء في المساء، وبيده ذلك التـأييد، وهـوية تشبه ” هـوية الأحوال المدنية ” صادرة من مكتب شؤون العراق، والذي يشرف عليه السيد ” جبّـار الكبيسي ” عضو القيادة القومية لحزب البعث، ومسؤول مكتب شؤون العراق ، وقـدّمهـا قائلاً : هـذا التعريف، وهـذه الهـوية، تستطيع أن تتحرك فيهـا في كل أرجـاء سوريـا، وتقدمهـا لأيِّ دائرة حكومية في سوريا ، فشكرته على ذلك .
* حين استقريّت في دمشق ، كانت ” الثرثرة السياسية ” للعراقيين، المقيمين في سوريـا، تكاد تطغي على كل مجالسهـم في المقاهي والبيوت،، حتى وصل الأمر إلى ” الإطـلاع على ما يدور في أروقة الحزب الشيوعي العراقي ، وفي لجنته المركزية ” حتى أن أخبار الإجتماع للجنة المركزية المنعقد في شهر ت2 / 1984 ، كانت تتسـرّب قبل نشرهـا، الأمر الذي عقّـد مسألة ” التحضيرات لعقد المؤتمر الرابع ” في نفس العام، فأصبحت حـالة ” التسـيّب وعـدم الإنضباط الحزبي ” واقعـاً مفروغـاً منه، على الساحة السورية، وكذلك على الساحة الكردستانية، في شمال العراق، وفي منضمات الخـارج أيضاً ، وخفّـت مسألة ” التـوجّـه إلى إقليم كردستـان ” من قبل الشيوعيين المقيمين في سوريـا .
* ذات مرّة جاءني الصديق الراحل ” سـالم البهـادلي ” وكان لديه ” مرض القلب ” وأجرى عملية لذلك ، وسـألني : لمـاذا لا تـذهب إلى كردستـان ؟ وهذا هـو تـوجّـه الحزب الآن، وأنت سليمٌ معافى؟ قلت : كيف أذهـب وأنا مفصول من الحزب ! فـانذهـل لهذا الأمر، وقال : كيف تُـفصل من الحزب!؟ قلتُ : إذهـب إلى منظمة الحزب وإسألهـم عـن ذلك ! فذهب وعـاد ، بعد يومين أو ثلاث وهـو يقول لي : لقد أخبروني بمنظمة الحزب بأني مفصول من الحزب، لعدم توجهـي إلى كردستان ! قلتُ : هـل أنت مقتنع بهـذا الأمر !؟ هـناك الكثير ممـن لم يذهب إلى كردستان، وهـم مازالوا في الحزب! فقـال : هـكذا أخبروني، فحكيت لـه كل أسباب الفصل، ومـا عـانيتهُ منهم ، عندما كنتُ في بلغاريا، فـزاد إنـدهاشه أكثر . هذا الأمر إنطلى على الكثير من الأصدقاء والرفاق الذين هُـم بصدق مثل ” سالم البهـادلي ” الذين ينخدعـون بما تقوله لهم ” منظمة الحزب في دمشق ” بهذه الفـريـة .
* في دمشق ، بـدأت أُعيد عـلاقاتي الثقافية القديمة مع ” مجموعـة أبو عـبدو الثقافية ” وانتظمت معهـم، وهم في ازدياد وتطوّر، وقـد بـدأت نفسي تستقـرُّ شيئاً فشيئـاً، وأخذت أكتب ” بعض المقـالات ” والقصص القصيرة، وبعض القصائد الشعبية والفصيحة، وأخذت هـذه المقـالات طريقـهـا للنشر في الصحافة السورية والفلسطينية العاملة على الساحة السورية، ولكنني كـنت أشعر بـأني ” مُـشتت الأفكار والتوجـهـات” في هـذا المنحى الثقافي .
