ثقافة

إعادة اكتشاف الشافعي: الطباعة وولادة المثقف المسلم العصامي.

بيدر ميديا.."

إعادة اكتشاف الشافعي: الطباعة وولادة المثقف المسلم العصامي

محمد تركي الربيعو

 

على الرغم من مرور قرنين تقريبا على دخول المطابع للعالم العربي، يُلاحظ على مستوى المكتبة العربية افتقارها للكتب التي تتناول تاريخ الكتاب العربي الحديث، وكيفية تطوره وظهوره في النصف الأول من القرن الثامن عشر، مقارنة بزمن النسخ على اليد. ولعل هذا الفقر يعود بالأساس إلى عدم إيلاء هذا الجانب الاهتمام الكافي، فنادرا ما نعثر على أطروحات عربية تتناول تاريخ إحدى المطابع، أو الأطوار التي مرّ بها الكتاب العربي إلى يومنا هذا، مع ظهور الكتاب الإلكتروني المنافس.
في المقابل، يلاحظ في الإصدارات الغربية وجود كم كبير من الدراسات والكتب التي تعنى بدراسة تواريخ بعض المكتبات في حلب، أو القاهرة خلال القرن التاسع عشر. والممتع في هذا الجانب، مساهمات بعض الأنثروبولوجيين في هذا الحقل، وأذكر هنا ثلاثة كتب كانت لها بصمة مميزة. الأول كتاب الأنثروبولوجي الفرنسي فرانك ميرمييه «الكتاب والمدينة» الذي تناول طرائق تكوين قطاع النشر بعد الثمانينيات والمحيط المهني فيه، في بيروت على الأخص، والعالم العربي عموما.
أما الأطروحة الثانية فهي للأنثروبولوجية الإيرانية نيلوفر حائري «لغة مقدسة وناس عاديون» التي درست فيها حياة ثلاثة أجيال من المدققين في مطابع القاهرة. وأوضحت كيف أنهم لم يمارسوا دور التصحيح فقط، بل تحولوا إلى مشاركين أيضا في إنتاج النص الأخير، الذي بدا أحيانا مختلفا عن النص أو المخطوطة الأصلية. أما المقاربة الثالثة فهي للأنثروبولوجي ديل أيكلمان الذي درس دور انتشار الكتاب بين الطبقات الوسطى (سلطنة عمان) في إعادة تشكيل الفكر الديني. فالتوسّع في ظهور الكتاب والتعليم سمح لأبناء هذه الطبقة من الوصول مباشرة إلى الكلمة المطبوعة فبدأت المرجعية الدينية تهتز. ومن بين المقاربات الغنية والجديدة في هذا السياق، أشير إلى كتاب المؤرخ في جامعة شيكاغو أحمد الشمسي «إعادة اكتشاف التراث الإسلامي: كيف غيرت ثقافة الطباعة والتحقيق عالمنا الفكري؟» ترجمة عبد الغني ميموني، أحمد العدوي. والجديد في هذا الكتاب أنه يسير بنا إلى نقطة ظهور الطباعة في القرن التاسع عشر، وهو ظهور بدا متأخرا مقارنة بالعالم الأوروبي. وهناك روايات وتفسيرات عديدة لهذا التأخر لسنا بصدد الحديث عنها حاليا (مثلا رؤية المؤرخ التركي البر أوتايلي لدور ومكانة الثقافة الشفوية في تأخر ظهور الطباعة في إسطنبول). ومع هذه العودة سيكشف لنا الشمسي عن مشهد تلك اللحظة والمتمثّل في وجود مخطوطات وصائدي كتب أوروبيين يقومون بشرائها. ومع ظهور المطابع في مصر سيتغير المشهد قليلا في ظل اتجاه بعض المثقفين إلى طباعة بعض كتب التراث، قبل أن يأتي جيل آخر من هؤلاء المثقفين ليساهم بشكل أوسع في إعادة إحياء كتب التراث. بالأخص، في ظل أسئلة الإصلاح واللقاء بالغرب، الذي سيترافق هذه المرة أيضا مع ظهور مهنة المحقق.
واللافت في هذا الظهور، أنّ من سيقوده مثقفون من خارج إطار المؤسسة الدينية التقليدية، الذين يدعوهم الشمسي بـ»العصاميين» في إشارة إلى انفتاحهم على قراءة التراث دون وسطاء تقليديين. ومع هؤلاء ومن خلال المطابع يرى المؤلف، وهنا صلب الأطروحة كما نظن، سيتم التعرف على الشافعي والغزالي وابن خلدون من جديد.

