مقالات

حوار خيالي مع أفكار صديقي “تشيخوف”

أ.د. ضياء نافع

ضياء نافع : هل نبدأ بالسؤال التقليدي عن حياتك في مدينة تاغنروغ , ام انك ستصاب بالملل ؟

تشيخوف : (مبتسما ) كلكم هكذا , تلحون بالاسئلة عن حياتي اولا , ولكن لماذا ؟

ضياء نافع :  لاننا نرى , ان الكاتب هو تعبير عن عصره , ولهذا فاننا نحاول معرفة وضعه الاجتماعي , لنستشف موقفه من العصر ومدى تعبيره عنه , ثم ان . .

تشيخوف : ( مقاطعا ) اني لا افهم هذه الكلمات ( تعبير عن العصر ) , و ( انعكاس الامال) . .  الخ , ومن الافضل دراسة التاريخ والاقتصاد وغيرها من الاختصاصات اذا اردتم ان تفهموا العصر والعلاقات الاجتماعية فيه.

ضياء نافع : ولكن الفن يعكس العلاقات الاجتماعية ويساهم في ايجاد حلول لقضايا العصر , أليس كذلك ؟

تشيخوف : جزئيا نعم , ولكن الفن اعمق من ذلك , اعمق من ان يعكس روح العصر والعلاقات الاجتماعية فيه , انه يعكس المعاناة الانسانية قبل كل شئ , يعكس الاحاسيس الانسانية من ألم وملل وفرح وحزن وانتصار واندحارو . . و . . و , وهنا بالذات تكمن اهمية الفن في رأي.

ضياء نافع : هل يمكنك توضيح ذلك ؟

تشيخوف : خذ مثلا ( آنا كارينينا ) , فتولستوي في روايته تلك لم يقرر مشاكل عصره , وانما تكلم بصدق وفنية رائعة عن جانب من العلاقات الاجتماعية , ولا زالت هذه الرواية تثير القراء لحد الآن ليس لانها تعكس فقط جانبا من العلاقات الاجتماعية وانما لانها تعكس ايضا وقبل كل شيء المعاناة الانسانية المشتركة لكل العصور , معاناة كارينينا وبقية ابطال الرواية.

ضياء نافع : ولكن ماذا بشأن ايجاد الحلول للقضايا الاجتماعية ؟

تشيخوف : ان الاديب في رأي , شاهد موضوعي فقط وليس حاكما. يكفي للانسانية ما عندها من محاكم وقوانين صارمة, ويجب عدم تحويل الادب والفن الى محاكم وقوانين جديدة.

ضياء نافع : ألا ترى ان ذلك يمكن ان يؤدي بالاديب والفنان الى مواقف لا مبدئية ؟

تشيخوف : كلا . . لقد كتبت مجلة ( روسكايا ميسل ) ( الفكر الروسي ) مرة , ان تشيخوف كاتب بلا مبادئ , واظنك تعلم , باني لم اكتب رداً على اي نقد تعرضت اليه , على الرغم من كثرة النقاد الذين كتبوا ضدي , ولكني لم استطع السكوت عندما قرأت ما كتبته المجلة المذكورة عنٌي , لقد اخبرتهم في رسالتي باني لم اكن ابدا كاتبا لا مبدئيا , لاني مع الحرية ومع العدالة ومع الصدق , واني افهم الفرق بين الحرية والعبودية وبين العدالة والظلم وبين الصدق والكذب.

