منوعات

لمسة وفاء مغربية تجاه صحافي فلسطيني عصيّ على النسيان

بيدر ميديا.."

لمسة وفاء مغربية تجاه صحافي فلسطيني عصيّ على النسيان

الطاهر الطويل

 

حسنًا فعلت القناة الثقافية المغربية، حينما خصصت الحلقة الأخيرة من برنامجها «مرّوا من هنا» للصحافي الفلسطيني الراحل محمود معروف الذي عمل مديرًا لمكتب «القدس العربي» في المغرب لسنوات طوال، قبل أن تختطفه يد المنون من بين ظهرانينا ذات صباح حزين من أيلول/ سبتمبر 2020.
كانت الحلقة لفتة عرفان ولمسة وفاء مغربية تجاه صحافي فلسطيني اختار الاستقرار في المغرب؛ شرب ماءه وتنفّس هواءه، وخالط ناسه، لتضمّه أرض الرباط بحنوّ ورِفق في الوداع الأخير، عوض أن يحضنه ثرى مسقط رأسه، كما كان يتمنّى… لقد رحل، وفي نفسه شيء غير قليل من «حلم العودة إلى فلسطين، حرّة عربية»، مثلما خطّت أنامله في مذكّرات عن رحلته الأخيرة إلى تلك الديار العزيزة.
جهد مهني مشكور للقناة الثقافية، يقف وراءه مديرها الإعلامي والكاتب عبد الصمد بن شريف، بجانب طاقم صحافي وتقني تقوده ياسمين الدغوغي في الإعداد، وجنان فاتن محمدي في الإخراج.
وفعلاً، كانت الحلقة قويّة بالأحاسيس، حبلى بالذكريات عن الزميل الراحل، وكذا بالمشاعر الإنسانية الفيّاضة. استحضرت زوجة الراحل، السيدة بحرية عدوان، بداية علاقتها به في جامعة بغداد حيث كانا يدرسان معًا، وتوقّفت عند محطات من مساره الإعلاميّ، مبرزةً ارتباطه بالقضيّة الفلسطينية وخصاله الإنسانية، ووثّقت كاميرا البرنامج لحظة مؤثّرة اغرورقت فيها الدموع في عينيّ زوجة محمود معروف.
وكذلك تحدث أبناؤه نبيل ورشا وداليا، بتلقائية، عمّا بقي عالقًا في الذاكرة من صور لا تمنحي. ووصف جمال الشوبكي، السفير الفلسطيني في الرباط، الزميل الراحل محمود بالمناضل المدافع عن حق الفلسطينيين في أرضهم. كما استحضر الأكاديميّ المغربيّ عبد الله ساعف أول لقاء جمعه بالراحل، وأول رحلة عاشاه معًا خارج المغرب، وكانت نحو العراق بمعية المهدي المنجرة وعبد الإله بلقزيز. وأثنى الباحث المغربي بلال التليدي على مهنية الراحل من حيث الانحياز إلى الآليات والقواعد الصحفية التي تجعل التقرير الإخباريّ مستوفيًّا لكل العناصر المطلوبة.
وتوالت شهادات الصحافيين: السوداني طلحة جبريل، مدير مكتب صحيفة «الشرق الأوسط» في الرباط سابقًا، والتونسي منصف السليمي مدير تحرير بالقسم العربي لمؤسسة DW الألمانية، والأردني بسام البدارين مدير مكتب «القدس العربي» في عمّان، وإعلامييْ «الجزيرة»: التونسي محمد كريشان، والمغربي محمد البقالي؛ كما قدّم عبد ربه، كاتب هذا العمود شهادةً عن زميله، الذي ظلّ قريبًا من قلبه لحوالي 25 سنة… وبقي كذلك حتى بعد رحيله المؤلم.

