مقالات

من سومر إلى التوراة

كتاب ” من سومر إلى التوراة” لعالم السومريات العراقي “د. فاضل عبد الواحد” والذي صدر في الثمانينات من القرن الماضي، يهتم بعرض أصالة الحضارة في بلاد وادي الرافدين، وكيف أنها أثرت في الدول المجاورة لها، ثم يركز بشكل أساسي على تأثيرها على العبرانيين وعلى التوراة كتابهم المقدس.

موغلة في القدم..

يؤكد الكاتب منذ البداية على أن الحضارة في العراق لها جذور موغلة في القدم، تمتد إلى أيام الكهوف وما يعرف بمرحلة جمع القوت، التي سبقت تعلم الإنسان الزراعة. هنا في شمال القطر وجد المنقبون أقدم أثار لاستيطان الإنسان الذي سموه “إنسان شانيدر”، نسبة إلى كهف “شانيدر” في محافظة السليمانية. كانت البدايات الأولى للإنسان في شمالي وادي الرافدين منذ وجوده في الكهوف في حدود 60 – 50 ألف سنة قبل الميلاد، وحتى ـدوار القرى الزراعية الأولى التي تعرف بين الباحثين بأدوار “جرمو” و”حسونة” و”حلف” على التوالي.

حضارة بلاد وادي الرافدين حصيلة جهد مشترك للسومريين والاكديين ومن تبعهم من بابلين وآشوريين، الخصائص المميزة للحضارة السومرية التي بدأت في النضج منذ العصر الشبيه بالكتابي نتيجة لمدنيات أدوار عصور ما قبل التاريخ السابقة، مثل دور العبيد في الجنوب، وأدوار “حلف” و”حسونة” في الشمال.

اختراع الكتابة

يعد اختراع الكتابة في حدود 3200 – 3000 ق. م بداية لما يعرف بالعصور التاريخية، عندما ابتدأ الإنسان وبالتدريج استخدام

الكتابة المسمارية

الكتابة لتدوين شؤون حياته اليومية، أي جوانب من تاريخه، وتعرف الحقبة الزمنية من 2850 وحتى 2400 ق. م بعصر فجر السلالات، الذي يتميز بظهور أولى السلالات السومرية التي شكلت أنظمة سياسية، تمثلت في دويلات المدن السومرية، ومن أهم المصادر عن هذه الحقبة هي الكتابات التي تركها لنا أمراء هذه السلالات، فضلا عن جداول أو إثبات الملوك السومريين، وعدد من النصوص الأدبية، التي تتحدث عن مآثر بعض ملوك وأمراء هذا العصر.

تأثير الحضارة وادي الرافدين

يؤكد الكتاب أن أهم الشواهد الدالة على أصالة حضارة وادي الرافدين أن باستطاعة الباحث أن يتتبع مراحل تطورها خلال العصور الزمنية المتعاقبة، إن تأثير حضارة وادي الرافدين على البلدان الأخرى يتمثل أولا في انتشار الكتابة، لقد شاع استعمال الخط المسماري بشكل لم يسبق له مثيل، من قبل كل كافة بلدان الشرق الأقصى، في حدود 1400 ق.م عندما أصبح وسيلة التدوين الرئيسية للوثائق الدبلوماسية المتبادلة، بين ملوك وأمراء وحكام العراق وسوريا وفلسطين ومصر والحيثيين والميتانيين، وكان الأورارتو في أرمينيا، الذين استخدموا الخط المسماري في كتابة لغتهم، في النصف الثاني من الألف الأول قبل الميلاد، آخر الأقوام التي استعارت الخط المسماري من بلاد وادي الرافدين.

ووصلت اللغة البابلية ذروة الشهرة  والانتشار خلال القرن الرابع عشر قبل الميلاد، عندما أصبحت لغة المراسلات الدبلوماسية بين أقطار الشرق الأدنى القديم. وفي عام 980 ، أحصى الأستاذ طه باقر ما يقرب من 250 كلمة تعود إلي أصل سومري أو بابلي، في حين أنها كانت تعد من الدخيل أو الأعجمي في اللغة العربية. أن الأدب العراقي القديم شأنه شأن الخط المسماري واللغة البابلية، انتشر هو الآخر في مناطق واسعة من بلدان الشرق القديم وأبرز ما عرف ملحمة كلكامش.

لقد أثبتت الدراسات المقارنة لأساطير الخليقة في الشرق الأدنى القديم أن الأصول السومرية- البابلية كانت مصدرا خصبا ومؤثرا، استقى منه الحيثيون والخوريون والكنعانيون والعبرانيون ثم الإغريق كثيرا من المعتقدات عن خلق الكون، فمن المعروف أن قصة الخليقة البابلية “إينوما ايلش” تعود إلى أصول سومرية أقدم، إذ أن هناك عددا من الأساطير السومرية التي تدور حول خلق الكون والإنسان .

