مقالات

سجين الشعبة الخامسة

 

صدر في بغداد وعن دار ميزوبوتاميا للطباعة والنشر والتوزيع كتاب بعنوان ( سجين الشعبة الخامسة ) بطبعته الجديدة من تأليف “السيد محمد السعدي”، الكتاب يتناول جزء من مسيرة النصير الشيوعي العراقي محمد السعدي ( لطيف ) منذ تفتح عينيه على الفكر الشيوعي واليساري لحين ما وجد نفسه لاجئا سياسيا يقيم في السويد بعد ان عز على العراق ان يعيش فيه ابناءه البررة ومنهم السعدي ومدينته ديالى ( مدينة البرتقال) وقريته الهويدر وما ادراك كم دهدرت الهويدر من دماء زكية على طريق الوطن الحر والشعب السعيد.
لذلك جاء اهداء الكتاب الى اصحاب تلك الدماء التي تدهدرت في كل بقاع العراق ( إلى زنابق الرافدين ـ شهداء الحركة الشيوعية في العراق ) .
المقدمة جاءت بقلم السيدة أزهار أحمد الشيخلي وبعنوان ( الشعبة الخامسه ) وثائق تاريخية وأصوات منسية، ومما جاء في المقدمة : ( كتاب الشعبة الخامسة  منجزا أدبيا مهما فهو يعنى بالمبنى والمعنى على حد سواء فقد كتب بأسلوب أدبي حافظ على موضوعية الأحداث ومصداقيتها بالدرجة الأولى وسردها وفق نسق أدبي درامي . . عكس ثقافة كاتبه الواسعة ودقته في نقل الحدث وأمانته في التدوين . . ) .
يبدأ لنا النصير لطيف قصته مع الشعبة الخامسة بعنوان ( زنزانة رقم 3) ليروي لنا حكاية رعب عن 87 يوما قضاها في هذا المبنى, يسبقها بمقدمة عن ظروف العمل السري في تنظيم الداخل، وتنظيم الصدى والتنظيم في الوسط الطلابي ودوره في انقاذ بعض رفاقه من قبضة الغول ونقلهم الى ما يسمى بالمناطق المحررة في كردستان، وصولا الى يوم 7 ــ 6 ــ 1987 حيث وقع في قبضة الاستخبارات العسكرية لينقل الى الزنزانة رقم 3 في الشعبة الخامسة .
وفي محطة اخرى بعنوان ( مدن كردستان تنتفض ) يروي لنا السعدي مخاطر وصعوبات الانتقال بين الجبل وبغداد لضرورات العمل الحزبي والمآسي في بغداد من اعتقالات وتصفيات، في انتقالات سريعة بين الكفاح الانصاري والانتقال من قرية الى اخرى او من كهف الى اخر في ربوع كردستان ومخاطر العمل في الداخل وصولا الى الكارثة، كارثة اعتقال وسجن مجموعة من الرفاق على يد رفاقهم وتعذيبهم بحجج واهية لتصل الحالة الى استشهاد احدهم ( الشهيد الخالد منتصر ) على يد رفاقه، والاغرب في كل ذلك هو ترأس لجنة التحقيق من قبل طبيب يدعى مهند البراك ( صادق ) والذي كان يوما ما طبيبا معالجا للشهيد منتصر الذي يعاني من مشاكل صحية في الكليتين.
ليستغل هذا الطبيب الوضع الخاص لمريضه ويعذبه في المكان المناسب ليقضي عليه سريعا ومن ثم يلتزم الصمت الى هذا اليوم عن ظروف استشهاد الشهيد منتصر ومكان رفاته وبمباركة من قادة الحزب الحاليين، وتم تشتيت المعتقلين الآخرين بأمر من الانتهازي المحترف عزيز محمد في محاولة للتخلص منهم علهم يقعون في يد الخصوم، وهذا ما حدث مثلا للنصير الشهيد سامي حركات.
وفي خضم هذه المعاناة يمر السعدي بالفقيدة الدكتورة حياة شرارة، التي درسته الادب الروسي في جامعة بغداد / كلية الآداب وتركت اثرها عليه، ليستعير مقطعا من احد نصوصها الادبية، اشارة الى مهاجمة الرفاق على المخالفين للقيادة بالرأي هجوما اكثر ضراوة من هجوم الخصوم وما تركه من اثر في النفوس، وعلى سمعة الحزب وتاريخه وجماهيريته ونفور الكثير منه بسبب تلك الأساليب .
ثم يعود بنا لطيف الى  الهويدر القرية التي نشأ فيها وكانت ملعب صباه ومن ثم نضوج وعيه الفكري والسياسي، ليحكي لنا تاريخ تلك القرية وما قدمت للمجتمع العراقي من شخصيات كان لها الأثر الواضح في مختلف المجالات، وما عانى اهلها من تعسف واضطهاد فكري وسياسي، ومن الهويدر و رمانها الذي يسلم على القلب عند تناوله كما يقول الكاتب، ينتقل بنا في رحلته تلك الى ذرى جبال كردستان، ليحكي لنا بقية المسيرة الانصارية والنضالية بقضها وقضيضها .
الوجه الحسن لها والمتمثل بشباب آمنوا ايمانا عميقا بالشيوعية ولبوا نداء حزبهم بالتوجه الى جبال كردستان لمحاربة نظام الدكتاتور الرابض في بغداد، لقد قاتلوا وناضلوا بكل امانة واستبسال مضحين بكل شيء في سبيل الوطن والحزب ودفعوا دمائهم رخيصة في سبيل ذلك، والوجه الآخر، الوجه القبيح لحركة الانصار، المتمثل ببعض القادة الذين تاجروا بدماء الشباب الثائر تماشيا مع مصالحهم الشخصية وميولهم الشوفينية وحفاظا على كراسيهم في الصف الاول وللتغطية على عيوبهم واخفاقاتهم المستمرة، لذلك لم يتقبلوا اي رأي حزبي مغاير لنهجهم وتصدوا له بعنجهية صارمة، تغاضوا او تساهلوا مع الكثير من حالات الاندساس العميق والغائر في جسد الحزب ضمن لعبة القط والفأر .
ويستمر لطيف، يروي لنا قصة تسلله المريبة نحو الداخل واعتقاله في بداية المشوار وانتقاله بعدد من المعتقلات والزنازين وصولا الى بغداد ومعتقل الفضيلية مع وجبة دسمة من التعذيب والاهانات يتفنن بها محترفيها في كل محطة من تلك المحطات وصولا الى الشعبة الخامسة، وما ادراك ما الشعبة الخامسه. نترك احداثاها وعذابتها للقارئ الكريم حتى لا نفسد عليه تتداخل وتناقض المتعة والالم، متعة القراءة لأحداث خفية والم الواقع المرير والمبكي لدهاليز الشعبة الخامسة .
بهذا ينهي لطيف رحلته تلك معنا، رحلة المناضل الشيوعي والنصير المقاتل الذي اصر على التمسك بخيوط المبادئ الشيوعية والوطنية معا رغم كل المطبات والمساومات والمخاطر ليبقى الطريق امامه نيرا وواضحا كوضوح الشمس في رابعة النهار، ولينتهي به المطاف لاجئا مقيما في السويد مبتعدا عن المخلفات النتنة لتلك التجربة ومتمسكا بوجهها الناصع، مبتعدا عن الامتداد السلبي لتلك التجربة وذلك الوهم الذي يسمى منظمة الانصار ورواتبها ورتبها المشبوهة وقائدها ذلك الملازم الذي اصبح في غفلة من الزمن جنرالا يملأ صدره بالأوسمة والنياشين ويقرر كما يشاء ويشتهي من يستحق تلك الرتب العسكرية الوهمية ورواتبها التقاعدية المجزية ومن لا يستحق ويجب ان يحرم منها، ليكون لطيف من ضمن من حرمت عليهم تلك الامتيازات لمواقفه السابقة واللاحقة والصريحة، وليستقبل قرار التحريم بابتهاج وتشرف رغم المضض والشجن الذي يساور المناضل على هذا الانزلاق والانحدار نحو الهاوية لمسيرة اريد لها ان تكون نموذجا يقتدى به، ولكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن .
تحية للعزيز ( ابو بيدر ) لهذا السرد والطرح الممتع، واستذكاره لكل او غالبية اصدقاء ورفاق المسيرة ومعظمهم من الجنود المجهولين في تاريخ الحركة الشيوعية والوطنية العراقية، متمنين له العمر المديد ليتحفنا بما  في جوده من ذكريات الطريق الطويل .
سجين الشعبة الخامسة جاء بـ 355 صفحة من القطع المتوسط من ضمنها مجموعة من الملاحق والوثائق والصور ومنها صورة خال المؤلف الشهيد البطل خزعل السعدي .
           