* وذات مرّةٍ كنتُ أُطـالع في “المركز الثقافي السوفيتي بدمشق ” مُـقـدّـمة إبن خـلدون ” فتوقفت في /ص 38 / من طبعة بيروت لهذه المقدمة، مع نصٍّ لإبن خلدون يقول فيه :” سمعـنا من شيوخـنا، أن كُـتب الأدب أربعـة دواوين، هـي أصلٌ ومـا تبقّـى لهـا فرع من الفروع، أولهـا: البيـان والتبيّين للجـاحظ، وأدب الكاتب لإبن قتيبة ، والكامل في اللغـة والأدب للمبرد ، وكـتاب النـوادر لأبي علي القـالي البغـدادي ” ، فتوقفت عن القـراءة، وذهبت مباشرة إلى شارعٍ صغير، قرب محطة الحجاز القديمة، ومجاور للتـكية السُـليمانية ، فاشتريت هـذه الكُـتب، بكل مـا أملك من النقـود، حيث بلغت بحـدود ( 1000 ليرة سورية ” وكان مبلغـاً كبيراً في ذلك الوقت ، فهو يعادل راتب موظّف لشهرٍ كامل، وبـدأت القـراءة بكتـاب ” البيـان والتبيّين للجـاحظ ” وهـو في 3 أجزاء ضخمة، وقد أذهـلتني ” لُـغـة الجـاحظ ” وأُسلوبه العالي في الكتابة، وجملتـهِ المبنية ، في نهـاياتـها على ” صيغـة أفعـل ” ورحتُ أسهـر معـه حتى ساعات متـأخرة من اللّـيل، حتى أنهـيت هذا الكتاب، بأجزاءه الثلاث ، في حـدود 10 أيّـام، فقد شعرتُ بأني أصبحتُ منقـاداً إليه بكل حـواسي، وسيطر على كياني الفكري والثقافي، حتى أن ” نصوص كتـاباته ” بـدأت تتـرسّخ في ذهني، وتجد لهـا حيّـزاُ واسعـاً في ذاكرتي المتعطشة لمثلِ هـذه النصوص، واصطبغـت كتاباتي الصحفية وأبحاثي في التراث، بهـذا الأسلوب الجـاحظي . وعلى أثـرِ ذلك، قـرّرت أن أقـرأ الجـاحظ كاملاً، ونظراً لغـلاء أسعار كُـتبه، تـوجهـت إلى ” المكتبـة الظـاهـرية بدمشق ” واتخذتُ مكانـاً لي في ” قـاعـة البـاحثين ” في ” المكتبة العادلية ” وهي مبنىً أثري، مقابل المكتبة الظاهـرية ، وتـابعـاً لهـا، وفي هـذا المكان ” قبر الملك العـادل – أخو صلاح الدين الأيوبي ” وكان هذا المكان مقـرّاً للمجلس العلمي اللّـغوي في دمشق، قبل انتقاله إلى مكانٍ آخر في دمشق ، وبقيت في هـذه المكتبة العـامرة، سنواتٍ طويلة، حيث أن ” الكتب والمصادر في منتاول يـدِ الباحثين، وطلبة الدراسات العُـليا فقط، وكان يُـشرف على ” قاعـة البـاحثين ، الأستاذ الأديب والباحث التراثي ” إبراهـيم الـزيبق ” وهـو نـاثرٌ جميل وكاتبٌ للقصّـة القصيرة، لكنه ذو باعٍ طـويل في ” تحقيق المخطوطات ” ومولعٌ بهـا، فتعرفت عليه وأصبحنـا صديقين متلازمين، وقـد أفـادني كثيراً في تـوفير كُـتب التراث، وبـدأت أستقـر في ” مجال التراث والبحثُ فيه ” و أستقرُّ في تـوجهـي الثقافي في هذا المنحى، فكنتُ أوّل الداخلين لهذه المكتبة، وآخر الخـارجين منـهـا، واستمرّيت على الحضور اليومي ” لمدة 10 سنواتٍ متـوالية، دون انقـطاع ” فقـرأت آلاف الكُـتب التراثية، واطّـلعت على الكثير من ” المخطوطات العربية – الإسلامية ” وقد اتخذت أسلوبـاً جيداً ” في إيجـاد آليـة ثقافية ” أعـود إليهـا في حـالة الغـياب، وعـدم التمكّـن من الوصول إلى المكتبة، وتتمثّـل هـذه الآلية في ” إستخدام الدفاتر الكبيرة – السجلات ” وكل سجل يحوي على ( 200 – 400 صفحة ) وأُدوّن فيهـا أهـم المعلومـات، والروايات ، والأخبار التراثية، وأُسجّـل في هذه الدفاتر : إسم الكاتب أو المؤلف، وإسم الكتاب، ورقم الصفحة، ودار النشر، وسنة الإصدار ومكانه” ، بمعنىً آخر، عملت ” ملخصات للكتب الهـامة التي أقرأهـا في التراث، وصار لدي ما يُـعرف بـ ” الكشاكيل ” أعـود إليهـا ، بين الحين والآخر، أو أثناء كتابة البحوث والدراسات والمقالات وغيرهـا من أمور الثقافة .