ضياء نافع : ولكن كيف يمكننا ان نرى بوضوح موقف الكاتب هذا ؟

تشيخوف : كتب لي احد الاصدقاء بعد قراءة قصة ( النيران) يقول , انه لم يجد في تلك القصة اي اتجاه , وقد تعجبت انا , واجبته باني من بداية القصة الى نهايتها احتج ضد الكذب , وان هذا هو الاتجاه المبدئي بعينه , ولكن الصديق المذكور اصٌر قائلا انه اعاد قراءة القصة ولم يجد فيها اتجاها ما , وقد شرحت له بعدئذ اني لا استطيع ان اكتب ان فلانا يسرق , وان السرقة عمل سيء , اذ اني ساقتل بهذا روح النتاج الابداعي , واني اعتمد دائما على القارئ الذكي والذي يفكر , و ارفض القارئ الكسول الذي يجب ان اذكره بين الحين والحين ان السرقة عمل سيء , اني اريد من القارئ ان يساهم معي , وان لا يكون فقط اداة تقٌبل , وانما ان يكون اداة مشاركة ايضا , اني اعطي للقارئ ايماءات هنا وهناك واطلب منه , نعم اطلب منه ان يبلور الصورة المطلوبة بنفسه , اني اعاني كثيرا عندما اكتب , ولكني لا اظهر هذه المعاناة للقارئ , لان هذا يفسد العمل الفني ويحوله الى فكرة منتهية ما على القارئ الا الاقرار بها.

ضياء نافع : هل استطيع ان استنتج من كل ما قلته , انك ضد الالتزام في الادب ؟

تشيخوف : كلا . . هذا استنتاج غير صحيح , اني ضد الفهم الخاطئ للالتزام , الالتزام من وجهة نظري يكمن في الحرية , وكل اديب حر هو بالتالي وبالضرورة اديب ملتزم , الكاتب الحر , اي الملتزم هو الذي يكتب بصدق عن كل شئ يراه ويعرفه ويفهمه بعمق , ويستطيع ان يتصرف في حياته ايضا انطلاقا من هذا الالتزام.

 ضياء نافع :  كيف ؟

تشيخوف : لقد قدمت انا مثلا استقالتي مع كارولينكو , من اكاديمية العلوم احتجاجا على طرد مكسيم غوركي منها  , بعد قبوله بتأثير من السلطة , و أيدت مطالب الحركة الطلابية , ان اعمالي هذه تنطلق من ايماني باني كاتب ملتزم , ولا يمكن النظر اليها بشكل آخر بتاتا.

ضياء نافع : لننتقل الآن الى سؤال آخر , ربما يبدو قديما , ولكني اظنه مهما من هو كاتبك المفٌضل , او كتابك المفضلون , وهل تأثرت بأحد منهم ؟

تشيخوف : هذا سؤال مهم فعلا , على الرغم من قدمه , انه سؤال متشعب جدا , واتناوله من الجزء الاخير وهو هل تأثرت باحدهم ؟

الجواب : كلا . . لقد تأثرت بتولستوي لفترة قصيرة, ولكني استطعت التخلص من هذا التأثير , نعم التخلص , اذ اني انسان عنيد, لا استطيع تقٌبل الاراء بشكل جاهز , لقد حاولت طوال حياتي ان أصل الى كل شئ بنفسي , عندما اكتب فاني اختار دائما المواضيع التي فهمتها فعلا , ولكن هذا لا يعني بتاتا اني لم اكن اقرأ , لقد بدأت بالقراءة منذ طفولتي , ولا زلت أقرأ و أقرأ , ولكني لست متأثرا باحد.

ضياء نافع : هل تستطيع تسمية بعض هؤلاء الذين تحب ان تقرأ نتاجاتهم ؟

تشيخوف : ليرمنتوف مثلا . . اني اتعلم من ليرمنتوف كيفية الكتابة , ولا زلت مندهشا كيف استطاع ان يكتب ( تامان) وهو في هذا العمر اليافع والحقيقة , اني احلم ان اكتب شيئا ما يشبه (تامان) , واضيف اليه مسرحية فكاهية ذات فصل واحد , وعندها استطيع ان أموت مطمئنا , اما بوشكين . . فانا اعود اليه بين الحين والحين , خاصة الى كتاباته النثرية , اذ اني أجد هناك انفاس الشاعر , وهذه خاصية فريدة ورائعة , اضافة الى انه استطاع ان يتعامل مع الاشياء والقضايا الاعتيادية والبسيطة  ويحولها الى مادة جمالية مدهشة.