تسمية الشعبة الخامسة تطلق على موقع مديرية الاستخبارات العسكرية الواقع على نهر دجلة الخالد في جانب الكرخ وهي تظهر للشخص العابر من الرصافة الى الكرخ على جسر الأئمة في نهايته اليمنى كمنطقة خضراء توحي لناظرها انها منتزه عائلي او منتجع سياحي وهي كذلك ولكن من طراز خاص، تتكون تلك المديرية من عدة شعب واقسام واشهرها هي الشعبة الخامسة والمختصة في التحقيق والتحقق مع منتسبي المديرية نفسها ممن تسول لهم نفسهم في تجاوز التعليمات والضوابط او ارتكاب اي مخالفة، ولكونها اقذر وابشع شعب المديرية حيث يقوم المنتسبون فيها بتعذيب زملاء لهم او ضباط كانوا يعملون تحت امرتهم اشد العذاب والاهانات لاستخلاص الاعترافات منهم، لذلك طغى اسمها ( الشعبة الخامسة ) على اسم المديرية، ولعل من اسمائها الشهيرة الاخرى ( الحوت )، باعتبار ان من يبتلعه الحوت لا مخرج له ثانية للحياة. ورغم اختصاصها العسكري وبسبب شمولية النظام الحاكم وتنافس قادة الاجهزة الامنية في الولاء لرأس النظام فقد تداخلت الاختصاصات واخذت الاستخبارات العسكرية تدخل انفها في كل شاردة وواردة وحتى وان كانت مسألة مدنية .
بقلم الكاتب
خالد حسين سلطان
اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com