* بهذا الطقس الثقافي الذي فرضتـهُ على نفسي، صارت قـراءاتي ” مُـمَـنـهـجة ” ومركّـزة على ” كُـتب التـراثِ فقـط ” وابتعـدتُ عـن الرواية والقصة القصيرة، وقضايا النقـد الأدبي والسياسي ، وبـدأت أشعر بـأن روحي الثقافية تتّـجه أكثر وأعمق لهذا المنحى التراثي، ولكن طبيعة الحياة في دمشق تتطلّـب أن يكون لديك ” مصدر عيش ثابت ” فتعرفت على المحامي الفلسطيني ” الأستاذ مـاجـد فـانـوس ” كان قـد تـولّى الدفاع عـن حقوق مالية لي، مـن مدينة أبناء الشهـداء الفلسطينية في عـدرا، والتي تركت العمل فيهـا في منتصف عـام 1983 ، عندما توجهـت إلى بلغـاريا، ولكن القضية لم تنجح معي ، نظراً لسيطرة ” فـتح الإنتفاضة ” على مؤسسة أبناء الشهـداء الفلسطينية ، فسقطت القضية ” بالتقـادم ” .
* كان المحامي مـاجد فانوس، معجـباً بثقافتي الموسوعية، ومواقفي النضالية، فهـو سبقني في ” خوض المعارك السياسية – الفلسطينية” وكان من أوائل المناضلين في تـأسيس ” حركة فتـح الفلسطينية ” ثم أوقف نشاطه بين صفوفهـا، لذلك ” رفض أن يتقـاضى منّي أيَّ مبلغٍ مـادي، مقابل تلك القضية، التي كلّفته بهـا .
* كان يشتغل مع مكتب المحامي ماجد فانوس، محامٍ فلسطيني آخر، كان هـذا المحامي ” بصيراً ” إسمهُ ” سميح صُـبح ” فكان هذا المحامي ” يـأخذ قضايا الإرث والتركـات ” بشكلٍ مُـميّـز، ويـأتي ويسجلهـا بإسم المحامي ماجد فانوس، مقابل نسبة 50 % ، وذات مرّة، إتصل بي المحامي ماجد فانوس، وطلب مني أن أحضر إلى مكتبهِ في ” ساحة المرجـة ” وهـو عـادة ما يعـود إليه في ساعات المساء، لمراجعة القضايا الموكل بهـا، وتقديم مذكرات لليوم التـالي، أو مقابلة أصحاب هذه القضايا ، والدوام المسائي عـنده يبدأ في الساعة 5 مساءً إلى 9 مساءً , فحضرت في مكتبهِ مساءً، فرحّـب بي، وكان الأستاذ سميح صـبح ، جالساً أيضاً، وبعـد التعارف، قـال الأستاذ مـاجد فانوس : نحن نعرف ظروفك وما أنت فيه، ونـود أن نساعـدك وتساعـدنا بنفس الوقت ! قلت : أنـا حاضر لأي مساعـدة . فقال : أنت تعرف أن زميلنـا الأستاذ سميح صبح ، كفيفٌ ، ويحتاج إلى مـن يساعـدهُ في كتابة وتحرير بعض المذكرات، واستصحابهِ ، أحيانـاً ، إلى القصر العـدلي، ومن ثم إعـادته إلى المكتب، والمسافة بين القصر العـدلي والمكتب، لا تتـجاوز الكليو متر واحد ، فـاقترح الأستاذ ماجـد فانوس أن أكون ” مرافقـاً للأستاذ سميح صبح ، لمدة ثلاثة أيـام في الأسبوع ” سبت وأحـد والإثنين ” مقابل ” 1000 ليرة في الشهـر ” وفي كل يوم 3 ساعات فقـط، من الساعة 9 صبـاحـاً – 12 ظهـراً ، فوافقـت دون تـردّد، فهـذا المبلغ يُـسدّد لي إجرة الشقة التي اسكنـهـا، بشكلٍ مستقل ، دون مشاركة أي أحد من الآخرين ، وكي أتخلّص من كل هلوسات الآخرين وسكرهم وعربدتهم، حيث سكنت لوحدي في شقة سكنية في ” منطقة الكيكية ” في ناحية ركن الدين ، لذلك جـاء هـذا المبلغ، ليحرّرني من ” الحِمل الثقيل ” من الإيجار، ويحافظ على إستقلاليتي في المعاش والسكن، حيث بـدأت أشعر بضرورة العيش لوحدي في السكن، كي أقرأ وأكتب في أيِّ وقت دون حرج لي أو للآخرين، ولذلك جاء عرض الأستاذ فانوس في وقتـه المحدّد .