ضياء نافع : ماذا تقصد بذلك ؟

تشيخوف : هذه مسألة كبيرة بدأها بوشكين في الادب الروسي , وهي تعني الكتابة عن الشئ الاعتيادي الذي لا يلاحظه الانسان عندما يمرٌ به , ولكن الفنان يجد فيه شيئا يجلب الانتباه , ثم يحوله الى مادة جمالية.

ضياء نافع : وهل انعكس هذا في نتاجاتك الادبية ؟

تشيخوف : نعم , وفي كل نتاجاتي . . لقد اقترح عليٌ احد الاصدقاء ان اكتب عن موضوع انتحار صبي كان له من العمر سبع عشرة سنة , وتكلم طويلا حول هذا الموضوع , ولكني رفضت هذا المقترح , اني احاول ان اتجنب في نتاجاتي الحوادث الهائلة والتعقيدات المفتعلة , اذكر . . ان مجموعة من الادباء كانت عندي مرة ,و أكد احدهم بانه لا توجد الآن مواضيع للادب , اذ ان كل شئ قد تناوله الادباء , ولكني سخرت منه , وكانت امامي منفضة مليئة باعقاب السجائر , فرفعتها بيدي وقلت هل تريدون ايها السادة قصة بعنوان ( المنفضة) ؟ اني سأكتبها لكم غدا , وتكرر الكلام نفسه في احدى المقاهي , فأشرت عندها الى جدار المقهى وقلت انه موضوع رائع لنتاج ادبي , اني اكتب ببساطة عن حوادث صغيرة واعتيادية , وحتى متكررة , ولكني اكتب عنها بحب كبير بعد فهمي لاعماقها , ان البساطة في الفن هي اقصى ما يستطيع ان يحققه الفنان الاصيل.

 ضياء نافع : دستويفسكي لم يكتب بهذا الشكل . . .

تشيخوف : نعم , هذا صحيح ولهذا فانا لا اميل اليه كثيرا , لقد قرأت ( الجريمة والعقاب) , ولا يمكن ان أقول انها ليست عملا ادبيا وفكريا متميزا , ولكن بالنسبة لي , فانها مليئة بالاجواء الفخمة والادعاءات , وبالتالي فانها لا تتلائم مع طبيعتي ومفاهيمي .

ضياء نافع : يشير بعض النقاد الى تأثير سلتيكوف . . شيدرين على نتاجاتك الساخرة

تشيخوف : لا . .  لا , لقد قلت لك باني لست متأثرا باحد , ولا يمكن اعتباري متأثرا حتى بغوغول , انت تعلم ان بوشكين هو الذي اعطى لغوغول فكرتي ( المفتش ) و ( الارواح الميتة ) , وحتى في هذه الحالة , وانا متأكد من ذلك , لو ان بوشكين نفسه كتب حول هذين الموضوعين , فان الكتابة عندها ستكون بغير تلك الروحية التي كتب بها غوغول , فكيف يريدني هؤلاء النقاد ان اكون متاثرا بشيدرين ؟

ضياء نافع : و ماذا بشأن تولستوي ؟

تشيخوف : اني احبه كثيرا , انه الاديب الاول في روسيا ولا ادري ماذا باستطاعتنا , نحن الادباء الروس , ان نعمل بدون تولستوي ؟ انه يرعانا كلنا , وما دام تولستوي على قيد الحياة , فان الادب الروسي بخير.

ضياء نافع : ولكن تولستوي لا يحب مسرحياتك.

