الصداقة والصراع بين جان بول سارتر والبير كامو
كان أحد أيام حزيران/ يونيو عام 1943 يوما خاصا للرجل القصير الواقف في بهو المسرح في باريس، فقد كان يوم العرض الأول لأولى مسرحياته، ليضيف الكتابة المسرحية إلى بقية مواهبه، التي أثارت إعجاب الطبقة المثقفة الفرنسية، بشكل خاص، والأوروبية بشكل عام. ولم يكن ذلك الرجل سوى جان بول سارتر Jean-Paul Sartre فيلسوف فرنسا الأول، وأشهر نقادها الأدبيين، الذي أصبح آنذاك أشهر من كبار نجوم السينما في الوقت الحاضر، حيث كانت أشهر الصحف الفرنسية تتحدث عنه بشكل يكاد أن يكون يوميا. وأثناء غرقه في التفكير بالمسرحية، اقترب منه شاب أسمر طويل القامة مبتسما، وقال «أنا كامو». ولم يكن الاسم غريبا على سارتر، فقد كتب نقدا أدبيا مكونا من ستة آلاف كلمة حول أولى روايات البير كامو Albert Camus «الغريب» التي أثارت ضجة كبيرة في الأوساط الأدبية وقتها. وفي الوقت نفسه كان كامو تواقا للقاء أشهر شخصية ثقافية في فرنسا، لاسيما أنه كان يكتب عن إنتاجه الفلسفي والأدبي منذ عام 1938. وأثارت لباقة ورقة كامو إعجاب سارتر. وكان ذلك بداية لأهم ثنائي في الثقافة الفرنسية للنصف الثاني من القرن العشرين. وقد تعددت أوجه الاختلاف والتشابه بين الاثنين، حيث كان سارتر من أسرة متوسطة بورجوازية، كان دائم الافتخار بها، ودرس في إحدى أشهر الجامعات الفرنسية. وكان قصير القامة بشكل ملحوظ حيث لم يتجاوز طوله المتر والثلاثة وخمسين سنتيمترا، مع كونه أبعد ما يكون عن الوسامة. وكان كذلك لا يرى بعينه اليمنى، وكانت غريبة الشكل. أما البير كامو، فقد فكان شخصا مختلفا تماما، إذ كان طويلا ووسيما، ما أثار حسد سارتر. وكان من أب فرنسي وأم إسبانية عملت خادمة، فقد كانت عائلته متواضعة جدا، ولم يكن كامو يخفي ذلك، بل كان مصدر فخر له. وكان كذلك من مواليد الجزائر، وخريج جامعتها، التي لم تكن من الجامعات البارزة، لكن سارتر وكامو، كانا كاتبين بارعين، على الرغم من كون كامو ربما الأفضل. لكن سارتر كان متزعما حلقة من المثقفين، أو مدعي الثقافة، كرهها كامو، كما كره عشيقة سارتر، سيمون دي بوفوار، الفيلسوفة والكاتبة الشهيرة، وكان يميل إلى الوحدة. واشترك الاثنان بعدم قابليتهما على تحمل الانتقاد، خاصة سارتر الذي لم يكن على خلاف دائم مع كبار الفلاسفة في عصره وحسب، بل مع أغلب من عرفهم من الرجال. ويذكرنا تصرف سارتر برمز الثقافة الفرنسية في القرن الثامن عشر، الأديب والفيلسوف فولتير، الذي كان نرجسيا إلى درجة مرضية.
انتقل كامو إلى باريس في تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1943 ليعمل لدى دار النشر التي كانت تنشر كتبه، بالإضافة إلى كتب سارتر. وتوطدت الصداقة بين الاثنين تدريجيا، حيث أن إعجاب الرجلين بالمسرح كان عاملا مشتركا مهما بينهما، حتى أن سارتر عرض على كامو تمثيل البطولة في إحدى مسرحياته، لكن كامو اعتذر عن ذلك. وأخذت شهرة كامو ككاتب تبرز بسرعة، حيث استخدم رواياته كوسيلة للتعبير عن آرائه الفلسفية، وتحول إلى نجم في عالم الصحافة والأدب الفرنسيين يوازي سارتر، الأكبر منه سنا بسبع سنوات. وعلى الرغم من علامات الود الواضحة بين الرجلين، فإن سارتر سرعان ما أخذ يشعر بالضيق من كامو بسبب أمر شخصي وغير متوقع، الا وهو النساء، إذ عُرٍف الاثنان بعلاقاتهما النسائية العديدة، وكان سارتر يقول، إن صحبة المرأة تجعله ينسى معاناته من قبحه. وكان من يساعده في هذا عشيقته الكاتبة والفيلسوفة سيمون دي بوفوار، التي كانت تشجع الفتيات بمختلف الوسائل على إقامة علاقة مع سارتر. وفي إحدى المرات كتب سارتر إلى سيمون، يبلغها بأنه انتصر على زير النساء كامو بالنسبة لإحدى الفتيات حيث جعل شقيقتها تقنعها بالكف عن ملاحقة كامو، وملاحقته هو بدلا منه. ومما هو جدير بالذكر أن سيمون دي بوفوار حاولت التقرب من كامو، لإقامة علاقة معه، إلا أنه صدها بحزم.
