مقالات

حكاية من أرشيف الماضي المؤلم و المخيف ( من تجربة الجبل 8 )

محمد حسن السعدي

ورشات العمل في ذلك المربع الموجودة في قرية الصمود ، كانت تتضمن واحدة منهن , ورشة( غسل وتشحيم السيارات ) .. كانت الورشة تدار من قبل مجموعة عمال مصريين يعملون ليل نهار في غسل وتنظيف السيارات .

في عصرية من تلك الايام الصيفية من شهر تموز جاء شخصان يقودان سيارتين جديدتين ( سوبر ) تلك الموديلات التي يمنحها نظام البعث للضباط الذين يتخرجون تواً برتبة ملازم ثاني في الجيش العراقي ، وترجلا منهما وسلما مفاتيحهما الى مشرف العمل المصري في الورشة، كنت جالساً على كرسي أبيض بلاستيكي بجانبه في الحديث معه  , بعد أن غسلوا السيارتين بعناية رجع ا الضابطين وتحججا بعدم الاهتمام بسياراتهم وتنظيفها بشكل جيد ، أفتعلوا الذرائع وهجموا عليهم بطريقة حقيرة مع ركلات مدميه تحت مرأى الناس التي ألتمت حولهم ولا أحداً ينبس ببنت شفه ، رحلوا وتركوهم مرميان على الارض مضرجين بالدماء ، بعد أن ذاقوهم أهانة وضرب بارحين .

تركت المكان وذهبت الى مدينة الكاظمية بيت الحاج غازي في منطقة محلة الشيوخ حزيناً , ولعدة أيام لم أذهب الى العمل لتأثري بتراجيدية المشهد , مارست حياتي بشكل طبيعي , لكن منغصاً أخراً يعكر طريقي ويشل تحركاتي ، وتعد من المفارقات الموجعة والتي أقلقتني في أحد اللقاءات مع مالك ذلك المربع عبد الخالق مطلك الدليمي ( أبو بسيم ) , قال لي سوف أعرفك على شخصية شيوعية مهمة مختفية في بغداد ، عرفت منه أنه فالح حسن ( أبو بهاء ) , وأنه حالياً ذاهب بمهمة حزبية الى شمال العراق ليلتقي برفاقه في التنظيم وزوجته بنت المحامي الشهير ( القيسي ) وحسب المعلومات التي تلقيتها في الجبل فقد تم أعتقاله ومن خلال التحقيق معه تبين أن زوجته ( تعيش في الأعظمية منطقة ( راغبة خاتون ) بحماية أمنية مشددة مع أطفالها .

المعلومات التي في جعبتي عن ( أبو بهاء ) لحد تسللي من الجبل الى بغداد أنه كان معتقلا في فصيلنا ( الفصيل المستقل ) للشبهات حول أرتباطه بأجهزة البعث الأمنية , تظاهرت بلا مبالاة وعدم الاكتراث بالموضوع , في الوقت الذي قبل تسللي منحت رقم هاتف زوجة أبو بهاء من قبل الرفيق عمر الشيخ ( أبو فاروق ) مع توصية دقيقة ومهمة جداً منه وهي فقط الاتصال مرة واحدة ومن تلفون عمومي للتأكد من الذي سوف يرد على المكالمة وفي أثناء أتصالي كانت هنالك صوت امرأة في الطرف الثاني , المهم ما أستشفيته من حديثي مع ( أبو بسيم ) أن زوجة أبو بهاء تسكن في بيت بالأعظمية مع أطفالها , ووضعها جداً طبيعي !

صار شبه مؤكد لدى قيادة الحزب من خلال تلك الوقائع أن زوجه ( أبو بهاء ) أيضاً متورطة معه في العمل لصالح أجهزة البعث ، علماً أنها أيضا كانت كادر متقدم بالحزب الشيوعي العراقي , بعد الاعترافات الخطيرة التي أدلى بها ( أبو بهاء ) للجنة التحقيقية بقيادة حميد بخش ( أبو زكي ) في وادي ( كلي زيوه ) في منطقة بهدينان ، لقد كان ( أبو بهاء ) من أيام عدن وبيروت في نهاية السبعينات وقبل خروجه من العراق أرتبط بأجهزة البعث أثناء أعتقاله على أثر الهجمة التي تعرض لها الشيوعيين العراقيين .

لم يعد هناك كلاماً كثيراً لرفاق محلية البصرة بعد أن كانوا يعتبرون أبو بهاء مناضلاً من الطراز الأول ، وأن التنظيمات الاخرى في الفرات الأوسط وبغداد , والمحافظات الاخرى عاجزة عن تأهيل هكذا كوادر مناضلة وزجها للعمل في الداخل وسط الناس وبين الجماهير , كنت أحمل ميزة ، ساعدتني كثيراً في عملي الحزبي ( السري ) هي ذاكرتي الذهبية حيث لا أحمل معي لا عنوانين ولا أسماء ولا أرقام تلفونات أثناء تنقلي بين الجبل والموصل وبغداد وديالى , أستقريت نوعاً ما في بغداد رغم خطورة الوضع دائما تصادفك مفارز أمنية في الطرقات يطالبون بأبراز هويات الناس والمارة وأحياناً تتعرض الى التفتيش والسؤال أشبه بالتحقيق وكأنك متهماً أو مطلوباً لأجهزتهم القمعية .. فأنت بحاجة الى قلب من حديد  ( عندما أخبرته أن قلبي من طين .. سخر مني لأن قلبه من حديد .. قريباً ستمطر … سيزهر … وسيصدأ قلبه . “شمس التبريزي” , متصوف وشاعر فارسي ويعتبر المعلم الروحي لجلال الدين الرومي .

تمكنت بفترة زمنية قصيرة أن أمد شبكة من العلاقات ومن خلالهم كنت أتلقى الأخبار عن تطورات الوضع السياسي والاجتماعي بعضها كان حزب البعث يبثها كدعاية لجس نبض ردود أفعال الناس , فالكثير من هذه الأخبار كنت أتأكد منها قبل تدوينها وبعثها الى الجبل لانه نشرها بجريدة رسمية وتوزع بشكل سري في بعض مدن العراق مثل ( طريق الشعب ) , لابد من توخي الدقة والموضوعية في نشر الخبر ، فأنت بحاجه ماسه وضرورية الى تعاطف الناس معك .

إذاً .. يجب مخاطبتهم بواقعية عما يجري من أجل خلق أصطفافات جديدة وأرباك قوى العدو . مرة كنت قادماً من بغداد في منطقة لولان ، وفي تحرير جريدة الحزب ( طريق الشعب ) , كان هناك خبراً مهيئاً لنشره في الجريدة .. أن هناك مظاهرات وأعتصامات في كليتي أكاديمية الفنون الجميلة والتربية الرياضية بباب المعظم في أب ١٩٨٦ في هذا الوقت بالذات كنت في بغداد وتواجدي شبه يومي في المكان المحدد ، لم أرى أبداً هكذا مظاهر فما كان مني الا بايقاف نشر الخبر ، لو تم نشر هذا الخبر عبر مراسل مندس ، كم هي أضراره كبيرة على سمعتنا وثقة الناس بنا التي هي أصلاً مهزوزة وبحاجة الى نضالات طويلة وتضحيات كبيرة لأعادتها الى مجرى طريقنا , في ربيع عام ١٩٨٤ مر بِنَا عابر الى أيران وسرب خبراً أن هناك مظاهرات في منطقة ( السنك ) ببغداد تطالب برحيل نظام البعث ونشر الخبر في طريق الشعب ؟

 

 

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com