* بعـد أن إستقلّـيت لوحدي في السكن، صار لزامـاً علي أن أُمنهـج قـراءاتي ودراساتي، فصرتُ في أوقات المساء، بعد العـودة من مكتب المحامي ماجد فانوس، أركـنُ لتحرير بعض المقالات الصحفية، حيث وقتذاك، لم يكن هـناك لـديّ ” كمبيوتر” بل كـان هـناك ” آلات كاتبة ” للطباعة، وهذه تحتاج إلى ” دفع مبالغ مـالية ” الأمر الذي يرهـق مدخولاتي الشهرية، ولذلك كنتُ أكتب ” مقالاتي ” بخـطٍّ جميل وحسن، يقبله رئيس التحرير، في هذه الصحيفة أو تلك من الصحف السورية والفلسطينية التي كنتُ أكتبُ فيهـا .
* حينـما يَـممـتُ وجهـي صوب التـراث، كان جـلُّ اهتمامي ، مراجعة كُـتب التراث الثقافي في الفترة العباسية، بكلّ تفاصيلهـا الثقافية والتـاريخية، فـبدأت تَـنـفتـح أمامي آفـاقـاً ثقافية، واسعة ومتعـدّدة، وكلّـهـا موضوعاتٍ تُـوجّـب الإحـاطة بهـا، فصرتُ أُدوّن بـ” كشاكيلي ” موضوعات التـاريخ، بـدفتر خـاص، وموضوعات الأدب ، بدفتر خـاص، وكذلك موضوعات الفولكلور والأدب الشعبي بدفترٍ خـاص أيضاً، وصرتُ أضع ” هـذا الكشكول أو ذاك ” في حقيبتي الجليدية السوداء، والتي أهـداهـا لي صديقي الفنان التشكيلي ” أبو سعـود -عـزيز سعيد ” .
* يـشتـد ولعـي بكتب التراث، وأرغب أن تكون معي هذه الكُـتب، فـأشتري بعضهـا والبعض الآخر أقـرأهُ في قـاعـة الباحثين ، في المكتبة الظـاهرية ، ولكن المكتبة تغلق أبوابهـا في تمام الساعة الثانية بعـد الظُـهـر، فـأعود إلى البيت، وفي نفسي شئٌ من الجـاحـظ، والذي يشدّني إليه بشكلٍ مُـذهـل ، ولكن كُـتبهِ غالية الثمن، لا سيما تلك التي أشرف على تحقيقهـا ” الأستاذ عبد السلام هـارون ” ولذلك اتخذت ” مكتبة أخرى ” أدرسُ فيهـا ، هي ” مكتبة المعهـد العلمي الفرنسي للدراسا العربية بدمشق ” والكائنة في أول شارع أبي رمانـة ، وكانت فيه مكتـبـةٌ هـائلة، ومختصّـة للباحثين والمستشرقين الفرنسيين، القادمين للدراسة في دمشق، وخصوصاً لطالبي اللّغـة العربية ، وتسمح للباحثين العرب وغيرهـم للبحث والدراسة فيهـا، بغية اخـتلاط الدارسين الفرنسيين بهـم ، لغرض تقوية لغتهم العربية، ومداركهـم الذهنية .