أصبح الاثنان الأبرز في مجالين فلسفيين، المجال الأول، الفلسفة الوجودية التي أسسها الفيلسوفان نيتشه (ألماني) وكيركغارد (دانماركي) في القرن التاسع عشر، واعتبرت أن العالم والحياة تافهان وعديما المعنى. ولذلك على الإنسان أن يفرض معناه الخاص ومبادئه عليها، كي تكون للعالم والحياة قيمة حقيقية. وتنص هذه النظرية كذلك على أن وجود الإنسان ليس جزءا من خطة وضعتها قوة أعلى منه، وبالتالي فإنه حر، لكن هذه الحرية تشكل مشكلة بالنسبة له في الوقت نفسه، لأنها مسؤولية قد تؤدي إلى نتائج سيئة.
بقي التوتر بين عملاقي الثقافة الفرنسية مخفيا في البداية، حتى أن سارتر ألقى سلسلة من المحاضرات في الولايات المتحدة عام 1945 وذكر فيها كامو كرمز للأدب الفرنسي لتلك الفترة. وكان كامو ينشر مقالاته المثيرة للجدل بشكل يومي في جريدة «الأزمنة الحديثة» التي كان سارتر رئيس تحريرها.
وكان المجال الثاني هو الفكر الشيوعي، حيث كان الاثنان يدافعان عن طبقة العمال والمستضعفين. وكان الفكر الشيوعي مثيرا للجدل آنذاك، خاصة أن العالم في تلك الفترة كان يعاني من الحرب الباردة بوجود قوتين شيوعيتين كبيرتين، أي الاتحاد السوفييتي والصين. وكان الكثير من المثقفين الفرنسيين قد اعتنقوا الفكر الشيوعي، لسبب لا نعرفه. وبالنسبة لسارتر، فقد اعتنق الفكر الشيوعي إلا أنه لم ينضم أبدا إلى الحزب الشيوعي، على الرغم من تأييده للاتحاد السوفييتي والصين بشكل كبير، متجاهلا تجاوزات الدولتين، التي عانى منها شعبيهما الكثير. أما كامو، فلم يعتنق الفكر الشيوعي وحسب، بل انضم إلى الحزب الشيوعي الفرنسي، ثم الحزب الشيوعي الجزائري لفترة قصيرة في شبابه.
بقي التوتر بين عملاقي الثقافة الفرنسية مخفيا في البداية، حتى أن سارتر ألقى سلسلة من المحاضرات في الولايات المتحدة عام 1945 وذكر فيها كامو كرمز للأدب الفرنسي لتلك الفترة. وكان كامو ينشر مقالاته المثيرة للجدل بشكل يومي في جريدة «الأزمنة الحديثة» التي كان سارتر رئيس تحريرها. لكن الخلاف بدأ بالتصاعد تدريجيا على شكل خلاف فكري، حيث كان سارتر يؤيد الاتحاد السوفييتي مهما ارتكب من أعمال شنيعة، أدت إلى مقتل أو سجن الكثيرين، فكل هؤلاء الضحايا، بالنسبة له، ثمن مقبول من أجل هدف أسمى، ما أثار حفيظة كامو، الذي اعتبر ذلك غير مقبول على الإطلاق. وكان سارتر مؤيدا مندفعا للعنف الثوري لاعتقاده بضرورة إزالة النظام الحالي، فبالنسبة له «أن الإنسان حُكِمَ عليه بالحرية مهما كان الثمن» على عكس كامو الذي عارض أفكاره.
اعتبر كامو أن الحرية أمر نسبي، حيث أن الإنسان يجب أن يعرف حدوده، وأن الحرية المطلقة هي حق الأقوى في الهيمنة على الآخرين. وقال إن هناك تناقضا بين العدالة والحرية، حيث أن العدالة المطلقة تتحقق عن طريق الحد من جميع التناقضات، وبالتالي فإنها تقضي على الحرية، ولذلك يجب أن تكون هناك تسوية بين العدالة والحرية، وتحقيق التساهل في التعامل السياسي، وتقبل الحدود التي يفرضها الواقع. وأضاف أنه يختار الحرية، فحتى إن لم تتحقق العدالة، فإن الحرية تحافظ على القدرة على مقاومة الظلم، وتبقي الاتصال ممكنا. وبشكل عام كان كامو الأكثر واقعية، حيث آمن بوجوب التسوية والتنسيق بين النظريات المختلفة. وأما سارتر، فاعتقد بإمكان تحقيق العدالة والحرية المطلقين، وأن ذلك قد تحقق فعلا عن طريق الشيوعية، واعتقد كذلك باستحالة حصول العمال على الحرية في الفقر والعالم الرأسمالي، الذي يعطيهم خيارين، فإما الموت أو العمل في مهن وضيعة. ولذلك، فإن ازاحة المستبد (صاحب العمل) وإعطاء العمال استقلالهم عن طريق الشيوعية يمكنهم من اختيار مصيرهم والعيش دون حاجاتهم المادية محققين الحرية والعدالة بشكل مطلق والمساواة.