تشيخوف : ( مبتسما ) نعم , هذا صحيح . . لقد اخبرني مرة انه لا يحب مسرحيات شكسبير , ولكنها مع ذلك افضل من مسرحياتي , يؤكد تولستوي ان المسرحية يجب ان تدور حول حوادث ما , حوادث معينة فيها بداية ونهاية , اما انا فاني اعتقد ان كل شئ متشابك في الحياة , ولهذا فان كل شئ يصلح ان يكون موضوعا لمسرحية , لقد شاهد تولستوي مسرحية ( الخال فانيا ) وخرج غاضبا من المسرح وهو يقول اخبروا تشيخوف وستانسلافسكي , انه لا يمكن ان تكون هناك مسرحية بمجرد ان يرقد انسان ما بكسل وينظر الى الحديقة , اما انا . . فاعتقد بامكانية ذلك.

 ضياء نافع : ولكن لماذا قررت الكتابة بهذا الشكل ؟ هل حاولت الكتابة عن احداث ما ؟

تشيخوف : اعتقد انه من الضروري جدا على كل فنان ان يحاول دائما خلق اشكال ادبية جديدة , وانطلاقا من هذا , حاولت ان اخلق هذه الاشكال الجديدة في مجال القصة والمسرحية , خاصة في عالم المسرح. ان حالة المسرح الروسي سيئة , وقد حاولت ان امنحه مسرحية جديدة, مسرحية المزاج النفسي ان شئت , ولكن هذا لم يعجب تولستوي.

ضياء نافع : وهل تعتقد انك نجحت في خلق الاشكال الجديدة هذه ؟

تشيخوف : هذه سؤال محرج , خصوصا واني لا احب الكلام عن نتاجاتي , ولا اريد ان اضعها مثلا اعلى في الادب , كل ما استطيع قوله بهذا الشأن , هو اني حاولت وباخلاص , اود ان اضيف هنا شيئا آخر لا تصدق اذا سمعت فنانا يقول انه لا يحب ابداعاته , نحن نحب نتاجاتنا ونعيش معها حرفا حرفا , ونحميها ونتابع كل كلمة تقال فيها , ولكن عندي احساس دائم , لا اعرف مصدره , يسيطر علي طوال الوقت وهو اني في كل كتاباتي لم استطع ان احقق الشئ الذي كان باستطاعتي ان احققه , وهناك شعور يغمرني دائما , وهو اني سأكتب في المستقبل اشياء احسن وافضل من تلك التي كتبتها سابقا , وانا أتألم كثيرا عندما انظر الى نتاجاتي المطبوعة واقارنها بنتاجاتي الموجودة في ذهني , والتي اود كتابتها , واقول لنفسي ياللحسرة , الشئ السئ مطبوع , والشئ الرائع لا زال في ذهني.

ضياء نافع : سؤال اخير . . ما رأيك بالمستقبل ؟

تشيخوف : لست سياسيا و لا مصلحا اجتماعيا , ولكني اعتقد ان الحياة ستكون رائعة جدا بعد مرور 200 او 300 سنة , وانها ستختلف عن حياتنا الكئيبة هذه.

 

اظهر المزيد

أ.د ضياء نافع

مواليد بغداد 1941 • ماجستير في اللغة الروسية وآدابها 1965/ 1966 – الاتحاد السوفيتي ودكتوراه في الادب الروسي 1970 / 1971 – فرنسا. • رئيس فرع اللغة الروسية في كلية الآداب بجامعة بغداد من 1975 الى 1984 • رئيس قسم اللغة الروسية في كلية اللغات بجامعة بغداد 1989 – 1990 • معاون عميد كلية اللغات بجامعة بغداد 1993 الى 2003 • عميد كلية اللغات المنتخب 2003 – 2006 . • حاصل على درجة الاستاذية (بروفيسور) 1996. • مدير مركز الدراسات العراقية – الروسية في جامعة فارونش الحكومية الروسية 2006 – 2012. • عضو اتحاد الادباء والكتاب في العراق / عضو شرف في اتحاد ادباء روسيا. • رئيس مجلس ادارة دار نوّار للنشر في بغداد .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com