مقالات

قراءة في رواية (زمن النساء )

بترجمة أ. د. محمد الجبالي

أ.د. ضياء نافع

صدرت هذه الرواية عام 2016 في القاهرة بترجمة عن الروسية مباشرة , والتي قام بها الاستاذ الدكتور محمد نصر الدين الجبالي – رئيس قسم اللغة الروسية في كلية الالسن بجامعة عين شمس المصرية الشهيرة . تقع الرواية في (261) صفحة من القطع الكبير , وهي من تأليف الكاتبة الروسية المعاصرة يلينا تشيجوفا ( ولدت عام 1957 في مدينة بطرسبورغ) , و الرواية هذه هي اول عمل ابداعي لها ينشر بالعربية , وقد صدرت الرواية عن الهيئة المصرية للكتاب ضمن (سلسلة الجوائز) , وهي سلسلة تعنى بترجمة الاعمال الادبية الحاصلة على جوائز من محتلف اللغات .  لقد بدأت بقراءة رواية ( زمن النساء ) صباحا ,  وانهيتها مساء , وبعد الانتهاء من القراءة خنقني الحزن , اذ ان هذه الرواية كانت تدور حول نفس ذلك الزمن , الذي كنت انا فيه ايضا في موسكو , وتذكرت طبعا كل الاحداث التي عشناها في فترة الستينات , عندما كنّا نقلّي البطاطا بعد عملية تقشيرها مثل هؤلاء النساء في تلك الرواية , من اجل ان نتناول  العشاء ( الفاخر اللذيذ !) , وكنّا نغسل ملابسنا بايدينا ونغليها بسطل خاص بعض الاحيان في المطبخ مثل ابطال تلك الرواية , وكنّا نقف بالطابور وقتا طويلا جدا لشراء اللوازم الضرورية مثل ابطال تلك الرواية , وكنّا نقرأ الشعارات المعلقة في كل مكان عن المستقبل الوضّاء الذي ينتظره ذاك الجيل , الذي سيعيش في ظل النظام الذي سيأتي قريبا , حيث سيأخذ كل مواطن فيه ما يريد حسب حاجته ورغبته , ويمنح المجتمع كل ما يستطيع حسب طاقته وقدرته الذاتية دون اي رقابة من الآخرين , اذ ستختفي حتى الدولة نفسها !!!. 

     وتذكرت  ما كتبه الشاعر العراقي احمد الصافي النجفي عندما عاد الى مدينته الحبيبة بغداد وهو اعمى (بعد سنوات طويلة من الغربة عنها ) وقال بيت الشعر الذي ذهب مثلا وهو – ( يا عودة للدار ما أقساها ++ اسمع بغداد ولا أراها).  

لقد عدت أنا ايضا (اثناء قراءة صفحات تلك الرواية) الى مرحلة شبابي قبل اكثر من خمسين عاما , عندما كنت طالبا في موسكو , وكنت ( اسمع!) مثل احمد الصافي , موسكو , و لا اراها , ولكني رأيتها فعلا على صفحات رواية ( زمن النساء ) , عندما كانت النساء يقشرن البطاطا ويقلونها لتناول العشاء , وعندما كانت النساء يغسلن الملابس باليد , او يغلونها في سطل خاص في المطبخ , وعندما كنّ يقفن  بالطابور عدة ساعات للحصول على الطعام , وكيف كنّ يخفتن اصواتهن عندما يتكلمن  خوفا من الوشايات وكتابة التقارير, وعندما كنّ يستمعن الى نشرات الاخبار الموجهة في جهاز التلفزيون , الذي حصلن عليه بعد اللتي واللتيا وبالاقساط …