* كـان الأستاذ كــلود سلامة ، هـو المسؤول عـن المكتبة ومديرهـا، وبنفس الوقت هـو يشتغل في ” تحقيق المخطوطـات في التراث العربي ” وكان خيرُ صديقٍ تعرفت عليه في هـذه المكتبة، كما تعرفت على السيدة ” …. السحّـاب ” سكرتيرة المعهـد العلمي الفرنسي، وكانت رائعـة جـداً في تعاملهـا معي، حتى أنـها كانت ” تُـهـديني بعض الكُـتب ” التي يصدرهـا المعهـد باللغة العربية، والجميلُ في الأمر أن هـذا المعهـد ، يفتح مكتبته وأبوابه يوم الجمعـة، ويغلقهـا يوم الأحد ، وفق النظام الفرنسي .
ودوام هذا المعهـد من 9 صباحـاً – 9 مساءً، وفي هذا المعهـد ، تعرفت على الكثير من الشخصيات الثقافية الهـامة والفاعلة في الساحة السورية، مثل المفكّـر الراحل ميشيل كيـلو ، ود. طيّب تيزيني، ود. فيصل درّاج ، ومجموعة أخرى لم أعـد أتذكّـرهـا.
* إنتظمت دراساتي للتراث العربي الإسلامي، بين المكتبة الظـاهرية ومكتبة المعهـد العلمي الفرنسي، وتمتـد قراءاتي ، أحيانـاً ، إلى أكثر من 16 ساعـة في اليوم ، وأشعر بأن ” خميرة التراث العربي” تـزداد فيَّ نضوجـاً، وتستوعبهـا ذاكرتي بشكلٍ إيجابي، وقد قـادتني بوصلة التراث الثقافي لقراءة ” أبي حيّـان التوحيدي، وياقوت الحموي، وأبي العـلاء المعرّي ” ونخبة أخرى من كُـتّـاب التراث، وعثرتُ ذات مـرّةٍ على ” رسـائل إخـوان الصفاء وخِـلاّن الـوفـاء ” فضمّـوني إليهـم ، فكريّـاً ، وأطبقوا بفلسفـتهم على عقلي، وسحبوني إليهـم عميقـاً، فـدرستُ كلّ ” رسائلهـم ” بعُـمقٍ وتـأنّي، وخصّصتُ ” كشكولاً خاصاً بهـم ” ودونت فيهِ كُـلَّ شاردةٍ وواردة عـنهم ، وقد شغلوني بحدود السنتين من التفرّغ لهـم، دون أن أقرأ لغيرهـم، وكانت ” فلسفتـهم السياسية ” واضحةً في ” هذه الرسـائل ” ثم قـرّرت أن أكتب دراسة علمية وأكاديمية عـنهـم، بهـذا الصدد، أي في الجانب السياسي وفلسفتهم فيه، كـردٍّ على الإخفاقات السياسية التي تمرُّ بهـا حركات التحرّر والأحزاب الشيوعية العربية، لأوضحَ لهـذه القوى الخاملة، مدى ضعفهـم النظري في الإطـلاع على التراث العربي – الإسلامي، وبنفس الوقت، أُظهِـرُ جُـزءاً من التراث العراقي السياسي والفلسفي في العصر العبّـاسي .
* في منتصف عـام 1985، سمعتُ بوجود المفكّـر العراقي الأستاذ هـادي العـلوي، في دمشق، وقد كُـنتُ اتتابع كتاباته التراثية في الصحافة وفي المجلات الدورية، وكنتُ أحتفظ له بكتابٍ مهـم، وقع في يـدي ” من البسطات للكتب القديمة ” والتي كان يعرضهـا باعـة الكُـتب والمجلات القديمة على أرصفة شارع الحمراء بدمشق، كان هذا الكتاب يحملُ عـنوان ” في السياسة الإسلامية، الفكر والممارسة ” والصادر عام 1974، كما عثرت على كتابٍ آخر له بعـنوان ” الحركة الجوهـرية عـند الشيرازي ” فاشتريت الكتابين في 15 ليرة ، وقرأتهما بشغف، ومن ثم اتصلتُ بـهِ، وكان يسكن مع أخيه الكاتب ” حسن العـلوي ” في ” فـيلاّت المـزّة ” وهو بيت حكومي، مخصص للاّجئين السياسيّين في سوريـا، فهـناك حمايات وتـدقيق هـويّـات، ومـواعيد مُـسبقة، ولذلك عـندما اتصلتُ هـاتفيّـاً ، جـائني الأستاذ هـادي العلوي، للّـقاء بي بالقرب من ” مقـر إتحـاد الكُـتّاب العرب بدمشق، في منطقة المزّة وهو قريب من بيتهـم .