تدفق الكتب نحو أوروبا

تبدأ قصة الشمسي مع موضوع الطباعة من المشهد الذي سبق ظهورها. ففي هذا المشهد نعثر على ثلاثة صور: الأولى صورة التعليم الديني في بدايات القرن التاسع عشر. ففي هذه الصورة نجد العلماء ومساعديهم يقرؤون النص على طلابهم، وفي أحسن الأحوال كان المعلم يدرّس طلابه متنا مختصرا في كل فن من الفنون، وهذا تقليد يعيده المؤلف لقرون سابقة. إلا أنّ هذا التقليد تحوّل في القرون الأخيرة (السابع عشر والتاسع عشر) إلى منهج موحد، يدور حول هذه المتون والشروحات المختصرة. مما أدى أن تتحول هذه الشروحات إلى نصوص تحلّ مكان النصوص الأصلية، ولذلك كانت نصوص الفقهاء والعلماء في القرون الإسلامية المبكرة تغيب في عالم المدارس الدينية. وهذا ما يلاحظه الشمسي مثلا من خلال قراءته في محتوى شمس الدين الأنباني (1824-1896) الذي شغل منصب شيخ الجامع الأزهر. فقد تضمنت مكتبته ستة وخمسين مؤلفا في العقيدة، منها ستة وثلاثون مؤلفا تدور حول سبعة متون تعليمية. كما نرى في مكتبة أبي الذهب في القاهرة، أنّ خمسة وثلاثين من مؤلفاتها السبعة والأربعين في العقيدة عبارة عن كتابات وشروح لثلاثة متون تعليمية فقط. وفي المقابل، فإنّ الكتب التي نعدّها اليوم العمود الفقري لمختلف التخصصات، مثل مؤلفات الأشعري والماتريدي والغزالي وابن تيمية، كانت غائبة إلى حد كبير عن هذه المكتبات. وهذا لا يعني عدم وجود نسخها في السوق، لكن يبدو أنها لم تكن بالعدد الكبير أو لم تكن متداولة بين العلماء وطلابهم.

تبدأ قصة الشمسي مع موضوع الطباعة من المشهد الذي سبق ظهورها. ففي هذا المشهد نعثر على ثلاثة صور: الأولى صورة التعليم الديني في بدايات القرن التاسع عشر.

الصورة الثانية من مشهد ما قبل الطباعة تتمثّل في دور بعض القناصل، أو ممن يدعوهم الشمسي بـ»صيادي» المخطوطات في نقل التراث الإسلامي عبر شراء هذه المخطوطات العربية. وقد كان يجري ذلك لأسباب شخصية، فغالبا ما كانوا من المستشرقين، كما كان باستطاعتهم تحقيق ربح كبير عند إعادة بيع هذه المخطوطات للمكتبات الثرية في أوروبا. ويعدّ يوخان غوتفريد فيتزشتاين 1815- 1905 مثالا جيدا على ذلك، فبعد دراسته للاهوت البروتستانتي واللغات السامية درس اللغة العربية في برلين، ثم عمل قنصلا لبروسيا في دمشق، بين عامي 1849 -1861. وخلال فترة عمله، اشترى أكثر من 2500 مخطوطة، باعها بعد ذلك للمكتبة الملكية في برلين ومكتبة الجامعة في توبنغن. كما رتب شراء جامعته في ليبتسج لمكتبة عائلة الرفاعي الدمشقية، التي كانت تحتوي على أكثر من 450 مخطوطة.

وتتمثّل الصورة الثالثة في وجود النسّاخ الذين لا ينسخون إلا الكتب التي يكثر الطلب عليها. والمفاجأة أنّ العلماء في هذه الفترة لم يظهروا اهتماما كبيرا بكتب التراث المتقدمة. ويعود هذا حسب الشمسي إلى دور المتون المختصرة من ناحية، وأيضا إلى دور الصوفيين، كما يعتقد، في خلق ثقافة لا تولي للمعرفة الدنيوية (الكتاب أهمية). وهذا ما يراه في حالة الشيخ عبد الغني النابلسي 1641-1731، الذي يفرّق بين أهل الكشف، المتوكلين على الله في معيشتهم، ومنتقدي وحدة الوجود عند ابن عربي، الذين يصوّرهم على أنهم متوكلون على المخلوقين في كسب عيشهم، وأنّ علومهم مستمدة من قراءة الكتب. وربما ما يسجّل على قراءة الشمسي هنا أن قراءته لدور الصوفيين السلبي بدت أحيانا تنطلق من فكرة إصلاحية إسلامية، إن صح التعبير، ترى في التصوف والمتصوفة سببا في التأخر، أو لنقل هذا ما قد يشعر به القارئ أمام حججه في هذا الجانب، بينما لا يولي مثلا لفكرة الكتاب في أحلام المتصوفين مكانة في قراءته، في حين يلاحظ أن رؤية الكتاب في المنام لدى المتصوفة لا تعبر عن شيء دنيوي أو سلبي بالضرورة، بل عن أمر إيجابي، وهو ما يذكره النابلسي بقوله: «الكتاب في المنام قوة، فمن رأى بيده كتابا نال قوة». وهو ما يعني أن المتصوفة ربما لم يقطعوا مع عالم الكتاب كما يوحي كلام الشمسي.

