مقالات

العراق… فساد الحكومة… فساد الشعب

بيدر ميديا.."

العراق… فساد الحكومة… فساد الشعب

صادق الطائي

 

مع اقتراب موعد إجراء انتخابات مجالس المحافظات في 18 كانون الأول/ديسمبر الجاري، تتصاعد الخلافات بين ترحيب من الطبقة السياسية، ورفض من قطاعات واسعة من الشارع، لهذه الحلقة من حلقات الإدارة في العراق، التي اتُهمت بترسيخ الفساد في محافظات العراق، وقد تم تجميد مجالس المحافظات وإيقاف عملها بعد مطالبة انتفاضة تشرين 2019 بذلك، ورضوخ البرلمان في دورته السابقة لهذا المطلب، وإصداره قرارا بتجميد عمل مجالس المحافظات، ومن ثم تعزيز القضاء لهذا القرار في إصدار المحكمة الاتحادية قرارها بعدم دستورية استمرار عمل مجالس المحافظات.
إن آخر انتخابات لمجالس المحافظات شهدها البلد كانت عام 2013، والآن يتم التحضير لها والمشاركة بها وبقوة من كل الفرقاء السياسيين، لإحياء وتفعيل الحكومات المحلية، لكن عددا من الباحثين ومراكز الدراسات أشاروا إلى أن هذه المجالس مثلت بصورة جلية كارثة من كوارث الفساد المستشري في العراق، إذ يقف في صدارة لائحة الاتهام الموجهة للحكومات المحلية في العراق، اتهامها بهدر المال العام ونهبه، عبر ترويج المشاريع الوهمية والسيطرة على مداخيل المشاريع الخدمية في المحافظات. كما تُتهم مجالس المحافظات بعرقلة الكثير من المشاريع الاستثمارية والخدمية، نتيجة شيوع أساليب البلطجة وفرض الأتاوات التي تمارسها الميليشيات والجماعات المسلحة، التي تمثل الأذرع العسكرية للأحزاب السياسية، الأمر الذي أدى إلى إضعاف جودة تقديم الخدمات للمواطنين. والنتيجة كانت تكالب القوى السياسية على مقاعد الحكومات المحلية لتكريس النزاعات والصراعات السياسية داخل المحافظات، حيث تم ترسيخ نظام المحاصصة، وأصبحت الحكومات المحلية مصدرا رئيسيا للمال السياسي الملوث بشبهات الفساد.

القانون ليس الرادع الوحيد للفساد، بل يجب أن تكون هناك ثقافة النزاهة وحفظ المال العام، وهنا يجب إعطاء الدور الريادي لوزارات الثقافة والتربية والتعليم العالي لوضع مناهج دراسية خاصة

