منوعات

محمود درويش وبعض نقّاده إثر أمسية فلسطينية للثلاثي جبران

بيدر ميديا.."

محمود درويش وبعض نقّاده إثر أمسية فلسطينية للثلاثي جبران

راشد عيسى

 

حضرت بتأثر بالغ أمسية الثلاثي الفلسطيني جبران، في معهد العالم العربي في باريس أخيراً، في إطار فعاليات مستمرة بعنوان «ما تقدمه فلسطين إلى العالم». ليست الموسيقى وحدها المؤثرة، فلقد كانت الأمسية برمتها خير ممثل لفعاليات تحمل هذا الاسم: «ما تقدمه فلسطين..». الأمسية الموسيقية من دون محمود درويش سينقصها الكثير، و«الثلاثي» اتكأ، بكل تفصيل، على حضور الشاعر، وغيابه؛ قصيدة «خطبة الهندي الأحمر ما قبل الأخيرة، أمام الرجل الأبيض»، بصوته، ومرسومة بخط يده على الشاشة خلف الفرقة، ومن ثم موشاة بموسيقى «الثلاثي»، إلى جوار قصيدتي «درس من كاما سوطرا»، و«بالزنبق امتلأ الهواء».

درويش نفسه لا ينكر فضلاً قدّمه مارسيل خليفة لقصيدته، عندما قال إن الأخير ساهم بجعل القصيدة الحديثة في متناول الناس.

لا ينتقص اتكاء «الثلاثي» على أيقونة الشعر الفلسطيني منهم، فمن جهة جاء ذلك على قدر ما ترمي إليه الفعالية، ومن جهة أخرى، لا يمكن، بتقديري، إنكار، الإضافة التي قدمها «الثلاثي» لشعر درويش، فلعل ذلك جعل شعره مسموعا أكثر، وأجمل، وحاضراً أكثر. درويش نفسه لا ينكر فضلاً مماثلاً قدّمه مارسيل خليفة لقصيدته، عندما قال إن الأخير ساهم بجعل القصيدة الحديثة في متناول الناس.
الأمسية الباريسية جاءت أقرب إلى طقس فلسطيني مكتمل، حتى لو انعطفت مرة إلى «قلبي إليك ميال»، و«أهواك»، أو إلى أغنية إيرانية معذبة، يؤديها عازف الدرامز في الفرقة.
يظل درويش عنوان الأمسية. تخرج ممتلئاً بفلسطينه، وصوته وأدائه الفريد وسحر كلماته، إلى حد تقول معه: يا إلهي! اُنظر أي معجزة اجترح الشاعر الراحل! حتى أنك تجد أن من العبث المقارنة مع المتنبي (حتى لو قال درويش نفسه ذات مرة إن كل ما كتبه لا يساوي نصف بيت مما قاله المتنبي)، تحاول أن تجد وصفاً، فتشعر أنه حقاً أعظم من المتنبي. لسنا بحاجة إلى مرور ألف سنة لنختبر بقاء الكلمات. لا ندري أصلاً إن كان الزمن وحده يصلح لاختبار شعرية الكلمات.
في خضم تكرار كلمة المعجزة، تذكرت شيئاً قرأته منذ سنوات قليلة في صحيفة ممانعة كاعتذار متأخر من الشاعر الراحل. كان مثالاً نموذجياً لاعتذار أقبح من إساءة. قلت أين هو ذلك الكاتب المسيء الآن أمام هذه المعجزة الدرويشية؟!

لسنا بحاجة إلى مرور ألف سنة لنختبر بقاء الكلمات. لا ندري أصلاً إن كان الزمن وحده يصلح لاختبار شعريتها.

وسأسمح لنفسي بالقول إنني «أشفقت» على الشاعر الراحل من موقف كهذا. قال المسيء، في اعتذاره، إنه تعرّفَ بمحمود درويش بعدما «هجاه» (الكلمة للكاتب نفسه)، فرغبَ الشاعر «برؤيتنا والتعرف علينا (يتحدث الكاتب عنه وعن زميل له، كاتب أيضاً)، وفَهْم ماهية هذا الغضب الذي نحتويه بداخلنا عليه». يروح الكاتب يكرر الكلمات المؤذية التي قالها للشاعر، وهنا صفاقة الاعتذار. يقول: «سألني بسرعة بعدما تعرّفنا على بعضنا لماذا لا نحبه». لا يخفف حرص الشاعر على المحبة من «غلواء» الجدال، بل إن الكاتب المسيء يستمر، إلى أن ينفضّ اللقاء على هذا النحو، من دون تفاهم أو غسل للقلوب.
يختم الكاتب مقالته الاعتذارية بالقول إنه بعد ذلك التقى الشاعر عز الدين المناصرة، وحدّثَه بما حَدَث، فقال له المناصرة بأن «محمود كان حساساً للغاية، وبأن لا ريب حين عاد إلى غرفته لربما بكى على موقفك منه».
في طريقه إلى المعجزة «تَفَرْكَشَ» الشاعر بنقاد كثر، من بينهم أولئك الذين كانوا صدى للانشقاق التاريخي في «فتح» ومنظمة التحرير، وكان دأبهم، مشروعهم النقدي الوحيد، البحث في بوادر وملامح التطبيع في قصائد الشاعر، على غرار قصيدة «بين ريتا وعيوني بندقية»، أو «جندي يحلم بالزنابق البيضاء»، ولعلهم صمتوا مرة واحدة بعد المصالحة وتصافي القلوب. اختفى فجأة أثر التطبيع في قصيدة درويش.
في مقابلاته ربما أشار الشاعر أيضاً إلى انتقادات أتت من «شعراء من غزة» يبدو أنهم شكلوا ما يشبه الموجة، ملمحها الوحيد عداؤها للشاعر.

في مقابلاته ربما أشار الشاعر أيضاً إلى انتقادات أتت من «شعراء من غزة» يبدو أنهم شكلوا ما يشبه الموجة، ملمحها الوحيد عداؤها للشاعر.

واليوم تسأل؛ أين، ومَن هم هؤلاء الشعراء، هل أتحفونا بقصيدة واحدة بإمكانها أن تبقى في البال، هل كنا سنسمع عنهم لولا ذكرهم في مقابلات الشاعر؟!
قبل كل ذلك لا شك، أن الجدل كان على أشده بين الخارج والداخل، بين من اضُطر وأُجبر على الرحيل، وبعض من اعتبر أن الخروج من البلاد «خيانة»، و«مشروع موت».
لا يمكن لأحد أن يكون بلا أخطاء، ولا شك أن نصوص محمود درويش، قصائده، ومقالاته، ومواقفه، فيها ما يستحق النقد والسجال والتقييم، لكن على ألا يكون على شاكلة «الهجاء» المعتذر في الصحيفة الممانعة، هذه التي كانت لها مساهمتها الكبرى في التحريض على أمسية للشاعر في مدينة حيفا، التي عادها الشاعر، ابن قرية البروة العكاوية، بعد غياب، فجوبه بحملة أرادت أن تحرمه وتحرم جمهور بلده المتعطش من ذلك اللقاء النادر.
في الإمكان القول إنها الحياة، ولا بد أن فيها مثل هذا الاعتراض المنغّص، مثلما فيها الجمهور المحب والاعتراض المحق والمنصف، ولكن يمكن القول كذلك كان بإمكان الشاعر أن يعيش ثلاثين عاما أخرى من الإبداع، من دون كل وجع القلب هذا.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com