مقالات

المسرح في السنوات الأولى من ثورة أكتوبر الاشتراكية

د.تحسين رزاق عزيز

غيَّرت ثورة أكتوبر الاشتراكية عام 1917 هيكل الدولة الروسية في محاورها كافة , أيّد الثورة كتّاب وعارضها آخرون، لكن الحياة تبقى مستمرة وإبداع الناس لا توقفه انعطافات التاريخ رغم تأثيرها عليه , وقد جرت في بداية الثورة محاولات لكتابة مسرحيات كبيرة توازي الحدث توثِّق ما جرى في تلك المدة وتلقي الضوء على الأحداث التي رافقتها , فقد ظهرت أعمال تصور اندلاع الثورة واقتحام القصر الشتوي وأخرى تعمل على نشر الدعاية للثورة والنظام الجديد.

اختلفت الأعمال المسرحية بعد الثورة عن تلك التي كُتِبت في بدلية القرن العشرين رغم ان عام 1917 لم يكن خطاً فاصلاً في الإطار ألتنظيري الأدبي لكنه كان مهماً للكُتّاب على الصعيد العملي , فقد كتب غوركي بعد الثورة عدة مسرحيات تجديدية وان كان عددها قليلاً وكانت ذات منحى كوميدي ساخر مثل “العامل الدءوب سلوفوتيكوف” و”فاسا الحديدي” ودراما “يغور بيليتشيف والآخرون” التي انتقدت طبقة التجار والبرجوازيين الصغار لأنهم اداروا وجههم عن الثورة ولم يدعموها , تكمن في جوهر المسرحية قضية الحتمية التاريخية والعقاب الإجتماعي ، تناول غوركي هذه المسألة  كما في مسرحية “آل أرتومونونوف” من جانب آخر , من داخل نفسية البطل الرئيس ,  إتجه الكاتب الى صيغة الحوار ومونولوج الاعتراف الذي سبق وإن استخدمه في “فوما غردييف”.

تجري أحداث المسرحية في زمن القياصرة قبل نشوب الثورة , ويشاهد المتفرج كيف يجري التحول الداخلي لشخصية البطل الرئيسي في المسرحية , فقد كان بوليتشوف في شبابه وكهولته يجمع المال ويرتكب الكثير من الخطايا لكن منعطفاً تاريخياً يكسبه البصيرة وينطلق احتجاج صامت في داخله ليلاقي عواصف العصر الجديد , وتملي عدة مواقف على البطل أن يكون شهماً وذا مروءة ويصير بوليتشوف يتطلع الى الأمام , إذ أن سقوط الحكم القيصري بالنسبة له مسألة محسومة لكن الأهم فيها ماذا سيحدث لاحقاً : “القضية لا تتعلق بالقيصر … بل بالجوهر نفسه…” .

نسيج المسرحية يبرر تماماً تسميتها، إذ ترتكز المسرحية على قدر البطل الرئيس والمصير الذي يؤول اليه , ورغم ان الشخصيات الأخرى لها حضورها وشخصيّتها غير المتكررة مثل كسينيا ذات الوسطية الباهتة ومالينا المخادعة وزوفنتسوف الحذر وبروبيتي المخبول لكنهم جميعاً يكوِّنون خلفية لشخصية بوليتشوف التي وصفها الكاتب بكل اقتدار.

امتازت مسرحيات غوركي في المدة السوفيتية باقتصار اغلبها على البطل الواحد , وكانت عناوين مسرحياته قبل ثورة أكتوبر تركّز على الفكرة الجماعية  (العناوين بصيغة الجمع) “البرجوازيون الصغار” و”المصطافون” و”الأعداء” و”أبناء الشمس” أما بعد الثورة انصَبّ اهتمام الكاتب في الغالب على شخصية واحدة كبيرة نسبياً، تُؤثر حركتها على القوانين الأساسية لسيرورة التاريخ.

تغلب على مسرحيات غوركي التعارضات الفلسفية و الاجتماعية الحادة والتصوير المتعدد الجوانب للشخصية واللغة المعبرة والدقيقة , وقد أثّرت هذه السمات كلها على تكوين الفن المسرحي وتطوره خلال الثلاثينيات و الأربعينيات من القرن العشرين.

حملت المسرحيات المكتوبة في بداية عشرينيات القرن الماضي طابعاً  دعائياً واضحاً ورمزياً مجرداً (كما في مسرحية “عصيان الماكنة” لأليكسي تولستوي عام 1924 و”دون كيخوت المُحرَّر” لألكساندر لوناتشارسكي عام 1922 و”مشعلو الحرائق”  عام 1924 وغيرها) , وسار تَشَكّل المسرح الجديد في اتجاهات فنية منوعة وظروف صعبة للبحث عن الوسائل الجمالية التي تعبِّر بصدق عن هيجان ذلك العصر الثوري , وأثَّر ذلك في الحاجة لفن واقعي قريب من فهم المواطن البسيط وأحاسيسه , لكن النصف الثاني من عقد العشرينيات شهد كتابة نماذج حقيقية لفنٍ اشتراكيٍ ممتاز , وبقيت الموضوعة الرئيسة فيها  الثورة والحرب الأهلية , ووجدت الحياة السلمية في زمن ما بعد الثورة انعكاساً لها في المسرحيات الهزلية والساخرة الهجائية.

أبرز نماذج تطور المسرح السوفيتي هي : “العاصفة البحرية” (1926) لبيل تسيركوفسكي  و”حب ياروف” (1926) لـ لافرينوف و”القطار المصفّح 14- 69″ (1927) لفييتشسلاف ايفانوف , صوَّرت هذه المسرحيات القضايا الأساسية في ذلك العصر : الشعب والثورة، الشعب والتاريخ، إعادة ترتيب وعي الطبقة المثقفة (الإنتليجينسيا) وحياة الجماهير الفلّاحيّة، ودور الحزب الشيوعي في الثورة والحرب الأهلية.

كانت هناك محاولات في بداية العشرينيات لرفع مستوى المسرح والعودة به الى محاكاة نماذج أوستروفسكي رائد المسرح الروسي في القرن التاسع عشر. فظهرت مسرحيات بولغاكوف الرائعة مثل “ايام آل توربين” و”شقة زويكا” و”الجزيرة القرمزية”. , وبرز في تلك المدة فسيفولود ميرخولد الذي قدم مسرحيات تعبيرية ذات طابع تجديدي وتقليد لأعمال كتاب المسرح في القرن التاسع عشر على غرار مسرحية غوغول “المفتش العام” ومسرحية غريبويديف “ذو العقل يشقى” , وظهرت كذلك مسرحيات تتناول حياة الكادحين مثل رائعة نيكولاي بوغودين “وتيرة الإنتاج” التي تطرقت الى بناء مصنع كبير لإنتاج الجرّارات  الزراعية.

 

 

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com