وهنا تجدر الإشارة إلى أنه طوال عقدين من الزمن ومن الوضع المضطرب، الذي عاشه العراق، مع كل تطبيق لحلقة من حلقات الديمقراطية فيه، يثار نقاش قديم متجدد. محور النقاش هو سؤال: لماذا تتم إعادة تدوير الفساد والفاسدين في البرلمان والحكومة المركزية وحكومات المحافظات والإقليم؟ أليس انتخاب الأشخاص الصالحين، الذين لم تتلوث أيديهم بالفساد مهمة الناخب في المقام الأول؟ وهنا يمكننا الإشارة إلى مفهوم خاطئ ترسخ في عقول الكثيرين مفاده، أن الديمقراطية هي صندوق الانتخابات فقط، وإن ما يفرزه الصندوق هو ما يريده الشعب، وفي مثل هذه المواقف يضيف بعض القدريين مقولة منسوبة للتراث الديني هي (كما تكونوا يولى عليكم)، فهل يعنى ذلك إننا فاسدون وسنبقى فاسدين إذ تم تدوير الفاسدين في طبقتنا السياسية طوال عشرين عاما؟
قال لي صديق في نقاش دار حول وضع العراق، إن الكثير من العراقيين يركزون على موضوع استشراء الفساد في العراق، وهذا أمر سلبي، فتساءلت متعجبا: لماذا؟ كيف يكون كشف الفساد أمرا سلبيا؟ أجابني أن كثرة الحديث عن الفساد والفاسدين رسّخ الأمر في عقل رجل الشارع، وأشاع سياقا خطيرا هو (حشر مع الناس) لنواجه بنتيجة خطيرة هي، أن الفساد تحول لسلوك جمعي لدينا. وأضاف عندما كان الفساد سابقا كلمة مرعبة، وجريمة مخلة بالشرف، كان الناس يتحدثون عنه همسا، أما عندما شاع الأمر وأصبح علكة تمضغها الأفواه، بعلم ودراية، أو من دون ذلك، في منصات التواصل الاجتماعي، لم تبق رهبة أو خوف أو خجل من استشراء الأمر، حتى أصبح الفاسد اليوم يظهر على شاشات التلفزيونات ويقول بملء فمه (كلنا فاسدون، كلنا سارقون) ، فهل حقا كلنا فاسدون؟ يعزو بعض الباحثين أمر استشراء الفساد في العراق إلى ريعية الاقتصاد العراقي، إذ أن الشعب في غالبيته العظمى يعتاش بالمعنى الحرفي على ما تمنحة الدولة من مرتبات ومخصصات ومعونات، والدولة بدورها تدير أكبر رأسمال في البلد والمتمثل باستخراج النفط وبيعه وصرف ما تجنيه من أموال على ما يعرف بالميزانيات التشغيلية، من دون تفكير في مشاريع تطوير تنموية مستقبلية، أو إنعاش قطاعات الصناعة أو الزراعة، أو الخدمات التي من المفروض أن توفر دخلا للدولة عبر ما تجنيه من الضرائب، والنتيجة هي أن الحكومة في العراق ممسكة بمصدر الدخل الأكبر، الأمر الذي يرسخ غياب مفهوم المواطنة والمواطن (دافع الضرائب) الذي من حقه محاسبة الحكومة إذا قصرت في عملها، والمطالبة بكشف الفاسدين ومعاقبتهم. النتيجة أصبح المواطن يعيش نوعا من الفصام، إذ يطالب بأعلى صوته بالقضاء على الفساد والمحسوبية والمحاصصة، طالما كان الأمر مجرد شعارات يصرخ بها في ساحات التظاهر، لكن حالما تُمس مصالحه نراه يتحول إلى متواطئ مع الفساد، بل ممارس له وساعٍ للاستفادة من علاقاته بقريب سياسي، أو نسيب يشغل منصبا حكوميا، وربما كان المثال الاوضح الذي يمكننا الاشارة له هو السياق الجاري عندما يذهب شخص ما لإنجاز معاملة في دائرة خدمية، إذ نراه يبحث عن معارف في هذه الدائرة أو تلك، لينجزوا له ما يطلبه من خدمة حتى إن تجاوز في سلوكه على حق الآخرين. وهذه هي أولى خطوات ترسيخ الفساد.
يرى باحثون أن جواب سؤال (هل نحن فاسدون؟) يكمن في المقام الأول في الإشكالية التربوية، ويؤكدون على أهمية وضع مناهج تربوية وثقافية يتم ترسيخها عبر وسائل الإعلام المختلفة، لخلق ثقافة النزاهة وحفظ المال العام عبر استراتيجية طويلة المدى، لغرض ترسيخ سلوكيات الولاء والانتماء لدى الأفراد. إذ إن القانون ليس هو الرادع الوحيد للفساد، بل يجب أن تكون هناك ثقافة النزاهة وحفظ المال العام، وهنا يجب إعطاء الدور الريادي لوزارات الثقافة والتربية والتعليم العالي لوضع مناهج دراسية لكل المراحل، للمساعدة في خلق ثقافة الحرص على المال العام والنزاهة في التعامل، وتقليص روح الأنانية الفردية والسمو بالروح الجماعية. والعمل على تثقيف المجتمع وتحويل ولائه الضيق بصورة تدريجية من العائلة والعشيرة إلى الوطن، عبر ترسيخ قيم المواطنة. وعود على بدء في شأن مجالس المحافظات وتقويم أدائها نقول؛ إن الحكومات المحلية وترسيخ اللامركزية أمر جيد بالتأكيد، وقد مارسته بنجاح العديد من الدول، وإن انتخاب الحكومات المحلية انتخابا ديمقراطيا حقيقيا من أبناء المحافظات أمر جيد، لكن فساد هذه الحلقة من حلقات الحكم في العراق مماثلة لما جرى ويجري في الحكومة المركزية، وإن الحل هو المعالجة الحقيقية التي ترسخ قيم النزاهة ومعالجة الفشل والفساد، وذلك عبر ترسيخ أنظمة فعالة وجدية لتقويم أداء المؤسسات الحكومية، من خلال مبدأ محاسبة تكاليف الفساد المادية وغير المادية، لكي لا تكون مبرراً لتجميد إلغاء خطط مكافحة الفساد لارتفاع تكاليفها عن تكاليف الفساد. كما يجب خلق طرق فعالة للحد من ظاهرة تسهيل غسيل الأموال التي تتبعها شبكات التخادم بين الطبقة السياسية ومافيات الفساد المنتشرة، وبضمنها مافيات السلاح والمخدرات والاتجار بالبشر، وتداخل ذلك مع بعض الانشطة السياسية والاجتماعية في العراق. والتأكيد على التحفيز على القيام بالواجب وعدم ارتكاب المخالفات عن طريق الترغيب والترهيب، وذلك عبر تعميق دور الإدارة من خلال تكثيف الجهود لتطويق مشكلة الفساد والسيطرة عليها ومعالجتها والوقاية من عودتها، عبر اتخاذ القرارات الحاسمة والعمل على تشكيل لجان مختصة مستقلة لمكافحة الفساد تمارس عملها عبر الصلاحيات الحقيقية الممنوحة لها والمدعومة قضائيا.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com