عشق مزدوج

أجمعت الشهادات المختلفة على مهنية الراحل، إذ كان يركّز على تغطية الأحداث المغربية بحياد وموضوعية، كما كان دائم الحضور في البرامج الحوارية التلفزيونية والإذاعية، حيث كان يمتلك الجرأة للحديث عن الشأن المغربي، لكن بحب وحرص على تقديم البلد وقضاياه برؤية متوازنة، لا سيما وأنه انصهر في المجتمع المغربي بعمق ومحبة.
وحين يُسأل عن القضايا العربية، كان يتكلّم بحسّ قومي عروبي، ملتزم بقيم الوحدة والديمقراطية وحقوق الإنسان. واعتُبر أيضًا ناقلاً للعشق الفلسطيني إلى المغاربة، وفي المقابل ناقلاً للعشق المغربي إلى الفلسطينيين. فضلاً عن كونه اكتسب صداقات عديدة جمعت بين المهني والشخصي من داخل المغرب وخارجه.
واختتمت الحلقة بكلمات لمحمود معروف، مسجّلة بصوته، ويبدو أنه رددها في حوار إعلامي، حيث قال: «لا أزعزع لحظة واحدة انتمائي لهذا الوطن. الوطن بالنسبة لي لم يعد جغرافيا. إنه بالنسبة لي هو العقل، هو الذاكرة، هو الإحساس، هو الوجدان».
كذلك كانت الحلقة وثيقة بصرية، حيث احتوت على بثّ مجموعة من الصور الفوتوغرافية من ألبوم محمود معروف، بعضها شخصي والبعض الآخر مهني، وهي تؤرّخ لمحطات مختلفة من مساره وحياته. وما كان ذلك متيسّرًا لولا المساعدة النبيلة والأريحية الكبيرة التي أتاحتها السيدة بحرية لفريق القناة الثقافية المغربية.

مفاجأة ثانية

لم ينته وقع الحلقة الخاصة عن الراحل «أبو نبيل» في نفسي عند هذا الحد، بل تعدّاه إلى أبعد من ذلك؛ فمن المصادفات العجيبة أنه بعد بثّ البرنامج، وبينما أنا أسير في شارع محمد الخامس في الرباط، إذ ناداني بائع الصحف الشهير «الرّوبيو» الذي يتطوّع مشكورًا باستقبال ودائع الصحافيين والكتّاب من إصدارات جديدة لتسليمها للمُهداة إليهم، فأخبرني بأنّ «أمانة» تخصّني موجودة لديه. سلّمني ظرفًا، فكانت المفاجأة: إنها كتاب «حيث لا نسيان» للصديق الراحل محمود معروف، حيث حرصتْ زوجته الفاضلة السيدة بحرية على أن تترك لي نسخة من الكتاب لدى «الروبيو»، وهي من النسخ المحدودة جدا التي سلّمها إيّاها الناشر الفلسطيني صالح عبّاسي، صاحب مكتبة «كل شيء».
المفاجأة لا تتمثل فقط في قيمة الكتاب الذي يوثّق، بأسلوب سلس وانسيابي، رحلةَ صديقنا الأخيرة إلى المدن والبلدات الفلسطينية، خاصة تلك الموجودة في مناطق 1948، وما تضمنته من مشاهد ومواقف إنسانية، ولكن المفاجأة نابعة من كوني عشتُ جزءًا كبيرًا من مخاض هذا الكتاب، حيث كان الصديق الراحل محمود طلب مني أن أُلقي نظرة فاحصة على مسودّة الرحلة، وأن أضع لها العنوان الرئيسيّ والعناوين الفرعية، وهو ما حصل فعلاً، إذ اقترحت للكتاب عنوان: «فلسطين: ارتواء القلب والعين». لكن الموت لم يمهل الراحل حتى يرى كتابه منشورًا ومُوزّعًا؛ ومن ثم، بادر الناشر عبّاسي الذي ورد ذكره في الرحلة إلى طبع الكتاب طباعة أنيقة بعنوان دال هو: «حيث لا نسيان».
تُرى، هل بإمكاني أن أقرأ كتاب محمود معروف، ثانيةً؟
أم هل بإمكاني أن أتفحّص صوره ورسائله في البريد الإلكتروني أو في «الماسنجر»؟
وهل بإمكاني أن أعيد مشاهدة الحلقة الخاصة به من برنامج «مرّوا من هنا»، المتوفرة على «اليوتيوب»؟
ولكن، هل أقدر على أن أكفكف دمعي، والحالة هذه؟

 كاتب من المغرب

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com