هَـيئـتُـه، لا تُخطئ النـاظرُ إليهِ، بـأنه بغـدادي، يسير الهـويـنـا، عـند أويقـات الغـروب، فقـد جـاء بـزيّـهِ الشعبي، ” دشداشة رمادية اللّـون، ونِـعـالٍ جلدي، وشعرٌ أبيض، وعيونـاتٍ طبيّـة، تحجبُ عيناهُ عـن الشمسِ وغيرهـا،، ومـا أن إقترب منّ مبنى إتحـاد الكتّـاب العرب في المزّة، حتى عرفتـهُ من هيئته البغـدادية تلك، فهـرعـت لاستقباله والتسليم عليه وقلت : مـرحبـاً أستاذ هـادي العلوي ! ، فـردَّ مُـرحّـباً وقال : أنتَ خيرالله !؟ قـلتُ : بــلا، فتصافحـنا ، ثم اقترح عليّ الذهـاب إلى بيت أخيه حسن العلوي القريب من المكان، فـلم أُمـانع، وسرنـا سويّـةً، والحديثُ يدور بيننـا حول كتاباتـهِ التراثية، وردود الفعل عليهـا من قبل القُـرّاء، فكنت أشرح لـه ردود الفعل تلك، بين معارضٍ ومسانـدٍ، بين مختلف الفئات الإجتماعية والثقافية، فكـان يطلبُ مني اكثر أن أوضّـح له ردود الفعل عند أهـل الشام، لأنـهم ” متزمتين ” أكثر، كما هـو يعتقد، وهـو مُحـقٌّ بذلك .
وصلنـا البيت، فـاستقبلونـا باحترامٍ وتقدير، ودخـلنـا إلى “غرفة مكتب الأستاذ حسن العلوي، بـآثاثهِ البـاهرة، والمكتب الكبير الذي يجلس عليه، فجلس الأستاذ هـادي على كرسيٍّ عـادي، خارج آثاث ذلك المكتب، فقلتُ لـه: لمـاذا لا تجلس على المكتب ؟ فقـال : هـذا مكتب مخصص للوزراء والكبار، لا أعرفُ أجلسُ عليه، وإذا جلست لا أعرف أكتب، وقـادني إلى زاوية أخرى فيهـا ” مكتب – ميز ” من الألمنيوم وكرسي من الخشب العادي، وقال : هُنـا أشتغل . ثم دار بنا الحديث حول موضوعاتٍ طويلة ومختلفة، فقلتُ لـه ، ونحن نحتسي القهـوة: أُريـد أن أجري معك حـواراً مطوّلاً، حـول فكرك، ونتاجك الثقافي، وحـددتُ لـه الموضوعات والمحاور التي يمكن ان نتحدّث بهـا، فقال : دعـنا نلتقي في نهـاية الأسبوع هـنا، ونجري ذلك الحديث ، وحول أيّ موضوعٍ تشاء، وفعلاً قَـدِمـت لـه صباح يوم جمعـةٍ من شهـر أيلول عام 1985 ، وأجريتُ معهُ حـواراً جميلاً، ومتشعّبـاً، وكان مرتـاح جـداً لذلك الحـوار، وعمق الأسئلة فيه ، فيما يخص التاريخ والأدب والفلسفةـ لا سيما تلك الأمور التي تخص ” الإسلام السياسي المعارض” وكان معجباً بتلك الآراء التي كنّـا نتحاور فيهـا، والتي تخص ” إخـوان الصفاء ” والحركة الإسماعيلية، والحركة القرمطية، وموقف ادباء ذلك العصر منـهـا، وكان حـواراً معمّـقاً، نشرتـهُ ، فيما بعـد في ” مجلة الكـرمـل ” التي كان يشرف عليـهـا الشاعر الفلسطيني محمود درويش، والتي كانت تصدر في قبرص، في العـدد 18/ من العام 1985 . وقد دام الحوار بيننـا لأكثر من 3 ساعات متواصلة، ومـا أن أنهينا الحـوار، حتى دخل علينـا الأستاذ حسن العلوي، وسلّم علينـا، ثم دعـانـا للغــداء. والمحادثات العامة في الشأن العراقي وغيره ، ونحن نحتسي الشاي .
