الزلزال السوري: روايات إنسانية لن ينساها التاريخ
كثيراً ما نعتقد أننا عرفنا أقسى الآلام، حتى جاء الزلزال المدمر، الذي ضرب تركيا وسوريا، وغيّر مفاهيم الكلمة وأبعادها. نعم عرفنا حروباً قاسية ومستمرة، وقد خلفت الكثير من الدمار عبر سنوات طويلة من الصراعات، لكننا لم نعرف لحظة مدمرة تختصر سنوات الحرب كلها، وتكون أكثر شراسة وحدة وموتاً من الموت نفسه. نعم عرفنا موت الأبناء والأمهات والآباء والأصدقاء، عبر مراحل مختلفة من حياتنا، ولكننا لم نشهد موت مدن كاملة في ثوان معدودة. لم نشهد بنايات تطبق على أصحابها، كما تطبق قطعة من البسكويت فوق قطعة أخرى لتخرج من بين القطعتين أشلاء وأصوات تطلب النجدة ولا طريق للوصول إليها. صورة البسكويت هي صورة حيّة نقلها لنا، وبالتحديد أحد المسعفين اللبنانيين بعد عودته من مهمته الانقاذية.
قال والدموع تتراكم في عينيه في لقاء مع الإعلامي اللبناني مالك مكتبي، بعد أن سأله عن أقسى لحظات عاشها خلال مهمته: «يا رب نجينا. في جبلة بسوريا. الشوفة مش متل الحكي. المنظر مش متل الحكي. مباني طابقة على بعضها. كيف البسكويت. السقوف هابطة فوق أصحابها. هبطت على الشهداء وهني نايمين بتخوتهم أو عم يحاولوا يطلعوا من الشقق. أطفال طاروا من أماكنهم وبقوا على قيد الحياة ومات أهاليهم. أب يركض ليجد عائلته كلها مستشهدة»!
ذلك المنقذ عاد إلى بيروت، ولكنه لم يستحم ولم يغير بدلته. وكأنه لم يرغب بالانفصال عن آلام الناس، الذين تركهم في سوريا. ولا يريد أن يبتعد عن أولئك الأطفال الذين تيتموا. وكأنه اعتنق الآلام ديناً والجروح هوية. عيناه تنطقان بألف قصيدة حزن وألف حرقة وألف جرح. عاد مثل الكثيرين من المسعفين بعد إنقاذ عدد من الأشخاص، لكنه ترك روحه عالقة مع أولئك الذين سمع أصواتهم، ولم يستطع الوصول إليهم، أو مع الذين لا صوت لهم، ولكن لديهم من ينتظرهم ومن يخلص لمحبتهم من أهل وأحباب. وقد يكون ذلك المخلص كلباً. نعم كلب. كيف نمحي من ذاكرتنا صورة ذلك الكلب، الذي رفض الابتعاد عن مكان صاحبه، حيث علق تحت الأنقاض. وقف جريحاً تائهاً عاجزاً ينتظر خروجه الذي تعثر على المسعفين.
إنها روايات من العذاب تجسدت في الأيام القليلة الأخيرة. روايات حارقة كان أبرزها قصة الأم التي نامت إلى جانب جثة ابنها. مشهد يلخص عظمة الأمومة. لحظة إنسانية لا تستطيع الكلمات أن تعطيها حقها. نامت إلى جانبه للمرة الأخيرة وهو ملفوف بكيس أسود. هل تذكرت في تلك اللحظة ساعة المخاض. هل عادت إليها كل اللحظات التي جمعتهما منذ ولادته. هل نامت وهي تأمل أن يستيقظ صباحاً ويخبرها أنه مجرد حلم بائس لا أهمية له ثم يعانقها بقوة؟
وفي مشهد آخر خرج أب من تحت الأنقاض، ولكنه رفض أن يترك يد ابنته. فالتقط المصور تلك اللحظة الإنسانية الآثرة. كان يجلس فوق أنقاض منزله، وهو يمسك بيدها. لم يتركها لساعات طويلة. ربما كان ينتظر معجزة أن تدب فيها الحياة من جديد. كان يحترق في مكانه وحيداً متشبثاً بها. تكلم معها كثيراً وأخبرها بأنه يحبها وأن تلك اليد ستبقى عالقة في قلبه.
من بين تلك القصص الحزينة نبت أبطال حقيقيون ليؤكدوا أن المحبة الحقيقة ممكنة وأن الأخوة بين الناس، مهما اختلفت هوياتهم ليست شعاراً عابراً. من بين هؤلاء الأبطال مسعفون لم يأبهوا بالموت، ولم يخشوا سقوط الركام عليهم، وهم يعملون ليل نهار لإخراج العالقين تحت الحجارة. كانوا يبتهجون ويفرحون مع خروج كل ضحية يجدونها على قيد الحياة. يرصدون أنفاس الناس ويعدونها. يحملون الأطفال الناجين برفق وحنان وفرح وكأنه ميلاد جديد، ويركضون بهم إلى سيارات الإسعاف. وحين يتعبون من الحفر والتنقيب ينامون في أماكنهم لثلاث ساعات فقط، ويعاودون العمل وهم في سباق مع الزمن.
لم يكن المسعفون وحدهم الذين أبهروا العالم بتفانيهم في تأدية مهامهم الإنسانية، بل أيضاً الممرضات. لقد رصدت الكاميرات في العديد من المستشفيات كيف هلعت إحدى الممرضات – حين ضرب الزلزال المدمر – لإنقاذ الأطفال المرضى الذين كانوا قابعين في المستشفى. هكذا حملت طفلة وركضت إلى الغرف المجاورة، بعد أن طلبت من العاملين معها إخراج الأطفال الآخرين من الغرف المجاورة. وفي مشهد مصور آخر، وفي مستشفى أخرى في «غازي عنتاب» بالقرب من مركز الزلزال، ركضت الممرضات إلى غرفة حديثي الولادة وأمسكن بالحاضنات كي لا يقعن على الأرض ولم يفكرن بالفرار والنجاة بأنفسهن. إنها الرحمة والمحبة والتفاني المطلق. صفات إنسانية نادرة في أيامنا هذه، ولكنها تصنع الفرق وقت الشدائد.
ولا يمكننا أن ننسى أولئك المراسلين، الذين ينقلون لنا الحدث ويستحيلون في معظم الأوقات إلى مسعفين للأهالي ويواسونهم في مصابهم. يبكون مع بكاء المنكوبين، وأحياناً يقفون عاجزين أمام هول الكارثة.
لم يبق أحد لديه، ولو القليل من الإنسانية إلا وتحرك لنجدة الأهالي. طوابير من المساعدات وصلت من خارج البلد وداخله إلى الناجين الذين أصبحوا في العراء. كان آخرها مواكب انطلقت أمس من دير الزور، ومن أهلها الطيبين لمساعدة المنكوبين في الشمال السوري. عندما كنت صغيرة كنت أسمعهم يقولون في مديحهم: «الدير ديرة الوفا». وقد أثبت الزمن أنهم فعلاً أهل الوفاء.
يصادفنا هذه الأيام عيد الحب، الذي ترجمه كل هؤلاء المتفانين بأفعالهم، ربما كي نؤمن أن الخير ما زال موجوداً، رغم صعوبة الأقدار وشراسة الأيام.
كاتبة لبنانية