أخذت النقاشات بين الاثنين تزداد حدة تدريجيا حتى أن كامو خرج في إحدى المرات غاضبا موصدا الباب بعنف، لكن الخلاف لم يكن قد وصل مستوى العلن بعد.
نشر كامو عام 1947 رواية «الطاعون» التي بينت وصول كامو إلى قمة المستوى الأدبي في فرنسا وأوروبا، وبالتالي وصوله إلى أعلى درجات إنتاجه الأدبي، حيث بيع منها مئات آلاف من النسخ وأصبحت، إلى جانب كتابه «أسطورة سيسيفَس» (1942) من علامات الأدب الفرنسي الفارقة. وكان كامو يستخدم إنتاجه الأدبي كوسيلة لإيصال أفكاره السياسية والفلسفية إلى القراء، وكان ذلك جليا عندما نشر كتاب «الثائر» عام 1951 الذي كان ربما الجزء الثاني لكتاب «أسطورة سيسيفَس» حيث شرح كامو فيه وجهة نظره حول مستقبل البشرية، وقدم نفسه كمرجع في النظريات الفلسفية. لكنه فوجئ برد فعل سارتر ومؤيديه من المثقفين، حيث حقد عليه سارتر، بعد قراءته للكتاب لأنها ناقضت أفكاره. ومع ذلك لم يصل الأمر إلى حد القطيعة بين الاثنين، إذ قام كامو بنشر دراسة عن الفيلسوف الألماني نيتشة في جريدة سارتر، وأراد أن يتبعها بالجزء الثاني، إلا أن سارتر رفض ذلك، وطلب من صحافي شاب في التاسعة والعشرين من عمره القيام بهذا، ما أثار غضب كامو معتبرا ذلك إهانة له. وأخذ سارتر يسمي كامو في محادثاته الاجتماعية، بـ«قنفذ الشارع من الجزائر». وعلى الرغم من ذلك نشر كامو في الجريدة نفسها مقالا يهاجم معارضيه والماركسية، واستغل سارتر هذا بنشر رد عليه في العدد نفسه يستهزا به وبآرائه. واستمر الخلاف في التصاعد حتى أصبح علنيا في صيف عام 1952، ما سبب ضجة في فرنسا، حيث بيعت كل نسخ جريدة سارتر، ما اضطر إلى إعادة الطبع ثلاث مرات، وتناولت الصحف الرئيسية الأمر، وكأن أزمة سياسية خطيرة قد حلت بفرنسا. والغريب في الأمر أن جميع القوى اليسارية هاجمت كامو، ليس في اوروبا فقط، بل في الشرق الأوسط كذلك، حيث شن الحزب الشيوعي العراقي حملة شعواء ضده. أما كامو، فقرر الانسحاب من هذه الضجة والتفرغ إلى عمله. وحصل عام 1957 على جائزة نوبل للآداب، وسُئِل في المؤتمر الصحافي للجائزة عن علاقته بسارتر، فضحك قائلا، إن العلاقة على أحسن ما يرام لأن أفضل العلاقات هي تلك التي لا يلتقي طرفاها ببعضهما بعضا.
توفي كامو عام 1960 في حادث سيارة عن عمر ناهز السادسة والأربعين عاما. واستغل سارتر هذا الحادث المأساوي لصالحه بكتابة نعي رقيق لكامو» فلم يكن ليفوت هذه الفرصة ليبرز كشخصية بارزة. وبعد ذلك استمر سارتر في أعماله الاستعراضية مثل مهاجمة الرئيس الفرنسي ديغول، الذي رفض أن يلقي القبض عليه على أساس أنه من غير الممكن القبض على فولتير، وربما لم يدرك ديغول درجة النرجسية المشتركة بين فولتير وسارتر، وأن فولتير كان في الحقيقة قد قضى فترة في سجن الباستيل. وقام سارتر بالاشتراك في مظاهرات وتشجيع العمال على الاضراب، وحتى نجح في أن يُلقى القبض عليه ليظهر أمام الجميع وكأنه مناضل، وأصبح أيقونة مظاهرات عام 1968 في فرنسا. وتخلى عن تأييد الاتحاد السوفييتي، لكنه أعلن تاييده للصين مدعيا أن الأعداد الهائلة لضحايا الثورة الثقافية لم تكن سوى أمر عديم الاهمية.
وحصل سارتر أخيرا عام 1964 على جائزة نوبل للآداب، وادعى أنه كان يريد رفضها، وأنه لم يشعر بالإهانة عندما منحت لكامو قبله. وبهذا الشكل حقق سارتر أحلامه أخيرا، وأصبح النجم الوحيد في الساحة الثقافية، ومرجع عالم الفلسفة مستمتعا بحياته حتى توفي عام 1980.
٭ باحث ومؤرخ من العراق