* وأثناء ذلك، ونحن نحتسي الشاي، قلت لهـادي العلوي، بين مـداعبٍ ومستقرئ لأفكاره : كيف ترى مثقفي الحزب الشيوعي العراقي ، ونظرتهم إلى التراث!؟ فقـال : هـؤلاء مثقفي جـرائـد، لا يستطيع أغلبهـم أن يقلّب كتـاباً واحـداً للجـاحظ، أو يتوقّـف مع عبارةٍ رشيقة لأبي حيّـان التوحيدي، أو لبيتِ شعرٍ فلسفي يطلقهُ المعرّي، فهـؤلاء بعيدون جـداً عـن ثقافتهـم الأصلية. ثم انتبـه إليّ وقال : لمـاذا أنت مختلف مع الحزب الشيوعي العراقي ، ومن أيِّ منطقةٍ أنت في العراق ؟ قلت : أنـا شروﮔـي من أهـل الثورة، وكنت أشتغل عاملاً في المؤسسة العامة للكهرباء في بغـداد، وخرجتُ من العراق لإنتمائي السياسي للحزب الشيوعي العراقي، ولأني محكوم بالإعـدام ، كـوني عسكري سابق ! قـال : هـل أنت متزوّج ؟ قلت نعم ولدي 4 أطفال، ولا أعرف مصيرهـم ! فـبدت مـلامح الحُـزن تظهر على وجهه، ثم سـأل : مـا سِـرُّ الإشكال بينك وبين الحزب !؟ قلت : إخـتلافٍ في الرؤى والهـدف والممارسة التنظيمية ، قال : أخبروني بـأنّـك ترفض الذهـاب إلى كردستان ! قلت : وهـذه فـريـةٌ حاولوا خِـداعـك فيهـا منذ البداية، فـأنا مفصولٌ من الحزب وأنـا في بلغاريا، فكيف أتـوجّـه إلى كردستان ؟ فـأصابته الدهشة والذهـول ، ثـم قال : كيف يقولون لي بـأنّك معارض لسياسة الحزب وترفض تنفيـذ قراره بالذهــــاب إلى كردستان، ثم طلب مني شرح أسباب هـذا الخلاف الذي أدّى بهـم إلى فصلي من الحزب! فشرحتهـا لـه بالتفصيل .
ثم سـألتـه : لماذا كُـنتَ أنتَ من ” المنشقين ” عـن الحزب، وواحدٌ من المفكرين المميّزين في ” القيادة المركزية للحزب الشيوعي عام 1976 ؟
قال : كُـنّـا نقوم نهـج منحرف ، وبشكل ثوري !
قلتُ : أوليس الخـارجين عـن الحزب الآن ، يملكون نفسَ رؤاكم في السابق!؟
قال : ربما، ولكن الظرف يختلف !
* بعـد أن أنهينا الغـداء واحتساء الشاي، طلب مني أن نتواصل بشكلٍ دائم، لا سيما واني أخبرتـه بأن لدي ” بحثـاً بعـنوان ” تجليات الصراع الطبقي في الإسلام ” وشرعت قبل أسابيع بكتابة بحثٍ آخر بعـنوان ” النظـام الـداخلي لحركة إخـوان الصفـاء ” فقال : لا بـأس من أن تعرضهـا عليّ قبل النشر، قلتُ : سـأفعل، ومن ذلك اليوم، وتلك اللحظة، بدت علاقتـنـا تتطوّر باستمرار، حتى هذا اليوم ، رغم رحيله عـن هذا العالم .
* * * يتبع .

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com