ثقافة

«مسرى الغرانيق» رحلة العقل السّجين.

بيدر ميديا.."

«مسرى الغرانيق» رحلة العقل السّجين

 واسيني الأعرج

 

تشكل رواية «مسرى الغرانيق في مدن العقيق» 559 صفحة، للروائية السعودية أميمة الخميس، لبنة أساسية وجوهرة متفردة تنضاف إلى النصوص العربية التي حققت تمايزاً ونجاحاً واضحين. فقد فازت الرواية وقت صدورها في 2017 عن دار الساقي، بجائزة نجيب محفوظ، ووصلت إلى القائمة الطويلة في البوكر العربية. من هنا فهي عتبة جديرة بالاهتمام في سياق كتابة جديدة يشكل التاريخ والحكي السيري القديم والرحلة مادتها الأساسية، بل ونمط سردها القادم من بعيد، من خلال رحلة استمرت ثلاث سنوات. فقد وجدت الكاتبة في هذا المشروع المفتوح على كل الاحتمالات الإيجابية نمطاً كتابياً فقدناه اليوم، كان الرحالة القدامى يعتمدونه في تسجيل تجاربهم ومشاهداتهم، حيث يوصفون في رحلاتهم كل ما جرى لهم من مصائب وعوارض وهزات مبهرة، تعطي للنص مصداقية تاريخية حتى ولو بني على مساحات التخييل الواسعة، وتقربه من الحكاية/ الرواية أكثر. نص «مسرى الغرانيق» بهذا المعنى، هو رحلة روائية شديدة التعقيد والغنى أيضاً، عاش فيها الأعرابي (مزيد الحنفي) من صحراء الجزيرة، تجربة اكتشاف عالم آخر لم يعهده، من بغداد، إلى القدس، فمصر الفاطمية، فحاضرة القيروان وانتهاء بالأندلس، حيث القلق المعرفي والثقافي والحضاري، واكتشاف سحر «الغرانيق» (المفكرون الأحرار) الذين حافظوا بسرية على ديمومة العقل كطريق للحق والمعرفة، وحموه من التلف والانهيار.
ويبدو واضحاً من خلال هذا النص أن الكاتبة غيرت من مساراتها السابقة التي اعتمدت النص الاجتماعي لأنه أكثر تجاوباً مع المقروئية وتلبية للحاجات الثقافية، مثلما فعلت في رواياتها «الوارفة» و»زيارة سجى» و»البحريات»، التي ركزت كلها على الشرطيات الاجتماعية المتحكمة في حياة الأفراد والجماعات. وإن ظلت المنطقة التي اشتغلت عليها هي نفسها، أي المنطقة الوسطى في الجزيرة العربية. حتى الأصوات النسوية الجريحة التي سيطرت على نصوصها سابقاً، في شكل ردة فعل ضد الاستبداد الذكوري، تغيرت بل وغابت في مسرى الغرانيق، ليحل محلها صوت ذكوري حمل في أعماقه صوت التحرر أكثر من الجنس، إذ لا توجد حرية نسوية وأخرى رجالية، فهي كلية، مثلها مثل المعرفة. لهذا، ما يبدو ذكورياً في شكله الخارجي هو مزدوج بالضرورة. وما دامت قد اختارت الكاتبة فن الرحلة والمذكرات، أصبح من الصعب تخيل امرأة وسط رحلات قاسية يقوم بها التجار. ربما كان الأمر سيكتسي دهشة استثنائية وخارقة لو اختارت الكاتبة امرأة رحالة، امرأة، خارج ما هو منطقي ومتداول. امرأة تاجرة داخل منظومة أخلاقية وثقافية متسيدة؟ لكن هذه فرضية قرائية تخييلية لا علاقة لها باستراتيجيات الاختيار لدى الكاتبة. الروائية بهذه الطريقة الحكائية من حيث أدوات الكتابة، اختارت أن تعيد الحياة لأنماط سردية ماتت (فن الرحلة)، أو تكاد تموت، وهو ما جعل النص أكثر اقتراباً وتقاطعاً، من رحلة بلدسار، وليون الإفريقي، لأمين معلوف، ومن الخيميائي لباولو كويلو، وقواعد العشق الأربعون، من حيث البنية القصصية التي تفرد فيها ابن جبير في رحلته المعروفة باسمه. وكما في أغلب الرحلات فهي مروية بضمير المتكلم، الأنا الفعالة في مسار الأحداث، مما يعطيها مصداقية وتحيينا جميلا، وكأن الرحلة تتماهى مع لحظة القراءة، من الناحية الزمنية؛ مما يعطي الانطباع للقارئ بأن ما يقرأه حقيقي ولا يجانبه الخلل، ويحدث ذلك في لحظة القص.