قدوم بولاق:

سيتغير المشهد مع قدوم المطبعة في زمن محمد علي، الذي أرسل نيقولا مسابكي السوري عام 1815 إلى إيطاليا لتعلم حرفة الطباعة. وبمجرد عودته إلى مصر بعد أربع سنوات، شرع في الإشراف على إنشاء مطبعة حكومية في بولاق في ميناء القاهرة، وكان أول كتاب طبع هناك قاموسا (إيطالي ـ عربي) في عام 1822.
ساهم هذا الأمر، بالإضافة إلى السماح للبعض بطباعة ما يرغبون في تحقيقه، في ظهور بعض الكتب من جديد ومنها «مقدمة ابن خلدون» 1857 وكتاب «ألف ليلة وليلة» و»دلائل الخيرات». ومما يُلاحظ أيضا في هذا التحوّل ظهور مهنة المصحّح أو المحقق، أو وفق ما تدعوه حائري بـ»مؤسسة التصحيح» الذي يقوم بالوصول إلى مسودات صحيحة والمطابقة بين المخطوطات. وهنا حاول الشمسي دراسة أسلوب بعضهم في تصحيح المخطوطات، وما بذلوه من جهود جبارة. لكنه لا يطرح بالمقابل أو يتوسع في السؤال حول طبيعة النصوص التي خرجت لاحقا، وإن كانت قد لعبت دون قصد دور نص آخر مختلف عن المخطوطة الأصلية (وهذا ما حاولت حائري دراسته في أطروحتها السالفة الذكر).
يلفت الشمسي نظرنا لنقطة مهمة، أنّ حركة الطباعة في العالم العربي تزامنت مع ظهور جيل آخر من خريجي المدارس الجديدة التي لعبت دورا في خلق اهتمامات جديدة لدى الطلاب، تتضمن الاطلاع على أعمال مترجمة من اللغات الأوروبية. إضافة إلى أنّها تشجع الطلاب على استكشاف كتابات تتجاوز تلك التي تدرّس في المدارس من أدب العصر الوسيط وغيره. وقد أبدت اهتماما بأدب العصر الوسيط وفكره. كما تميزت هذه المرحلة بصعود ظاهرة المجالس الأدبية التي أولت للعربية مكانة أكبر مقابل الفارسية والتركية، ما شجع على طباعة كتب التراث التي يمكن أن تتّخذ مصادر للغة العربية الفصيحة. ساهمت هذه العوامل وغيرها في ظهور نخبة جديدة من أمثال عبد الحميد نافع (ابن أحد أثرياء القاهرة) الذي تحوّل إلى صائد آخر للتراث، لكن هذه المرة من أجل البحث عن لغة عربية أسمى من اللغة السائدة في عصره، ولتكون أيضا مصدرا للمثل الجمالية والأخلاقية.
إعادة اكتشاف الشافعي:
ومن الشخصيات البارزة أيضا أحمد تيمور الذي شارك في مشروع لنشر كتب التراث العربي والإسلامي، بهدف طبع الكتب ونشرها. وقد ساهم هذا المشروع في نشر جزء من فقه الغزالي بسبب وضوح محتواه، ولأنه وجد في أسلوب الغزالي أسلوبا بعيدا عن أسلوب المتن المختصرة، ما يجعله سهل القراءة وفي متناول القراء غير المتخصصين عكس نصوص المناهج الفقهية (البحث عن المثقف العصامي). واللافت هنا أنّ الأشخاص الذين ساهموا في نشر كتب التراث لم يكونوا من خلفيات دينية، ولذلك يفضّل الشمسي وصفهم في أكثر من مكان في الكتاب بـ»العصاميين» في إشارة إلى دخولهم عالم المخطوطات العربية، دون المرور من بوابة المؤسسات التقليدية. والملاحظ هنا أنّ بعض علماء الدين أبدوا اعتراضا على تحقيق ونشر بعض كتب التراث مثل كتاب «الأم» للشافعي على يد أحمد الحسيني 1854-1914، وهو محام في الأساس. وتأتي المعارضة من باب أنّ الرجوع المباشر إلى كتب الشافعي المبكرة تجاوز فعلي لأسس التدرج في التعلم وللريادة الدينية.
وللمفارقة أنّ المثقف المسلم العصامي سيعود في فترة التسعينيات من القرن العشرين مرة أخرى. لكن هذه المرة ليس للكشف عن مخطوطات جديدة، بل لقراءة النصوص الدينية دون وسطاء، ما خلق، وفق جيل كيبل وأوليفييه روا، مشكلة السلفية الجديدة خلافا لنوايا وثقافة هؤلاء الإصلاحيين.
لكن هذا لم يعن بالمقابل عدم ظهور نخبة داخل الأوساط الدينية، ستلعب دورا كبيرا في نشر الكتاب والحثّ على تأسيس المكتبة. وهنا يدرس الشمسي عدة حالات منها حالة محمد عبده والشيخ طاهر الجزائري وجمال الدين القاسمي. إذ لعب الأخير دورا في تحقيق وطباعة عدد كبير من الرسائل والمخطوطات لمؤلفين بمن فيهم ابن سينا وابن عربي وابن تومرت والغزالي. وقد اعتمد في ذلك على شبكة واسعة من العلاقات مع علماء في تونس وأوروبا للحصول على المخطوطات الأصلية، وهذا ما كان له أثر كبير في إعادة اكتشف التراث من ناحية، وزيادة عدد الكتب والمطبوعات من ناحية أخرى.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com