مجتمع

الامبراطور نيرون في التاريخ والثقافة الشعبية والسياسية.

بيدر ميديا.."

الامبراطور نيرون في التاريخ والثقافة الشعبية والسياسية.

زيد خلدون جميل

نظر الامبراطور نيرون إلى مشهد لا ينسى، ألا وهو مشهد أعظم مدينة في العالم تحترق، والسعادة تسكره، لاسيما أن من أشعل الحريق كان الامبراطور نفسه. وتناول الامبراطور قيثارته وأخذ يغني، ولِمَ لا؟ فهل هناك مناسبة أكثر جلبا للفرح من حرق روما، وهو العازف والمغني والشاعر المعروف في المدينة التي تحترق أمامه.
لم يكن هذا حدثا تاريخيا، بل مشهدا مترسخا في عقل كل إنسان تقريبا، بكون أحد أهم رموز ما يسمى بالثقافة الشعبية، وهو ما يعتقده الناس معلومات تاريخية، دون أن تكون كذلك في الحقيقة. ونيرون في رأي أغلب الناس هو الامبراطور الذي قتل والدته بعد أن أقام علاقة جنسية معها، وقتل زوجته الثانية بضربها ببطنها عندما كانت حاملا بطفله، وكان قد قتل زوجته الأولى. وبعد ذلك أجبر أحد كبار رجال الدولة على الانتحار، كي يتزوج أرملته.
وبعد إخماد الحرائق في المدينة استولى على المناطق المتضررة ليبني عليها قصره الجديد الهائل. وفي أثناء حكمه كانت هوايته الخروج متنكرا في شوارع روما، وطعن الناس حتى الموت، ثم رمي جثث ضحاياه في المجاري. وعندما شعر باحتمال منافسة ابن الامبراطور السابق له قام باغتصابه وقتله بمادة سامة عديمة الطعم والرائحة، سببت مقتله خلال ثوان. وفي الحقيقة أن قائمة أعمال نيرون الشريرة طويلة إلى درجة الملل، لكن القارئ ينسى سؤالا بالغ الأهمية، وهو هل كان ما قيل عن نيرون حقيقة؟ فالقارئ يستمتع بقراءة أعمال القدماء الشريرة دون أن يشك بصحتها، ناسيا سهولة التلاعب بها، وبالتالي التلاعب بالرأي العام على مدى آلاف السنين. فهل كان نيرون ضحية مؤامرة حولته إلى شيطان؟ فالهوة بين الثقافة الشعبية والتاريخ أكبر مما يعتقده الكثيرون.

تحليل تاريخي

عندما بدأت محاولات إزالة المواد البركانية التي غطت مدينة بومبي الرومانية نتيجة لثوران البركان القريب منها، مسببا اختفاء المدينة، وقتل من كان فيها عام 79 ميلادية، ونجح العلماء في إزالة آثار المواد البركانية، فوجئوا بكتابات على جدران البنايات تنم عن إعجاب السكان بالامبراطور نيرون، الذي توفي قبل تدمير المدينة بأحد عشر عاما، على الرغم من أن الامبراطور في تلك الفترة كان معاديا لنيرون. وهذه الكتابات أصلية، أي أنها كتبت عندما كانت مدينة روما تعج بالناس في القرن الأول الميلادي. وليس امراً شائعا أن يكتشف العلماء شيئا مكتوبا من تلك الفترة، فلا يوجد احتمال لتزوير أو خطأ. وكان هذا بداية لمراجعة جدية لتاريخ نيرون. وإذا قمنا بتحليل ما قيل عن نيرون من أفعال، فسنجد تناقضا واضحا. ونبدأ بحريق روما الشهير، الذي حدث عام 64 وجعلته الشر بعينه في الثقافة الشعبية، حتى أصبح مقولة شهيرة لوصف الكوارث التي تسببها أعمال إجرامية، فقد توصل المؤرخون إلى أن نيرون لم يكن موجودا في روما أصلا عند اندلاع الحريق الذي دمر ثلاثة أحياء تدميرا كاملا، وأصاب سبعة أحياء بأضرار بالغة، مع العلم أن روما تكونت من أربعة عشر حيا آنذاك.