اختارت الروائية شخصية تاجر كتب، مَزْيَد الحنفي النجدي، بطلاً لنصها. تنطلق الرحلة في أول آذار / مارس 1012 ميلادية من اليمامة أولاً، وتنتهي في قرطبة بتاريخ 29 أغسطس / آب 1014. «قطعت الكون لأصلك يا قرطبة، فماذا خبأت لي أبوابك وخزائنك؟» ص525. مع قصدية اختبار الوصايا السبع التي استنبطها من مشاق رحلاته الكثيرة: «سلخت عني مزيد اليمامة، وجعلتني صحيفة بيضاء، يخط القدر فوق ضلوعي وصاياه السبع»، مع الرحلة تتحول هذه الوصايا إلى مقولات تكتسي طابعاً أخلاقياً ينصحنا السارد باتباعها، في البداية على الأقل، ولكنها ليست كما عودتنا الوصايا في الميراث الإنساني، مثل الوصايا العشر مثلاً. الوصايا في الرواية ليست أكثر من اختزالات لتجربته إنسانية عاشها السارد بالكثير من الامتلاء. ونكتشف من خلال رحلاته تاريخاً مخفياً تصرح به الرواية بشكل صريح، منتصرة للحق والعقل. نكتشف اليمامة التي استبد فيها بنو الأخيبر، وأطعمة بغداد التي لا تطاق روائحها بسبب السمك، تخترق الأنف بعنف، وبغداد المعرفة والفلاسفة والصراعات الثقافية. ولأن لكل مدينة أنماطها وبشرها وأفكارها، فالشخصيات تغيب مع غياب مدنها في الرحلة الروائية. ويبقى الرابط الأوحد هو مزيد الحنفي الذي يشكل حلقة واصلة بين المدن والوقائع المعيشة. حتى التجارب العاطفية خاضعة لهذا النمط التحويلي، المرتبط بعاطفة إنسانية شديدة الارتباك والحساسية. لم يكن مزيد شخصية عادية، ولكنه شخصية كاسرة للنمط المتداول. لم تكن التجارة العارية من كل ثقافة، تهمه، فهو شخصية مشبعة معرفياً بحكم مهنتها، مفتونة باتساع وتنوع مجالات ثقافتها الإنسانية، وعارفة للمفكرين والفلاسفة والصوفية، الذين يخدمون الإنسانية ويتعرضون للمضايقات لحظات الانهيار الثقافي والاجتماعي والاستبدادي، فيُحَوَّلون إلى أعداء وملحدين في عيون المجتمع، الأمر الذي يدفع بهم إلى اختيار طريق السرية مثل جماعة «السراة». دار الندوة مثلاً، لم تكن فقط مساحة للمعرفة والنور، ولكنها كانت مساحة موبوءة أيضاً، منها رائحة التملق والخساسة والعنصرية الرخيصة، والنرجسية المرضية التي لا ترى في المشهد الثقافي إلا نفسها. الجميل في أميمة أنها لا تأخذ العصر، ولا الزمن الروائي، أي الرحلة التي استمرت ثلاث سنوات، بقدسية مطلقة، ولكن بعقل يفصل بين الفاسد والصالح، فـ»لا يوجد حق خالص، ولا باطل خالص».
الرواية التي بدأت بالوصايا التي تختزل تجربة حياة، ولكنها تنتهي بحفظ وصاية السراة الكبيرة، التي تتلخص أصلاً في نفي هذه الوصايا، بل بوجوب حرقها والسير وفق ما تمليه الحياة، فهي دوماً أغنى، فلماذا السجن داخل مجموعة من المقولات التي تحرم الإنسان من رؤية الحياة في اتساعها، لهذا كان النداء الكبير للسراة والذي انتقل إلى مزيد، بوجوب الحرق كما تمليه الوصية السابعة والأخيرة: أحرق جميع هذه الوصايا حتى لا تتحول إلى لاهوت يسجنك بين قضبانه. الحياة أعظم من تعاليم ووصايا. الحياة منزلقة متبدلة، سادرة في عالم التحولات لا تستقر على حال».
إن اختيار الرحلة كفنّ لاكتشاف جمال وخراب المدن العربية القديمة، يجعلنا نقوم بعمل إسقاطي، نعيش شرطية الحاضر القاسي والجميل أيضاً، لكننا نتابع محنة مزيد وهو يكتشف أسرار المدن وقلقها الحضاري والثقافي وخوفها من الآتي، كأن لا شيء تغير على الرغم من أن الفاصل بيننا وبين وقائع الرواية أكثر من عشرة قرون. تدرك أميمة جيداً أن التجريبية الشكلية في الكتابة، واختيار موضوعات حية وجريئة، ليسا أمراً سهلاً وبسيطاً. الثمن كثيراً ما يكون قاسياً. ندرك في النهاية عندما ينغلق النص في الأخير، لماذا اختارت أميمة الخميس جزءاً من عتباتها، التصديرات، شخصيات ثقافية أثرت في المشهد العقلاني العربي عبر رحلاته التاريخية. لم تعد الروايات اليوم مجرد حكايات متداولة وسهلة، لكنها منجز ثقافي وجهد معرفي «إلى السراة الغرانيق، من واصل بن عطاء، إلى محمد الجابري، مآلات العقل الحبيس»، حتى لو تغير نظام التعامل مع العقل يظل الهدف نفسه والممارسة نفسها: محاربة العقل أينما وجد، والحجر على المعرفة، وقتل أي نواة للتأمل والتفكير والمعرفة. تنتصر الرواية في رحلتها الشاقة، للعقل وصعوبات تسيده في مجتمعات فقدت هذه الخاصية، وحل محله التسطح والخرافة والبؤس الفكري والتأملي.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com