 

الأثر على العبرانيين

حضارة وادي الرافدين أثرت بشكل واضح كل معتقدات العبرانيين حيث احتوت اسفار التوراة، وسفر التكوين على وجه الخصوص، علي كثير من المعتقدات التي ترجع إلى أصول سومرية وبابلية، والطريقة التي انتقلت بوساطتها تلك المعتقدات كانت من خلال الصلات التجارية والسياسية والحملات العسكرية، وأهم من ذلك كله من خلال وجود العبرانيين أنفسهم في بابل أثناء الأسر البابلي، وجود العبرانيين أنفسهم في بابل أثناء الأسر البابلي، الذي حدث مرتين خلال حكم الملك البابلى نبوخذ نصر الثاني، (605- 562) ق. م

كتاب من إلى التوراة

لقد كان لهؤلاء العبرانيين، الذين وقعوا في الأسر، وهم الذين تسميهم الكتابات المسمارية “اليهود”، نسبة إلى مملكة يهودا التي كانوا فيها، الدور الأكبر في تكوين الديانة اليهودية المعروفة الآن. إذ استمر كهنتهم بممارسة شعائرهم الدينية وبتحرير أهم فصول التوراة أثناء وجودهم في بابل، ويجمع الباحثون على أن الديانة اليهودية كما هي معروفة الآن قد ولدت أثناء الأسر في بابل، وعلى هذا النحو كان الأسر البابلي فرصة ثمينة لرجال الدين اليهود، مكنتهم من الإطلاع مباشرة على الوثائق المسمارية المدونة بالسومرية والبابلية، والخاصة بخلق الكون والإنسان والحياة والموت والثواب والعقاب.

إن خلق الكون في معتقدات السومريين والبابليين، وما تبعه من خلق النجوم والكواكب له ما يوازيه في بداية الإصحاح الأول من سفر التكوين حيث تعتبر التوراة أن المياه أصل الوجود، وأن السماء والأرض خلقتا بعد عملية فصل أيضا، وهي عملية ذكرتها الأسطورتان السومرية والبابلية على حد سواء، أما عن خلق الإنسان فالرواية تتطابق مع النصوص المسمارية القائلة بأنه خلق من طين. إذ تنص التوراة على أن الإنسان “جبل ترابا من الأرض”. وإذا كان الهدف الذي من أجله خلق الإنسان، في النصوص المسمارية هو أن يحمل النير بدلا عن الآلهة في سبيل إعمار الأرض، فإن مصيره في التوراة كان مشابها لهذا تماما أيضا، إذ كتب الرب عليه أن “يعمل الأرض التي أخذ منها” أي ليفلح ويكدح فيها.

جنة عدن

جنة عدن

يذكر سفر التكوين في الإصحاحين الثاني والثالث تفاصيل عن جنة عدن وأنهارها وعن خلق حواء من ضلع أدم، كما ويذكر خطيئة أدم ودور الحية في ذلك، وأخيرا خروج أدم من الجنة. ولمعظم هذه المسائل جذور سومرية – بابلية فيما يتعلق الأمر بجنة عدن فمن المحتمل أن التسمية جاءت من الكلمة السومرية بمعنى السهل، الأراضي الزراعية السهلة، ومما تجدر ملاحظته في المعتقدات السومرية – البابلية أن خلق الإنسان لم يكن مسألة جوهرية من عملية التكوين، فخلقه جاء متأخرا جدا أي بعد أن تم خلق .السماء والأرض، والشموس والأقمار والبحار والأنهار، وبعد أن وزعت المناصب بين الآلهة في العلى والأرض، والحقيقة أن الآلهة ما كانت لتفكر في خلق الإنسان اصلا لولا أعلنت فئة منها التمرد مطالبة بإعفائها من المهمة الشاقة التي فرضت عليها والمتمثلة بإصلاح الأرض وزرعها لإعمارها.

قصة أدبا

وصلت إلينا قصة أدبا مدونة علي أربعة رقم طين مهشمة عند نهاياتها، مما تسبب في ضياع قدر كبير من محتوى القصة، والقصة مدونة باللغة البابلية، تذكر القصة البابلية أن الإله “أيا” جعل “أدبا” نموذجا أمثل للإنسان فكان محبا للناس، يساعدهم في أعمالهم، ويساهم في توفير الطعام والشراب لسكان مدينته، وكان رجلا تقيا يخشى الآلهة ويقدم لها القرابين باستمرار. وتنسب إليه القصة العادلة بأنه هو الذي أشار على سكان مدينته “أريدو” بامتهان حرفة صيد السمك.

إن قصة أدبا هذه تذكرنا بقصة خروج أدم من الجنة التي تذكرها التوراة في سفر التكوين، لا شك في أن قصة أدبا تبدو مختلفة لأول وهلة في تفاصيلها العامة عن قصة أدم، غير أنها في اعتقاد الكاتب تلتقي مع القصة التوراتية في نقاط جوهرية عديدة

 

الأولى: أن كلتا القصتين تدوران حول ما يمكن تسميته بخطيئة الإنسان الذي فوت على نفسه وعلى البشرية فرصة الحصول حلى الخلود.