كان نيرون نتاج عصره والطبقة السياسية والاجتماعية التي حكمت الامبراطورية الرومانية، ولذلك، فإن الصراعات السياسية والاغتيالات، لم تكن غريبة، بل كانت أمراً اعتاد عليه جميع من حكم روما في العهد الامبراطوري أو قبله.

وكان ذلك الحريق الهائل قد بدأ في إحدى المناطق التجارية وسرعان ما انتشر سريعا في المدينة، لكون الخشب جزءاً أساسيا من مساكن ومحلات الطبقات الفقيرة والمتوسطة من المدينة، وكون عدد السكان أكبر مما كانت المدينة قادرة على استيعابه، وهبوب رياح جافة وقوية مقبلة من افريقيا. وعلى الرغم من أن الحرائق كانت تحدث في روما بين الحين والآخر، وقدرة فرق مكافحة الحريق في المدينة على إخمادها، فإن ذلك الحريق بالذات، فاق قدرة السلطات المحلية.. ومما زاد من صعوبة مكافحة الحريق عصابات اللصوص الذين كانوا ينهبون المحلات، وعصابات أخرى من المخربين، الذين كانوا يحاولون إذكاء النيران. ولم تخمد الحرائق إلا بعد ستة أيام من العمل الشاق من قبل السكان وسلطات المدينة، لكن أين كان نيرون في خضم كل ذلك؟ ما أن سمع بالحريق حتى عاد مسرعا إلى روما، لتفقد الجهود لإنقاذ المدينة. وقام بفتح المباني العامة وحتى حديقة القصر الملكي (احترقت بناية القصر) وأصدر الأوامر لبناء منشآت مؤقتة لإيواء الأعداد الكبيرة من السكان، الذين فقدوا مساكنهم. وأمر بجلب الطعام من المناطق والمدن المجاورة لسد النقص الحاد في الاغذية في المدينة، ما سبب انخفاضا حادا في أسعار المواد الغذائية. وأمر نيرون بإعادة بناء المنازل المهدمة، على أسس آمنة على نفقة خزينة الامبراطور الخاصة، كي لا تندلع الحرائق مرة أخرى، فهل كان ذلك تصرف شخص سبب تلك الكارثة؟
لكن محاولاته هذه أثارت غضب أعضاء مجلس الشيوخ، الذين كانوا حاقدين عليه أصلا بسبب إصلاحاته الاجتماعية، التي سبقت الحرائق المرعبة، والتي مالت إلى صالح الطبقات الفقيرة. وشملت مشاريعه الإصلاحية إقامة مناسبات رسمية احتفالية يختلط فيها سكان المدينة باختلاف طبقاتهم، ولم يكن ذلك سارا للأثرياء وأعضاء مجلس الشيوخ الذين كانوا يشكلون الطبقة العليا من المجتمع الروماني. وكانت قوانين المدينة تنص على الحصول على موافقة مجلس الشيوخ للقيام بأي مشاريع إنشائية ضخمة، لكن حلول الكارثة سمح للامبراطور نيرون بتجاوز الموافقة، وأخذ زمام المبادرة. ولم ينسَ أعضاء المجلس ذلك، وعبّروا عن استيائهم، وبدأت افكار التخلص منه في النمو في تلك الفترة، لاسيما أنه كان قد رفع الضرائب على الطبقة الغنية لتمويل مشاريعه الضخمة لتنشيط الاقتصاد. أما عن قصره الجديد الذي بناه بعد الحريق وبولغ في وصف فخامته العظيمة، فقد أثبت علماء الآثار أنه لم يكن أفضل من قصور بقية الأباطرة الرومان.
كان نيرون نتاج عصره والطبقة السياسية والاجتماعية التي حكمت الامبراطورية الرومانية، ولذلك، فإن الصراعات السياسية والاغتيالات، لم تكن غريبة، بل كانت أمراً اعتاد عليه جميع من حكم روما في العهد الامبراطوري أو قبله. لكن هل كان الأكثر قسوة في هذا المجال؟ إذا أخذنا حكاية مقتل ابن الامبراطور السابق، الذي كان في الثالثة عشرة من عمره، بنظر الاعتبار، فإن أداة القتل كانت مادة سامة عديمة الطعم والرائحة أدت إلى مقتل الصبي خلال ثوان، لكن علماء الآثار اكدوا عدم معرفة الرومان بسم من هذا النوع بسبب تخلفهم العلمي. وإذا كانت الأعراض التي ذكرها المؤرخون القدماء القلائل، الذين كتبوا عن نيرون صحيحة، فإن الصبي مات على الارجح من نوبة صرع، وليس بسبب مادة سامة. وأما بالنسبة لقتل زوجتيه الأوليين، فلم يكن لديه سبب لقتلهما. ويرجح المؤرخون الحاليون أن زوجته الثانية توفيت بسبب آلام الولادة. ولم ينسَ سكان روما من الفقراء ما قدمه لهم امبراطورهم من خدمات كبيرة، وهو الذي فقد قصره الملكي بسبب الحرائق، وازدادت شعبيته حتى أن طريقة تسريحة شعره أصبحت التسريحة الأكثر انتشارا في الامبراطورية.

