مقالات

سبع أساطير جديدة حول “غوركي”

أ.د. ضياء نافع

نشرت الاستاذة المساعدة في جامعة كولومبيا الامريكية د. ناتاليا بيلاوسوفا بحثا تفصيليا عن مكسيم غوركي بعنوان (سبع أساطير عن غوركي) , يتناول موقع غوركي في مسيرة الادب الروسي وتاريخه من وجهة نظر غير مطروقة بشكل واسع سابقا بالنسبة لمكسيم غوركي في روسيا بالذات وتاريخ آدابها , ونود هنا ان نستعرض هذا البحث للقارئ العربي ونتوقف ( قدر ما تسمح به طبيعة هذه المقالة طبعا ) عند بعض نقاطه  , ونتناقش  حولها مع الباحثة الامريكية المذكورة ( ذات الاصل الروسي كما هو واضح من اسمها ) .

نقطة الاختلاف الاساسية مع الباحثة الامريكية تكمن من وجهة نظرنا في عنوان بحثها , فكلمة ( اساطير ) تعني مسبقا موقفا واضحا و محددا ودقيقا حول تلك الجوانب , التي تناولها البحث المذكور, اذ انها ارادت ان تقول انها ( اساطير ) وليست حقائق ! , وهذا الموقف او الحكم المسبق بحد ذاته يتعارض مع المفهوم الموضوعي السليم لأي بحث علمي  .

( الاسطورة) الاولى , التي تتوقف عندها الباحثة كانت بعنوان (غوركي – كاتب ضئيل ) ( حاولت ان اتجنب ترجمة الصفة هنا كما جاءت في النص الروسي ( والتي تعني ايضا , تافه) , رغم معرفتي ان صفة (ضئيل) لا يمكن ان تعبربشكل كامل عن المعنى الذي ارادت الباحثة على ما يبدو اطلاقها على غوركي , وذلك لاني لم استطع (نفسيا  قبل كل شئ) ان اكتب تلك الصفة جنب اسم غوركي , رغم علمي مسبقا ان ناقل الكفر ليس بكافر !) .

تحاول الباحثة الاستشهاد بعدة اسماء روسية لامعة وتورد ما ذكروه عن غوركي , وهم نابوكوف وميرشكوفسكي وبونين وتشيخوف وتسفيتايفا , والاسماء الثلاثة الاولى تحدثوا سلبا عن غوركي بعد ثورة اكتوبر1917 , وكان موقفهم بالتالي تجاه غوركي سياسيا واضحا قبل كل شئ طبعا ( خصوصا بونين) , ولم تذكر الباحثة ذلك , بل أشارت الى تلك الآراء بشكل مجرد وعام , الا انها لم تغير او تتلاعب في رأي تشيخوف وتسفيتايفا الايجابي حول غوركي , وهذا موقف جيد من الباحثة طبعا , ولكنها توقفت عندهما بعد الاستشهاد  بآراء تلك الاسماء  , في محاولة لاضفاء الموضوعية على طرحها , وكأنها تريد ان تقول انها مع تعددية الآراء حول غوركي ( رغم انها اختارت العنوان للاسطورة الاولى بشكل واضح وصريح كما ذكرنا أعلاه ) , واظن انه يجب الاشادة هنا برأي تسفيتايفا بالذات ( اذ انها كانت ضمن اللاجئين الروس ايضا آنذاك) , والتي أشارت فيه , الى ان  غوركي هو الذي يستحق جائزة نوبل عام 1933 وليس بونين , لان غوركي يجسٌد ( العصر كله ) اما بونين فانه يمثٌل ( نهاية العصر ليس الا ).

الاسطورة الثانية بعنوان غوركي مؤسس الواقعية الاشتراكية , وتتناول الباحثة هنا هذا الموضوع الذي اصبح عتيقا في الدراسات الادبية داخل روسيا نفسها منذ ستينيات القرن العشرين , اي قبل انهيار الاتحاد السوفيتي والمفاهيم والمصطلحات المرتبطة بتلك الفترة , وخلاصته ان غوركي نفسه لم يستخدم هذا المصطلح لا في كلماته ولا في مقالاته حول الادب , وهذا يعني ان هذه النقطة هي فعلا (اسطورة) حول غوركي كما تسميها الباحثة ( انظر مقالتنا بعنوان – غوركي وستالين والواقعية الاشتراكية ).

الاسطورة الثالثة جاءت بعنوان غوركي المناضل ضد اللاعدالة الاجتماعية , وتتناول هذه الفقرة موقف غوركي من المجتمع  ,  تطرح الباحثة هذه (الاسطورة) فلسفيا , اذ انها تعترف , ان غوركي ( انتفض ضد الواقع المحيط به ) , ولكنه من وجهة نظرها ( مجٌد الشئ الذي اراد ان يلعنه , ولعن الشئ الذي اراد ان يمجٌده ) , تطرح الباحثة هنا موقف غوركي من الانسان وصراعه مع الموت وطموحه بالخلود والدور الذي تلعبه التضحية بالنفس في هذا المجال , وكيف ان غوركي أراد ان يغير النظم الاجتماعية كافة وحياة الانسان بشكل عام , رغم انها تشير , الى ان غوركي ( عكس – في الواقع – الانسان وكأنه وحش , بل حتى اسوأ من الوحش ) , ان هذه ( الاسطورة) تستحق التأمل والقراءة المعمقة رغم كل الآراء المتنافرة ( ان صح التعبير )  التي تتضمنها, القراءة المعمقة والموضوعية هذه ستؤدي الى مناقشة الآراء الواردة فيها وتحديد تناقضاتها ووضع النقاط على الحروف كما يقول التعبير المعروف .