الثانية: في كلتا القصتين يجد الباحث أن هناك شيئا محرما كان علي الإنسان عدم الاقتراب منه “طعام وماء الحياة ” قصة أدبا و “شجرة الجنة” التوراة.

الثالثة: كلتا القصتين تدوران حول محور واحد وهو عصيان الإنسان لأوامر الرب. فقد عصى أدبا أبى الآلهة وأعظمهم وهو “أنو”، إله السماء، عندما رفض تناول طعام الحياة، وكذلك عصى أدم أوامر الرب أيضا عندما أكل من شجرة الجنة، وعلى الرغم من أن الصورتين معكوستان تماما، لكن العصيان في كلا الحالتين كان مخالفة لأوامر الرب، وكان سببا في إنزال اللعنة على الإنسان في الحالتين.

الرابعة: يلاحظ الباحث في القصتين أن هناك تأكيدا لوجوب نزول أو “خروج” الإنسان إلى موضع أدنى هو الأرض، عقابا له على خطيئته. فقد أصدر أنو أمره بأن يعاد أدبا من السماء إلي الأرض، وعلى غرار ذلك تذكر التوراة أن الرب أمر بخروج أدم من جنة عدن إلى الأرض.

الخامسة: يرى الباحث لي كلتا القصتين أن هناك خيبة أمل شديدة لحقت بالإنسان لعصيانه أوامر الرب، وأن النتيجة كانت وخيمة بالنسبة لبنى البشر عامة.

السادسة: نجد في كلتا القصتين أن هناك رمزا للشر حمل الإنسان على عصيان أوامر الرب، وأن كانت طريقة العصيان معكوسة تماما من قصة إلى أخرى. فالإله أيا بنصيحته المطولة التي أسداها إلي أدبا كان السبب المباشر في حمل الأخير على عصيان أوامر إله السماء انو، برفضه طعام وماء الحياة. وفى التوراة نجد أن الحية كانت السبب في إغراء حواء وأدم لعصيان أوامر الرب عندما أكلا من ثمر شجرة الخير والشر.

الراعي والفلاح

هناك حوار أو مناظرة سومرية بين الفلاح دموزي ( تموز) والراعي انكي امدو مدونة على أربعة رقم من الطين، تحتوي على 150 سطر، وقد كان لها تأثيرا في قصة قايين الفلاح وهابيل الراعي في التوراة، إن القصة التوراتية تلتقي مع النصوص السومرية في عدة نقاط هي:( تشابه الحرف- رابطة الأخوة- تقديم القربان إلى الأب- الخصومة- المفاضلة).

 

برج بابل

إن قصة برج بابل كما ترويها التوراة تعكس في مجملها العمل المتواصل لبناء وتجديد المدينة وبرجها، الذي شيده العبرانيون أنفسهم في عصر نبوخذ نصر الثاني، وإذا كانت التوراة ترجع بناء البرج إلى عصور قديمة، أي إلى ما بعد انتهاء الطوفان العظيم واستقرار الناس في سهل شنعارى، فإن ذلك ربما يستشف منه أن البرج قديم جدا وأنه كان موجودا قبل العصر البابلي الحديث. أما ما تدعيه التوراة من أن مدينة بابل دعيت بهذا الاسم  لأن “الرب بلبل لسان كل الأرض”، فإنه إدعاء لا يقوم على أساس فمن المعلوم أن اسم مدينة بابل سواء في السومرية أم في البابلية لا يعني سوى “بوابة الإله” وليس له أية علاقة ببلبلة اللسان.

سرجون وموسى

إن قصة مولد سرجون الأكدي تشبه إلى حد ما القصة المعروفة عن مولد موسى، إن قصة سرجون وموسى تلتقيان في نقاط عديدة، نذكر أبرزها:

– إن ولادة الطفلين في كلتا القصتين تحاط بالكتمان.

– تتطابق القصتان في روايتيهما عن وضع الوليد في سلة وإلقائه في النهر.

– في كلتا القصتين هناك من ينتشل الوليد ويرعاه “الغراف أكى” في قصة سرجون وابنة فرعون في قصة موسى.

غضب الآلهة وإنزال الكوارث نقطة مشتركة بين المعتقدات السومرية والتوراة أيضا، وكذلك وجود صلة بين الآلهة وأحد البشر المختارين.

نشيد الإنشاد

كما أن هناك تشابه كبير بين أناشيد الزواج المقدس لتموز ونشيد الإنشاد لسليمان، إن طقوس الخصب لم تكن أمرا غريبا بالنسبة للعبرانيين، ويتجلى ذلك في تجسيدهم العلاقة بين إلههم “يهوا” وبين الأرض التي نزحوا إليها وكأنها علاقة زوج بزوجته.

يجد الباحث في النصوص السومرية للزواج المقدس، وكذلك في سفر نشيد الإنشاد، أن هناك تأكيدا واضحا على مظاهر الخصب والنماء والتجدد وعودة الحياة إلى الطبيعة في موسم الربيع.

بقلم: سماح عادل

المصدر: كتابات

اظهر المزيد

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com