نيرون

مشاكل نيرون

من الملاحظ عند دراسة الدولة الرومانية في عهد نيرون عدم زيارته لقطعات الجيش الروماني المتمركزة على حدود الامبراطورية، وعدم اهتمامه بشكل عام في الأمور العسكرية وتقوية الجيش الروماني، الذي كان السبب الرئيسي في بقاء الامبراطورية على قيد الحياة. وقد يكون ذلك سبب ميزة أخرى لعهد نيرون، وهي الثورات التي بدأت بالاندلاع في عهده، ومنها ثورة الملكة البريطانية بوديكيا، المعروفة، التي كادت أن تنهي الوجود الروماني في بريطانيا. وما أثار استغراب المؤرخين الحاليين اهتمام نيرون بإقامة نزالات المصارعة، أي Gladiators، وامتلك مدرسة للمصارعين وعين مصارعا معروفا قائدا للحرس الامبراطوري، وبالاضافة إلى ذلك كان من هواة الغناء والشعر، وكان يستمتع بالغناء أمام الجمهور، ما أضر بمظهره كامبراطور، فاستخف به أعداؤه ووجدوه هدفا سهلا. وإذا كانت المؤامرات ضده والإشاعات المغرضة قد ظهرتا إلى العيان سنوات قبل وفاته، فإن كل ذلك يعني أن مشكلته الأكثر احتمالا لم تكن قسوته المفرطة، بل ضعفه الواضح في إدارة الدولة، وعدم إتقانه اللعبة السياسية، وفشله في فرض سلطته وهيبته على الجميع، حيث لم تنفعه شعبيته بين أوساط الشعب، نظرا لبروز القوى المضادة له في الأوساط السياسية والعسكرية، التي تعتبر القوى المؤثرة في الدولة. واستمر الأمر على هذا المنوال حتى وجد نفسه وحيدا أمام اعدائه، فهرب إلى منزل خارج روما، وأنهى حياته هناك منتحرا عام 68 ميلادية، وهو الذي لم يتجاوز الثلاثين من عمره وبعد ثلاثة عشر عاما من الحكم.

فترة ما بعد نيرون

ما أن انتحر نيرون حتى بدأ أعداؤه بمحاولة مرعبة لمحو كل أثر له، ابتدأت بحملة لاغتيال كل من سبق وأيده من المشاهير في الدولة. وأخذوا يمحون ذكراه بتدمير تماثيله، أو تحويرها حيث قاموا بتغيير تماثيله، لجعلها تشبه الأباطرة الذين أتوا بعده، ولهذا فإن عدد التماثيل التي عثر عليها حتى الآن له صغير جدا. وما أثار سخرية علماء الآثار عثورهم على تمثال لنيرون تم تحويره ليشبه امبراطورا حكم بعده، ثم قام نحات مجهول في القرن السابع عشر بتحوير ذلك التمثال مرة أخرى ليشبه نيرون مرة ثانية، لكن النتيجة كانت تمثالا ذا سمات قاسية ضعيفة العلاقة بنيرون الحقيقي. لكن محو ذكراه بدأ بداية صعبة، فلم يكن بالسهولة التي توقعها أعداؤه بسبب شعبيته في أوساط العامة، وكانت شعبيته في الأجزاء الشرقية للامبراطورية كبيرة، إلى درجة انتشار الاعتقاد بأسطورة عنه مفادها انه لم يمُت وسيعود يوما ما، وما زاد الطين بلة أن ثلاثة أشخاص على الأقل ادعوا أنهم نيرون، وقادوا حركات مناوئة لروما كان مصير جميعها الفشل ومقتل قادتها. لكن ماذا حدث بعد انتحاره؟ سادت الفوضى الامبراطورية الرومانية لعدة سنوات بسبب الصراع بين القادة العسكريين، حتى سيطر القائد العسكري فيسباسيان على السلطة عام 79 ميلادية.