الرواية تسير بهدوء , واحداثها بسيطة للغاية , فهي تدور حول حياة ومصير ثلاث من السيدات العجائز مع طفلة بكماء ولدت نتيجة علاقة خداع قام بها رجل مع بطلة الرواية انطونينا ولاذ بالفرار , وتموت الام بمرض السرطان وتترك ابنتها في رعاية تلك السيدات الثلاث , اذ انها لا تريد لها ان تذهب الى حضانات الدولة وهي بهذه العاهة وذاك التاريخ غير الشرعي المعيب. وتتمحور كل الرواية في الحياة اليومية لمجموعة النساء , وهي الحياة السوفيتية في الستينات , والتي لا يفهمها ولا يتصورها على حقيقتها الا الذين عاشوها فعلا , هذه الحياة المليئة بالصعوبات الانسانية , والتي ترسمها كاتبة الرواية – وبمهارة وموهبة – عبر تلك المعاناة اليومية الصغيرة . ولا يمكن لي ان اكتب خلاصة او مضمونا وجيزا لهذه الرواية سوى القول , ان القارئ الذي يريد ان يعرف كنه الحياة السوفيتية في النصف الثاني من القرن العشرين , عليه ان يقرأ هذه الرواية البسيطة والعميقة والرائعة بكل ما تعني هذه الكلمات .

ختاما , اريد ان احيي مترجم الرواية أ.د. محمد نصر الدين الجبالي على هذا العمل الترجمي الممتاز ,اذ استطاع فيه ان يصل الى المستوى الذي يحلم ان يصل اليه كل مترجم حقيقي وأصيل , وهو ان يمنح للقارئ نصا عربيا سليما , بحيث لا يشعر القارئ بانه يقرأ نصا مترجما , ولولا بعض المفردات الروسية البحتة ( والتي وضّحها المترجم بهوامش دقيقة ) , فان القارئ – اكرر- لا يشعر بان هذا العمل الابداعي الجميل كان مكتوبا باللغة الروسية . اضافة الى ذلك , فاني اريد ان احييه ايضا على تلك المقدمة العلمية والموضوعية والشاملة حول الادب الروسي المعاصر وكل السمات التي يمتاز بها هذا الادب الجديد  (وهي سمات وصفات جديدة كليّا بالنسبة للقارئ العربي المعاصر) , والتي كتبها الجبالي من الصفحة رقم (7) الى الصفحة رقم( 15) , والتي يمكن تسميتها ببحث علمي واضح المعالم . واخيرا , اريد اشير الى اني وجدت بعض المقاطع في تلك الرواية وكأنها مقاطع من الشعر ( وهي طبعا تأكيد رائع لموهبة المترجم ) , واختتم هذا العرض بمقطع من تلك المقاطع التي تمتاز بهذه الروح الشاعرية –

( الذكرى الاولى من طفولتي – الجليد .. باب كبير وفرس نحيل أبيض , وأنا وجداتي نمضي متثاقلات خلف عربة أحصنة . الحصان ضخم , ولكن متسخ لسبب ما , وهناك ايضا جرافات طويلة تنخر في الثلج المتراكم , وثمة شئ ما داكن يتمدد في العربة . تقول جداتي  انه نعش . أعرف هذه الكلمة , لكني أ تعجب من ذلك , لأن النعش في نظري يجب ان يكون شفافا ومصنوعا من الزجاج , حتى يمكن للجميع أن يروا امي وهي نائمة , ثم يرونها عندما تصحو بعد قليل . أعرف ذلك لكني لا أستطيع التعبير..)

اظهر المزيد

أ.د ضياء نافع

مواليد بغداد 1941 • ماجستير في اللغة الروسية وآدابها 1965/ 1966 – الاتحاد السوفيتي ودكتوراه في الادب الروسي 1970 / 1971 – فرنسا. • رئيس فرع اللغة الروسية في كلية الآداب بجامعة بغداد من 1975 الى 1984 • رئيس قسم اللغة الروسية في كلية اللغات بجامعة بغداد 1989 – 1990 • معاون عميد كلية اللغات بجامعة بغداد 1993 الى 2003 • عميد كلية اللغات المنتخب 2003 – 2006 . • حاصل على درجة الاستاذية (بروفيسور) 1996. • مدير مركز الدراسات العراقية – الروسية في جامعة فارونش الحكومية الروسية 2006 – 2012. • عضو اتحاد الادباء والكتاب في العراق / عضو شرف في اتحاد ادباء روسيا. • رئيس مجلس ادارة دار نوّار للنشر في بغداد .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com