الترامبية في بعض ملامحها
يعتبر بعض الباحثين أن مصطلح “الترامبية” هو تعبير عن تيار فكري آخذ بالتبلور منذ تولّي الرئيس دونالد ترامب الإدارة في البيت الأبيض، وهو ليس عابراً أو ظرفياً، وإنما هو امتداد موضوعي لتراكم طويل الأمد في السياسة الأمريكية، في حين يراها آخرون أنها ردّ فعل سياسي طارئ ومؤقت ومرهون بوجود الرئيس ترامب على رأس السلطة في الولايات المتحدة.
وثمة سؤال آخر يتمحور حول جوهر “الترامبية”، أهي وليدة التطورات الجديدة والشاملة في الأوضاع الدولية، خصوصاً بعد تراجع دور الولايات المتحدة عقب غزو أفغانستان 2001 واحتلال العراق 2003 وفشل سياساتها لمواجهة “الإرهاب الدولي”؟ أم هي محاولة شعبوية لرئيس امتهن التجارة وسعى لوضع السياسة في خدمتها، لاسيّما برفع أكثر الشعارات رنيناً وصخباً متجاوزاً على ما هو مألوف من سياسات تقليدية اعتادت عليها واشنطن؟
وبعد ذلك فهل أصبح الوقت كافياً لتحديد الملامح الأساسية للترامبية سواءً أكانت تياراً فكرياً جديداً أم نهجاً سياسياً ارتبط بالرئيس الخامس والأربعين وسُجّل ماركة تجارية باسمه؟ ثم ما هي خصائص الترامبية وسماتها داخل منحى السياسة الأمريكية وانعكاساتها عالمياً، لاسيّما مستقبل العلاقات الدولية؟ الأمران جديران بالدراسة والتأمل بغض النظر عن “المصطلح” وما يمكن أن يتضمّنه من حمولة فكرية أو سياسية، إذْ يبقى جزءًا من ظاهرة نحاول التعرّف على ملامحها الأساسية:
الملمح الأول- البزنس، “العمل التجاري” حيث يمثّل جوهر الترامبية فكراً وممارسة، لأنها تقوم على فلسفة توظيف السياسة في خدمة التجارة، وعلى الرغم من أن عدداً من الرؤساء جاءوا من ذات المهنة، لكن ترامب أخضع السياسة للبزنس، وهو لم يتصرّف أكثر من كونه “رجل أعمال” في حين أنه رئيس أكبر دولة في العالم، وقد مضى بسلوكه التجاري شوطاً بعيداً حدّ التطرّف بإخضاع السياسة والعلاقات الدولية لاعتباراته.
الملمح الثاني- إعادة القرار في السياسة الخارجية إلى البيت الأبيض، بالدرجة الأساسية، وإضعاف ما سواه من مراكز مؤثرة، مثل وزارة الخارجية ووزارة الدفاع “البنتاغون” والمخابرات المركزية الأمريكية CIA، ويدلّ على ذلك الإقالات أو الاستقالات لعدد من كبار المسؤولين والأركان في اتخاذ القرار، وربما كان أهمهم وزير خارجيته جيم ماتيس.
الملمح الثالث- إملاء الإرادة على الحلفاء طبقاً لقاعدة امتثالهم له ومشاركتهم “الحيوية” في تنفيذ القرار الأمريكي، سواء كان ذلك يتّفق مع مصالحهم أو لا يتّفق ، وقد أجرى العديد من الرؤساء الأوروبيين تعديلات على سياسة بلدانهم الخارجية تبعاً لمواقف واشنطن ، حتى وإن عبّروا عن تبرّمهم منها.
الملمح الرابع- التخلّي عن قيم الثقافة الأمريكية للحقوق والحريّات التي كانت واشنطن تتباهى بها تقليدياً وأخذت تضيق ذرعاً من انفتاحها، وخصوصاً إزاء المهاجرين، فأغلقت الأبواب وحاولت بناء أسوار لمنع الهجرة.
الملمح الخامس- العزلة والانقسام والتفرّد في السياسة الخارجية، وقد ازدادت واشنطن تدخّلاً بشكل مباشر في اختيار قيادات المنظمات الدولية، فترجّح كفّة هذا وتحول دون وصول ذاك في تصرّفات فجّة ومنفّرة للدبلوماسية الدولية.
وأخذ المجتمع الدولي ينظر بعين عدم الثقة للسياسة الأمريكية وقراراتها المتفردة فيما يتعلق بالانسحاب من عدد من المنظمات والمعاهدات الدولية مثل: اتفاقية الشراكة التجارية عبر المحيط الهادئ (يناير/كانون الثاني/ 2017) وهي أولى الاتفاقيات التي انسحب منها ترامب، واتفاقية باريس للمناخ (يونيو/حزيران/2017) والانسحاب من اليونسكو (اكتوبر/تشرين الأول/2017) والاتفاق بشأن الملف النووي الإيراني (مايو/أيار/2018) والانسحاب من مجلس حقوق الإنسان (19 يونيو/حزيران 2018) وتجميد المبالغ المخصصة للأونروا (آب أغسطس/ 2018) والانسحاب من معاهدة نزع السلاح النووي مع روسيا ( 1 فبراير/شباط/2019) والموقعة مع الاتحاد السوفييتي السابق والاتفاقية الدولية لتنظيم الأسلحة التقليدية (26ابريل/ نيسان/ 2019) وغيرها.
الملمح السادس – ضعضعة التوازن الدولي بخلق الفوضى، لاسيّما بتشجيع الهويّات الفرعية وتفتيت الدول والبلدان وفرض الحصارات وإضعاف الثقة بميثاق الأمم المتحدة وقواعد القانون الدولي والاتفاقيات والمعاهدات الدولية بما يزعزع أركان النظام الدولي ويشيع جواً من التوتر وعدم الاستقرار، بما فيه منع أي تقاربات أو تحالفات سواء تخصّ الأصدقاء أو الخصوم، ولعل الموقف من البريكست والاتحاد الأوروبي ، ناهيك عن الموقف من الصين وروسيا خير مثال على ذلك.
الملمح السابع- الرهان على التهديد بالقوة حتى وإنْ لم تستخدمها، حين تلجأ في الكثير من الأحيان إلى الضغوط الاقتصادية للتأثير على سياسات الدول، العدوّة والصديقة لابتزازها، من خلال هيمنة الشركات الكبرى والسيطرة على الموارد وفرض العقوبات الاقتصادية: روسيا والصين وتركيا وإيران وكوريا وسوريا وقبل ذلك العراق، متجاهلة مصالح الشعوب وما ينجم من ردود فعل بسبب ذلك.
الملمح الثامن – التناقض والتخبّط القائم على المنفعية والذرائعية، خصوصاً بنفي حق الشعوب بتقرير مصيرها والمثال الأصرخ هو فلسطين، حيث تنكّرت الترامبية لسياسات الرؤساء السابقين بمن فيهم: أوباما وجورج دبليو بوش وكلينتون، فقامت بنقل سفارتها إلى القدس، وأعلنت عن “إسرائيلية” الجولان السورية “بحكم الأمر الواقع”، وفي الحالين ثمة تعارض صارخ مع قرارات مجلس الأمن وما يسمّى بـ”الشرعية الدولية”.