محاولات لتقديم وجهة النظر التاريخية

كانت أولى المحاولات للكشف عن تاريخ نيرون، حسب الأبحاث الأكاديمية وبشكل حيادي عام 2011 عندما أقيم معرض خاص لآثاره في العاصمة الإيطالية، وتبعه معرض في ألمانيا عام 2016، ثم معرض في المتحف البريطاني قبل أيام قليلة. ونشر كتاب شهير عنه عام 2019، بالإضافة إلى عدة مقالات في صحف غربية شهيرة، لكن هذا كان استثناء، فالتاريخ عادة لا يدون بهذا الشكل إلا نادرا. ويعتقد الكثيرون أن التاريخ يكتبه المنتصر، وهذا اعتقاد في محله، حيث يحاول أغلب المؤلفين إرضاء الحاكم. لكن هذا ليس العامل الوحيد الذي يساهم في تشويه التاريخ، فهناك كذلك الأخطاء غير المقصودة، ومحاولة الكثير من المؤلفين إضافة العديد من التفاصيل المختلقة لجعل كتبهم مثيرة للاهتمام، وبالتالي يزداد عدد القراء. وأكثر التفاصيل إثارة للقراء هي الحياة الجنسية، والأمراض النفسية للشخصيات التاريخية، ولذلك نجد العديد من الكتب عن شخصيات تاريخية معروفة تحتوي على تفاصيل مثيرة للاهتمام، لا علاقة لها بالتاريخ، فتتحول الشخصية التاريخية إلى مهووس جنسي، أو قاتل متسلسل، أو أي شيء مرعب آخر. وتستمر هذه الظاهرة في الوقت الحاضر، وتتوسع لتشمل عالم السينما، حيث تساهم الأفلام السينمائية بشكل أساسي في تقوية هذه الاعتقادات المختلقة بين الناس، وكل هذا يشوه البحث الأكاديمي في التاريخ، ففي نهاية المطاف تضيع الحقيقة، ونصبح غير متأكدين من أي شيء يتعلق بالشخصية الحقيقية لنيرون، أو كليوباترا وغيرهما.
لكن طالما أن السينما المصدر الرئيسي للمعرفة التاريخية بالنسبة لأغلب الناس، فإن الكثيرين سوف يمتلكون الذكريات المختلقة، وليس الحقائق التاريخية.

دور صناعة السينما

استغلت صناعة السينما العالمية صورة نيرون في الثقافة الشعبية لتعرضها في مجموعة من الأفلام الشهيرة، مع مبالغات واضحة جعلت صورته الشريرة تترسخ في أذهان المشاهدين، وأصبح ذلك التمثال المحوَر النموذج الذي استند إليه أغلب الممثلين الذين مثلوا دوره، على المسرح أو السينما، لاسيما الممثل الشهير بيتر يوستينوف، الذي كان دور «نيرون» الظهور الأشهر لهذه الشخصية في السينما العالمية، في فيلم «كوفاديس» Quo` Vadis (1951). وكان بيتر يوستينوف، قد حاول كل جهده للحصول على ذلك الدور، فلم يكن أفضل من تمثيل رمز الشر في العالم للوصول إلى الشهرة. وظهرت شخصية نيرون في ثمانية وعشرين فيلما سينمائيا.

باحث ومؤرخ من العراق

 

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com