الاسطورة الرابعة جاءت بعنوان (غوركي – كاتب مضاد للحداثة ) تتناول الباحثة في هذا الجزء موقف غوركي من كل الاتجاهات الادبية المتنوعة في عصره , وخصوصا تلك التي ارتبطت بـ ( العصر الفضي ) في تاريخ الادب الروسي , وهي فترة بداية القرن العشرين , وسنوات العشرينات بالذات من ( الرمزية ) و ( المستقبلية ) … الخ.

تؤكد الباحثة هنا , ان واقعية غوركي تختلف عن واقعية غانجيروف وأستروفسكي وغيرهم من الادباء الروس الكبار في القرن التاسع عشر , وتتحدٌث عن النظرة السوفيتية الى هذه الواقعية  (والتي كانوا يعتبرونها استمرارا  لما طرحه القرن التاسع عشروتطويرا  لها) وتشير الى انها نظرة ساذجة  وسطحية وغير دقيقة , بل انها ترى ان واقعية غوركي تكاد تقترب من ملامح ( الرمزية ) , هذا الجزء من البحث يستحق كما الجزء السابق القراءة المعمقة فعلا , اذ توجد فيه آراء جديدة حول غوركي يمكن متابعتها بدقة وموضوعية في ثنايا نتاجاته الادبية خصوصا والفكرية عموما , وما بين سطورها ايضا.

الاسطورة الخامسة في هذا البحث جاءت بعنوان ( غوركي ولينين ) , تشير الباحثة الى سعة هذا الموضوع ( وهي على حق ) , وكيف تناولته النظرة السوفيتية في وسائل اعلامها كافة , بما فيها انعكاس الموضوع في الفن التشكيلي , وتنشر مع البحث لوحة مشهورة لغوركي ولينين وهما يجلسان في قارب و يصطادان السمك في ايطاليا ,  ترى الباحثة ان غوركي نفسه ساهم في هذه ( الاسطورة ) بمقالاته عن لينين .

تؤكد الباحثة في هذا الجزء من بحثها على الوقائع التي أعقبت ثورة اكتوبر 1917 , وكيف ان غوركي تحدث عن الجوانب السلبية للثورة الاشتراكية في كتابه ( افكار في غير وقتها ) , الذي لم ينشر في روسيا السوفيتية آنذاك ( تم نشره عام 1990 ليس الا) , وتتوقف عند علاقة غوركي المتوترة مع زينوفييف ( رئيس مجلس بيتروغراد عندئذ , والذي أعدمه ستالين عام 1937 ) , ثم تشير الى ان غوركي قد اضطر ان يترك روسيا ويسافر الى الخارج , حيث بقي هناك أكثر من عشر سنوات , وتستنتج ( ان مغني الثورة وبشيرها  لم يجد له مكانا بعد انتصار الثورة ! ) .

الاسطورة السادسة بعنوان ( غوركي وستالين ) , وهو جزء حيوي جدا في هذا البحث , وتتناول الباحثة هنا عودة غوركي الى الاتحاد السوفيتي واحتضان ستالين له , والذي اعاده الى صدارة الحياة الثقافية في روسيا ( وهي المكانة التي لم يستطع الحصول عليها زمن لينين ) , تقول الباحثة ضمن استناجاتها هنا , ان ستالينية غوركي كانت حقيقية وواضحة , ولكن علاقته الشخصية بستالين كانت محايدة , رغم انها تشير الى مختلف الاشاعات حول هذا الموضوع , بما فيها الاشاعة حول تهديدات ستالين له وحتى المشاركة في قتله , ان علاقة غوركي بلينين وبستالين ( الاسطورة الخامسة والسادسة ) موضوعان يستحقان ان يتناولها المتخصصون العرب في الادب الروسي بتفصيل موضوعي اوسع , لانهما مهمان فعلا للقارئ العربي المعاصر , ولازالا غير واضحين تماما لهذا القارئ , وكذلك بالنسبة للاسطورة السابعة , والتي جاءت بعنوان غوركي والشعب الروسي واليهود , والتي تناولت الباحثة فيها موقف غوركي منهما .

بحث الاستاذة المساعدة في جامعة كولومبيا الامريكية د. ناتاليا بيلاوسوفا يستحق الترجمة الى العربية كاملا ليطلع عليه القراء العرب ودراسته بامعان وموضوعية رغم كل الملاحظات عنه , لانه محاولة جديدة وشاملة في  طبيعة الدراسات حول اديب باهمية غوركي ومكانته في الادب الروسي اولا والادب العالمي ثانيا .

أ.د ضياء نافع

 

اظهر المزيد

أ.د ضياء نافع

مواليد بغداد 1941 • ماجستير في اللغة الروسية وآدابها 1965/ 1966 – الاتحاد السوفيتي ودكتوراه في الادب الروسي 1970 / 1971 – فرنسا. • رئيس فرع اللغة الروسية في كلية الآداب بجامعة بغداد من 1975 الى 1984 • رئيس قسم اللغة الروسية في كلية اللغات بجامعة بغداد 1989 – 1990 • معاون عميد كلية اللغات بجامعة بغداد 1993 الى 2003 • عميد كلية اللغات المنتخب 2003 – 2006 . • حاصل على درجة الاستاذية (بروفيسور) 1996. • مدير مركز الدراسات العراقية – الروسية في جامعة فارونش الحكومية الروسية 2006 – 2012. • عضو اتحاد الادباء والكتاب في العراق / عضو شرف في اتحاد ادباء روسيا. • رئيس مجلس ادارة دار نوّار للنشر في بغداد .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com